نكهات شديدة الميكافيلية: على خطى القاص المبدع احمد ختاوي/ ابو يونس الطيب

في شوارع مدينة الضباب والاستذءاب  صرت ماديا كالتراب .. بين أحضان خالتي وأسهم شركاتها
 .. صفقتُ للميكيافلية يوميات طفولتي ..سقتني العسل المصفى ..لا عِتاب حين امْتطتْني كبراق في ليلة مقمرة  .. قطعت بي البحور السبعة من سيراف مرورا على  رأس الجمجمة ثم رأسا  إلى برج وول سترست العاجي ، حيث شجر الكافور وقطوفها الدانية والخيزران والقنا وانهار الجوهر والياقوت والدولار تتقاذفها شركات الفاسدين المتعددة المذاهب والمعتقدات .
 آه ..كم كنت أحمق وأنا ألوك فوضاهم وأتعمد التَّأْتَأَة في مخاطبة أسفل السافلين وادعي أمام الرعية من الفقراء والمحتاجين بأنها التي راودتني عن نفسها وأنها التي استغلت براءتي في عزلتها . 
أطلقوا لي العنان لأفعل ما أشاء ..لماذا  تتهموني بمعاقرة الأنانية وأنا على خطى المعتضد بن عباد وهو يطهر الزعماء بالحمام من الجنابة عنوة ويغرس فسائل الرؤوس بحديقته المزهرة ..ثم  ألم يكن "إخوان البنا " في شوراقراطيتهم ميكيافليون حتى النخاع مثلي .. اسألوهم لم يربطون أعناقهم هكذا مثل الرابع عشر ..قطعا ليس لتدفئه حلوقهم . .
 لا تعبث أيها الملتحي بربطة عنقك الحمراء وبصوت المآذن ..أفكارك مقتبسة من بقايا رماد "كتاب الأمير" من منفاه .. أسبل ثوبك ما شئت وطبل ما شئت فالدف حلال و الفوضى الخلاقة حلال ..والشوراقراطية حلال  ..
كن صوفي الشطحة إن شئت كن اشعري أو كن واصلا واعتزلهم 
لا يجدى أن يكون المرء شريفاً دائماُ ...فطبل ..بل وزمر ما شئت.
ها قد تملصتِ اليوم نواياي الحسنة وأوراقي الثبوتية من ثنايا ميكافيليتكم  في خمسينيتي وسقطت رأسا عند دلوك الشمس برحم قريتي القابعة على خطوات من ذاكرتي...لم أجد بين بقايا حيِّنا إلا مقهى عباس العذراء في شيخوختها .. كم أسفتْ وكم أسفتُ  لأشباه رجال في مقتبل العمر وهم يقفون على عتباتها يلملمون أشلاء عذريتهم بكبرياء مقهورة  يسدون آذانهم بذكاء هواتف الصين .
لم صفقتم أيها الجبناء للخرسانة وهي تغزوكم  في غفلة من الفقراء والزهاد لم صوتم بنعم حين اتخذ منها الميكيافليون الجدد وسيلة أتوا بها على الأخضر واليابس فالتهموا الحرث واعتقلوا نسل الفقراء والمساكين بين ضلوعها .. فقبعوا  من وراء نوافذها يتمتمون ,يتكاثرون ويلعنون بعضهم بعضا.. 
كم كان السفر من لندن إلى القرية متعبا .. وكم كانت نكهات الميكافيلية شديدة الاستثنائية وحادة القواطع والأسنان ..وأنا أتملص منها.
ارتميت في أحضان المقهى التمس أحضان أمي التي رحلت مفجوعة في ربيع وحيدها الخامس  .. 
تدْسُرُ أحجار الدومينو حركاتها الصاخبة كالبَحْر دَسْراً ..تنهك أَلواحُ الجسد تشعل حقيبة موزع البريد شيبا وهو يرتشف قهوته ويقرأ فنجانه مقلبا صفحاته الناطقة بالفواحش والموبقات السبع وأخبار  فيلا وهي تتراقص على تشوري وروزيتا الغانية على بعد عشر سنين دأبا تحرضهما على إغراء القمر ليلة بدرٍ والتزاوج في غياب وصي يحفظ حق فيلا المغتربة عن الأرض والكواكب وزحل.
 مسحت عيوني  الوجوه بحثا عن آثار مازالت عالقة في أغواري ربما لم تطلها الميكافيلية بعدُ ، كما لم تطل هذا الجزء الصغير من الكرة الأرضية المهدد بالغزو من جراد ايبولا  والديسيبتكون القادم من كوكب سيبرترون كما يُسِّر لي به ابني كل ليلة ...
عدت خائبا إلا من حروف معلقة تعلن أن المقهى للبيع وومضات من ضواحك القهوجي في بحثها عن بسمة ضائعة في وجهي الواجم وسط جلبة الزبائن و صَلْصَلَةِ الكؤوس والفناجين .
 القهقهة شدت انتباهي وصاحبها يتخلج عَشوْزَنُ المِشْية بين طاولات المقهى دونما وجهةٍ .. أطْلَسُ الثياب ركب الحَشَنُ شعر رأسه ولحيته المسترسل.. وهو يهز كيسا عَلاهُ الدَّرَنُ 
تقزّزت منه العيون سّاخرة... تهمز تلمز تنبز ترمز تغمز
نَقَّبَ عن أعقاب سجائر لا تزال فيها بقية من روح  نفث دخانها في حلقات تلاشت في كل زمان ومكان ..انزوي في ركن قصي , ورمى بحمله غير بعيد   ..
 لا يبدو انه يحمل بقية من عقل تكون قد تسربت بين ثنايا جنونه  إلى زاوية منفية لم يطلها مس الميكافيلية.
هيه ..هيه  ثلاث  أكواب شاي بالنعناع ...قهوجي ..
يدركه القهوجي ..."هاك محمد. ..قهوتك اشرب وطير "
رائحته النتنة عطرت المكان , اجتمع عليه  الأُفُّ والكَلَعُ..  وبانت أصابع رجليه قابعة خارج نعله البالي ترقص السامبا في بحثها عن المبهم كما أمعنت أنا البحث  عن القهوجي بين دفاتري المطوية المنسية وهو يردد الكثير من ذكريات  طفولتي ..
لا شيء يوقد الشمعة يا صاحبي والشمعة يخرجها المجنون قبالتي من كيسه .. يوقدها مبتهجا . 
أطفئوا أنواركم إن شئتم ..فالحضارة لن تدوم ..والبدائية ستأويكم كالصغار 
جئت لزيارة محمد ولد خالتي خيرة أسررت للقهوجي وهو يسألني عن سبب عودتي 
هو ذاك ..  هو ذاك... وأشار إلى المجنون قبالتي ...
اه ليت القارورة انفجرت في وجه الميكافيلية ليتها انفجرت في وفيهم وأبقت على "خالتي خيرة" ضرعي الذي لم ينضب وصدري الذي حواني سنوات وحماني من يتم أمومتي كانت أطول من عمري الميكيافلي بعد رحيل أمي .
سأكون أول عربي كابن فرناس ينْفُذُ إلى أقطار السموات رددها محمد مرارا ونحن نركب طائرات الورق المقوى.على مشارف القرية  حفاة نسابق الريح..
بخرت اللعينة بانفجارها كميات هائلة من الفيزياء كالميكيافلية وهي ترفع القوة إلى المستوى الأعلى في الوجود الإنساني  لتنفجر في وجه الرعاع والزُّهاد كلما تطاولوا في البنيان ولم يجنحوا للسلم المدني .
دنوت منه استجدي فيه طفولتي لكنه جخجخ وقهقه وظل يلهو بقمره ..... اتخذ الجنون وسيلة لأدراك قمة الانتشاء والقهقهة .. التمرد على العقل صورة ميكيافلية أخرى  ولا عبقرية دون ذرة من الجنون
"ابعدوا  هذا الكلب المسعور من المقهى..." 
صاح الحاج  بوزيان في غطرسة وهو يلوح متكئا على عصاه .
لابد أن الميكافيلية  طالته هو الآخر حتى النخاع فأضحى هتلريا  يفضل أن يخشاه الناس على أن يحبوه.  
يلتفت إليه القهوجي مستعطفا
"يشرب قهوتو و يحرخ يالحاج ".. في خاطر أمه خيرة الله يرحمها "
لعله يفلت  من مسه برهة مثلما تملصت أنا من ميكافيليتي .
حدثني يا صاحب الصبا .. أهزه ..
أتذكرني ..
يفتح القهقهة ..يكررها , يعانقها كالانفصام
 آه ..  أيها المُقَهْقِه لو تفتح لي ذراعيك لاستنشق رائحتك النتنة التي عطرت جنون الاشتياق فيَّ , حتما سأتخلص من ميكافيليتي  إلى الأبد .
آه.. لو كان بإمكاني الممانعة مثلك لحبست عقلي عن جنوحه وفمي عن أقاويله و انفي عن استنشاق الضحكات الصفراء الفاقع لونها المبعثرة في وجوه ضحايا الميكافيلية.
كل محاولاتي تحطمت على جدار غيبوبته الدائمة مازال يقهقه ..ينفث كثيف الدخان في وجهي.. و مازال نور  شمعته يسقيه البهجة ..وملامح خالتي خيرة الناطقة في ثناياه تسقيني حليب الأرض بنكهة النعناع .
فجأة صرت المفتوح على أبواب المتحركين في الأرض والماء...لملمت وجهي وقررت أن أجانب البراغماتية  في خيلائها 
لن ادع الحقيقية تغتصب عذريتي بعد اليوم لن تقرع نتانة إبطها مَنْخَري .. سأتجه صوبا إلى الأشياء الأخيرة . ليست سفاهة أن  تبحثوا مثلي عن العواقب فقط وفقط ..
أقسمت يمينا بطلاق بقايا الميكافيلية ثلاثا واشتريت المقهى ..منحتها للقهوجي صدقة لوجه الله جراء تحرري من عشقي ومن الأكل مِن تَعاقُرِ الأَعراب وأوصيته بالمقهقه خيرا .
كم ابتهجت حين مغادرتي والقهوجي يرمي بها كالمومس خارج مقهاه والمقهقه يقهقه قه.. قه.. قه.. قه.. قه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق