الحلقة الثانية
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
ودّعتك على أمل اللقاء بك وعداَ ، ووعد الحرِّ دينً عليه ، سأواصل المسيرة ، وهذا مشوار العمر أخيره ، ولو أن العين ضريرة ، لكن الذاكرة بصيرة ، ليست هذه بشكوى ، وإنّما هو التّحدي لأي نائبة من نوائب الدهر صغيرة كانت أم كبيرة ، ولعن الله كلّ من باع ضميره !!!
هذا " ذكرياتي" بين يدي ، قلبت ورقة الإهداء، فإذا بصورة الجواهري إبان مطلع شبابه تصافح عيني ، بجبته وعباءته ونحافته وعمّته ، واقفاَ باعتدال قامته الشامخة ، سابلاّ يده اليمنى على كرسي بجواره، وواضعا يده اليسرى عليها ، لا تبدو على ملامحه نظرات التحدي ، وتعبيرات التصدي ، وإن كان في شعره غيره في صورته ، مما يعطيك انطباعاً ، أن الرجل في الأصل طبعه الهدوء والسكينه والوداعة والألفة الطيبة ، والعلاقة الحميمة ، وما الثورة والتمرد والهيجان إلا حالات عابرة تنتابه بين حين و آخر ، إثر موقف جماهيري، وصدمة قوية ، أو عقبى انفعال شديد وحادث جلل ، وغالبا ما يسكبها شعرا مبدعا ،أو يكتبها نثرا رائعا ، وعندما يأتيه الإلهام الشعري " أشبه إلى الوحي" فيضاً ، ينعزل منفردا ، ويغضب على من يأتيه قاطعا ، حتى أنّ أروع قصائده ( يا دجلة الخير ) نظمها في ليلة براغية واحدة !! .
وقبل أنْ أقلب ورقة الصورة المعممة ، تأملت قليلا متسائلا عن سرِّ اختيار هذه الصورة من بين آلآف الصور التي أخذت له كشخصية شهيرة ، طيلة عمره المديد ، ألم يقل ذات يوم بحقها ؟! :
قال لي صاحبي الظريف وفي الكفّ ***ارتعاشٌ وفي اللسان انحبــاسه :
أين غــــادرتَ "عمّة ً" واحتفاظــــاً ***قلت : إنّي طرحتها في الكناسه
عضضت على شفتي ، وقلت ربما الأمر عابر ، وورد على باله خاطر ، لا بأس الصورة معبّرة و عابرة ، وله ما يشتهي ويتشهّى ، غلقت الكتاب ، فوقع نظري على غلافه الأخير ، فإذا بصورة ثانية للجواهري المعمم تحتله كاملاً ، وهذه المرّة واضعا نظارته على عينيه ، واقفا بشموخه المعتاد ، ويبدو أكثر هيبة ووقارا ، وأكبر عمرا ، قلت مع نفسي لآتصفح الكتاب ، فوجدت صورة ثالثة على الصفحة 173 تشغل حيزها تماما ، إذاً الأمر مقصود لرغبة نفسية جامحة عارمة ، تنطلق من اللاوعي المكبوت، وربما يدعمها وعيه بحدود ، ولا اعرف بالتأكيد ما كان يدور في مخيلته إبان طفولته المبكرة ، إذْ تتراكم العقد في العقل الباطن للإنسان ، فهل كانت العمامة لديه ترمزالى وقار أبيه ، أو علم جده صاحب الجواهر،أو جذور عائلته ، أم انّها تمثل عمائم عمالقة الشعر ، عمامة المتنبي العظيم ، وعمامة العبقري الخالد ابن الرومي ،وعمامة أبي العلاء الشاعر الفيلسوف العتيد؟ ولم أذكر عمامة الشاعر الشاعر الفنان المبدع البحتري ، لعلمي أنّ الجواهري يعشق شعر الأخير، لريشته الفذة ، وزجالته الرائعة ، ويكره شخصيته لإنتهازيته الفجة ، المهم لا يهمني كثيرا ما قال ، أو ما لم يقل الجواهري بهذا الشأن ! فانا لا أعيد " ذكرياته" ، وإنّما أسجل انطباعاتي على أعتابها ، ولكن بالتأكيد هذا التغيير في لباسه ، سيان لعمامته بطاقيته ، أوغترته - الوشاح الأبيض الطويل الذي ارتداه إبان فترة سجنه - أم لعباءته و جبته بطاقمه ورباط عنقه ... لا يعبرعن دهاءٍ سياسيٍّ ، ولا عن نفاق ٍ اجتماعيٍّ ، ولا هم يحزنون، لأن ببساطة القول الشاعر العملاق لم يخلق لهذه الأشياء ، فهو أكبر منها ، وأعرف بها ، والبيتان اللذان قالهما في مدح الملك فيصل الأول، ليشير فيهما إلى حسن تمرسه في السياسة ، و ألمعيته في الدهاء - وهما يحملان الضدين المدح والقدح - لا ينطبقان على الجواهري نفسه ، بأي شكل من الأشكال ، أو حال من الأحوال ، اقرأ معي وتمعن ! :
لبّاس أطوار ٍيرى لتقلب الأيّــــــــام ِ مُدّخراً سقاط ثيابِ
يبدو بجلبابٍ فإن لم ترضْه **ينزعْهُ منسلاً إلى جلبـابٍ!!
لم تفتني الأبعاد المجازية ، والصيغ البلاغية للبيتين ، كما تتوهم ، بل ألعب اللعبة نفسها ، رجاء تابع معي ، الرجل خلع عمامته ، لا كرهاً لها ، ولا سخطاً عليها ، ولا تخلصا منها ، وله أن يطرح صورتها المزيفة في الكناسة بجلسة عبثية ، وإنـّما ابتعادا عنها ، نشداناً لحريته ، وتكيفاً لبيئته ، واحتراماً لخلفيته ،وإلا فهي مخبؤة في دمه ، مزروعة في وجدانه ، فاعادها إلى مقامها ، وارجعها إلى هيبتها، متباهيا بها ، فهي الشعر وإصالته ، والتاريخ ومهابته ، والكلام وبلاغته ، هذا ما تقوله لي أعتاب " ذكرياتي" ، وإنْ خُفيت الأمور على الجمهور :
أجب أيها القلبُ الذي لستُ ناطقاً ***إذا لم أشاوره ولستُ بســـامع ِ
وحدّثْ فأنّ القومَ يدرونَ ظــاهراً ***وتـُخفى عليهم خافيات الدوافع ِ
وفجّر قروحاً لا يطـاقُ آختزانها *** ولا هي ممـــــا يتقى بالمباضعِ ِ
تلفـّتُّ أطرافي ألمُّ شتــــــــــائتاً *** من الذكرياتِ الذاهباتِ الرواجع ِ
تحاشيتها دهراً أخافُ آنباعثـها ***على أنّها معدودة ٌ مــن صنائعي
الآن قلبت ورقة الصورة ،ووصلت إلى ورقة تحمل عنوان ( المقدمة ) ، والبيتين الموجعين :
أزحْ عن صدركَ الزّبدا ***ودعهُ يبثُّ ما وجدا
وخلِّ حطـــــامَ مَوْجدةٍ *** تناثرُ فوقــــهُ قصَدا
البيتان من قصيدة ما بعدها قصيدة في الروعة !! فإنْ كانت (يادجلة الخير ) رمزالحنين والشوق ومناجاة الأوطان ، و(أخي جعفر) عنواناً لجرح الشهيد، ودم الثائر ...، أمّا هذه فهي منتهى صدق ما تبثُّه النفس البشرية من مكنونات أليمة مكبوتة ، تقطع نياط القلب ، بجرأة متناهية في عصر ٍلا يرحم ! قال عنها الجواهري نفسه هنا ( الجواهري ينتصر للجواهري ) ! وكتب إلى مجلة الديار اللبنانية ، التي نشرتها في عددها المؤرخ (15 - 21 أذار 1976) ، قائلا : " آخر ما لدي، ومن أعزُّ قصائدي إلي " ، حصل من خلالها الشاعر على جائزة ( اللوتس ) العالمية لسنة 1975م , فاقامت جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف حفلاً تكريميا له بالمناسبة ، وذلك مساء الخميس ( 2 / 11 /1975م) في قاعة الاجتماعات التكريمية ، وألقى الشاعر قسماً منها ، فعدد أبياتها (124) بيتاً ، فإليك عدّة أبيات ونعقب :
ولا تحفلْ فشــقشـــــقة ٌ**مشتْ لكَ أنْ تجيش غدا
ولا تكبتْ فمِــــن حقبٍ *** ذممتَ الصبرَ والجــلدا
أأنتَ تخافُ مـــن أحدٍ *** أأنــــــــتَ مصانعٌ أحدا
أتخشى الناسَ أشجعهمْ ***يخافك مغضبـــــاً حردا
ولا يعلــــــوكَ خيرهمُ *** ولستَ بخيـــــرهمْ أبــدا
ويدنو مطمحٌ عجـــبٌ *** فتطلبُ مطمحا بَـــــــعدا
ويدنو حيثُ ضقتَ يداً ** وضعتَ سدىً وفاتَ مدى
أفالآنَ المنى منــــــحٌ *** وكانتْ رغـــــــوة ً زبدا؟
وهبكَ أردتَ عودتــها ***وهبكَ جُهــــدتَ أن تجـدا
فلستَ بواجدٍ أبـــــــداً ***على السبعين مــــــا فقدا
صفق الجمهور هنا كثيرا ، ودعوا له بطول العمر، أريدُ منك أنْ تتساأَل معي، وتساعدني على الإجابة, لماذا كان يكبت الجواهري، ويصبر حتى ذمم صبره والتجلدا؟! وممنْ كان يخاف شيخنا فيصانعه حتى سكب لوعته مستنكراً حرداً على نفسه؟! ومن هو أشجع الناس الذي كان يخاف الجواهري إذا غضب؟! ومن هو خيرهم الذي لا يعلو شاعرنا منزلة ؟!!
والقصيدة طويلة ، ولا أريد أن يغلب شعرُهُ مقالتي، وينجرف القارىء الكريم معها ، ويتركني منفردا ، وينسى في غمرة النشوة لذة الفكرة ! ديوانه متوفر وافر ، والقصيدة من مجزوء الوافر ( مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) ، عروضتها صحيحة ، وضربها مماثل لها ، ويعتري أبياتها جوازات الوافر ، ومعظمها من زحاف القضب ، وهو حسن ، تتحول فيه ( مفاعلـَتن) الى ( مفاعلـْتن) ، بإسكان الخامس ، فتصبح التفعيلة (مفاعيلن) ، واختار الجواهري ، أو انطلق - على الأصح - من اللاوعي ، هذا - أو من هذا - البحر السريع المتلاحق - يأتي في المرتبة الثانية بعد الكامل في سرعته - لبث همومه المتراكمة كسيل جارف للأحقاد و الإعلام الزائف ، وما ألف إطلاق قافيتها الاّ دليل الشموخ والانطلاق للمارد العملاق !
أزحْ عن صدركَ الزّبدا***وهلهلْ صادحاً غردا
وخلِّ البـــومَ ناعبــــة ً ** تقيء الحقدَ والحسدا
بمجتمــع ٍ تثيرُ بـــــهِ *** ذئابُ الغابـــةِ الأسدا
بهمْ عــــــوزٌ إلى مددٍ ***وأنتَ تريدها مــــدد
ا
كفى من القصيدة مددا ، وبعد انتهاء الحفل العائلي النجفي ، والتكريم المعنوي ، وكعادة أهله الأصيلة ، ورفقته العريقة ، دهدى بيتين من الشعر، كأنهما عند سامعيه جوهرتان من الدرّ:
مقــــامي بينكمْ شكرُ **ويومي عندكمْ عمرُ
سيصلحُ فيكمُ الشـّعرُ** إذا لـم يصلح ِالعذرُ
ونحن نعتذرإليك،ونرجو أن يصلح الأمر ، ففي الإطالة مللٌ ، وفي الترقب أملٌ ، والجواهري لا يمُلُّ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق