الاحتفال الديني كان يتحول الى احتفال ومظاهرة ضد القيود العسكرية التعسفية، ينشد فيه ابناء شعبنا:
"يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح"
(انشر هذه المادة مرة أخرى بعد ان حصلت على المزيد من ابيات الشعر التي كانت تنشد في عيد البشارة في الناصرة والتي ارسلتها لي الباحثة في الغناء الشعبي الفلسطيني نائلة عزام – لبس، كذلك ادخلت تعديلات على النص بناء على ما وصلني من قراء عاصروا تلك الفترة)
أجواء
ارتبطت طفولة ابناء جيلي بواقع مليء بالقيود العسكرية والسطوة البوليسية. بقينا جزء من شعب تقطعت اواصره، فقد مؤسساته ، تمزقت عائلاته بين الوطن والمهجر. يعيش في مهب الريح لا يعرف ما يحدث غدا، الخوف من التهجير القسري ظل مخيما فوق مجتمعا، ليس مجرد حديث عن سياسة عنصرية وخطط صهيونية، انما خطر قائم وملموس.
عاني ابناء شعبنا من قلة العمل ومن منع التصاريح للخروج للمدن القريبة للبحث عن لقمة خبز. حتى في الفترة التي تخرجت فيها من الثانوية الصناعية ورغبت بالعمل قبل مواصلة تعليمي، كان من الصعب بمكان ان اجد مكان عمل اذا لم اكن محسوبا على حزب صهيوني ما او مرضي عني من السلطة . الوظائف بيد جهاز الحكم العسكري والمخابرات وزلم الأحزاب الصهيونية من المرتزقة العرب. هذا واجهته حين وجدت عملا في كيبوتس من كيبوتسات مبام في منطقة الكرمل ( شاعر هعمكيم) في مهنة الحدادة واللحام الكهربائي. بعد اسبوع من العمل جاء للمحددة عضو في حزب مبام من الناصرة، يسكن في حي الروم المشهور بأنه حي أحمر وهو نفس الحي الذي أسكن به واعرفه شخصيا. ذهب وتحدث مع المسؤول وهو يشير الي، بعد قليل حضر المسؤول وسألني: انت هو نبيل عودة؟ انت عضو في الشبيبة الشيوعية؟ كيف حصلت على العمل في الكيبوتس؟ اجبت اني نبيل عودة حقا، عضو في حركة الشبيبة الشيوعية اليهودية العربية، وصلت عن طريق قريب لي يعمل بالبناء... وآرائي السياسية والاجتماعية لا تقع بعيدا عن حزب مبام الاشتراكي الديموقراطي وطبعا لا علاقة لها بالحدادة ولحام الكهرباء!!
كنت اسما معروفا من كتاباتي الأولى في مجلتي " الجديد" و"الغد" الشيوعيتين وعضوا نشيطا في الشبيبة الشيوعية.
مع انتهاء يوم العمل قال لي المسؤول ان لا اعود غدا للعمل.
كانت تلك اول مواجهة لي مع سياسة الحرمان من العمل بسبب الانتماء السياسي.. ومن حزب يدعي اخوة الشعوب، بل ونافس في وقته الحزب الشيوعي على مقعد الكومنترن الشيوعي بادعائه انه هو الحزب الماركسي!!
اردت السفر الى حيفا للبحث عن عمل. وقفت ساعة ونصف الساعة بالدور للحصول على تصريح، دخلت غرفة الموظف العسكري بوجهه المتجهم، نظر الي نظرة فيها غضب، وهو يسال كانه لا يعرف سبب حضوري: "ماذا تريد؟". شرحت للموظف العسكري اني اريد تصريحا للوصول الى حيفا. سألني بنفس الفظاظة بالعبرية " ما همطراه؟ (اي ما الهدف) اجبت باقتضاب :الهدف البحث عن عمل. شعرت به يتردد ويتأملني بنظرات تخلو من اي تعبير انساني. ثم كتب لي تصريحا ليوم واحد من السابعة صباحا وحتى الخامسة عصرا، وان التزم بطريق الباص من الناصرة طريق مجدال هعيمق ( المجيدل العربية المهجرة) رمات يشاي( جيدة العربية المهجرة) طبعون، تل حنان ( بلد الشيخ العربية المهجرة) مفرق السعادة ("التشيك بوست" باسمه المعروف اليوم) والسفر من هناك الى المنطقة الصناعية خليج حيفا. وسُجل ملاحظة في قاع التصريح: ممنوع الدخول الى اي بلدة في الطريق ما عدا محطات الوقود والهدف من التصريح البحث عن عمل!!
عدت بخفي حنين
اراد والدي ان يثنيني عن اصراري للعمل في الحدادة وان اعمل مساعدا له في منجرته.
رفضت بشدة.
حصلت على تصريح لدخول حيفا. اول شيء قمت به ان خالفت التصريح وذهبت لشاطئ البحر وبللت قدمي بمياه البحر. رغم ان التصريح يمنعني من الوصول الى مدينة حيفا وفقط الى منطقة الخليج حيت تتركز الصناعة.
ثم احترت اين يمكن ان اجد عملا ؟
تجولت في شوارع حيفا بدون هدف وقرب وادي النسناس العربي رأيت مشغلا للخراطة. دخلته وسالت صاحب المشغل اذا كان يريد ان يشغلني عنده، فانا خريج ثانوية صناعية ، خراطة ،حدادة ولحام كهربائي. بلا تردد قال لي : حسنا تعال غدا. تلعثمت وانا اشرح له اني اريد تصريحا منه باني سأعمل لديه لكي احصل على تصريح من الحكم العسكري للوصول الى حيفا. كتب لي ما طلبت منه.
كان خوفي ان يسألني الموظف العسكري كيف دخلت مدينة حيفا بدون تصريح. لكنه لم يسأل ولا يتذكر كما يبدو من كثرة ما يكتب من تصاريح كل يوم..
بعد يومين بدأت العمل في محل الخراطة بحماس واصرار ان اثبت نفسي مهنيا.
اعجبه عملي وتعلمي السريع للعمل على مخرطة بخمسة رؤوس وهو ما لم نمارسه في تعليمنا الصناعي في المدرسة الثانوية الصناعية.
خلال اسبوع كنت ملما بكل تفاصيل العمل، بل وبات يترك المشغل لساعات طويلة ، ثم اعطاني مفتاحا للمشغل، شعرت بسعادة كبيرة بأني اصبحت عاملا مهنيا مسؤولا عن نفسي وعن العمل ، كان يكفي ان يعطيني برنامج وطلبات العمل ليوم وليومين ، ثم لأسبوع، ثم صرت اطلع على ما يتلقاه من طلبات ومواعيد انتاج وتسليم واصبحت مقررا في اولويات العمل...
هكذا بدأت حياتي المهنية.
كان اصعب ما في عملي ان احصل كل صباح احد على تصريح سفر الى حيفا لمدة اسبوع. اذ اضطر للتأخر عدة ساعات كل صباح احد ، سمعت مشغلي يشتم الحكم العسكري الغبي لأنه يخاف من شاب مثلي .بعد ستة اشهر اشتكى لي ان الطلبيات تقل.. وانه قد يضطر لإغلاق المشغل. بعد اسبوعين اغلق المشغل حقا.
مرة اخرى وجدت عملا في كيبوتس قريب من بيسان، ايضا تابع لحركة مبام. وصلته بتصريح كالعادة، سؤلت عن مجال عملي قلت اني متمرس في الخراطة، هذا جيد نحن نحتاج الى خراط مهني قالوا. سجل المسؤول اسمي ورقم هويتي، بعد ساعة ناداني بشكل شخصي واعتذر لي بأنه لا يستطيع قبولي.. لم اعرف من شاهدني من مرتزقة مبام العرب، او ربما فحص اسمي مع الأجهزة الأمنية؟؟
فيما بعد عملت حدادا في خليج حيفا واصبحت رئيسا لفرقة رغم صغر سني، كان الإصرار على التميز يعطيني قوة وارادة.. ويوجهني نحو النجاح في المهنة التي قضيت فيها 35 سنة من عمري لأصل الى مدير عمل في أكبر مصانع اسرائيل ثم مديرا للإنتاج يعمل تحت اشرافي مكتبا من عدد كبير من المهندسين وأكثر من 400 عامل وصاحب خبرة مهنية والمام هندسي متطور في بناء المنشئات الثقيلة خاصة منشئات تكرير النفط ، بناء محطات الكهرباء ، بناء شبكات تحلية مياه البحر، بناء مصانع انتاج الإسمنت وغيرها من المشاريع الضخمة، رغم اني لم اكن مهندسا، بل سافرت للاتحاد السوفييتي لدراسة الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وعدت للمهنة بعد عدم تيسر اي وظيفة مناسبة لي بسبب الجهاز الوظيفي الخاضع لسيطرة الحكم العسكري..
هذه مقدمة لإعطاء صورة عن واقع عشناه في سنوات مقتبل الحياة.. ولتمهيد فهم اجواء الحكاية التي سأرويها.. او الواقع الذي عانينا منه.
خلطة نصراوية
الناصرة مدينة المسيح كما تعرف، لها عيد خاص هو عيد البشارة، "عيد الناصرة" كما يسمى... حين، حسب القصة الدينية... بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم انها ستلد ابن الله يسوع المسيح.
لهذا العيد قيمة خاصة في الناصرة.. كان يجري الاحتفال البارز في كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس ، يحضر البطريرك الأورتوذكسي من القدس، عادة بعد الصلوات الرسمية يقام احتفال في ساحة الكنيسة الرحبة يحضره كل مواطني الناصرة من كل الطوائف، هذه هي ابرز قيم ذلك العيد واعياد الناصرة التي لم تعرف التفرقة بين مسيحي ومسلم. اصلا من كان ينتبه الى كون ذلك الشخص مسيحيا او مسلما؟ لاتينيا او كاثوليكيا او اورتوذكسيا؟ كنا ابناء وطن واحد منكوب ـ اعيادنا واحدة ، فرحنا واحد والمنا واحد..
كانت تعقد دبكة يشارك بها المئات، في وسط الحلقة سيافان من عائلة مزاوي النصراوية يرقصان بشكل فني بالسيوف .. وتتوارد قناني العرق خاصة من طيب الذكر اسعد كردوش (ابو اسحق).تفتح القناني ويخلط بعضها بالماء لتدور على الجميع، الجميع يشرب، واعني المسلمين والمسيحيين... والسحجة تصبح اكثر حماسية، السيافان يبدعان ب "القتال" الراقص .. والعرق يتدفق من كل النواحي.. ثم تبدا المسيرة من ساحة الكنيسة الى دير المطران (كنيسة القلاية) يتقدمها كشاف الروم الذي يضم شبابا مسيحيين ومسلمين يسيرون امام موكب المطران وضيفه البطريرك الي دير الروم في مدخل سوق الروم ، المسيرة التي بدأت كاحتفال ديني تتحول بدون مقدمات الى تظاهرة سياسية يطرح فيها المحتفلين هموم حياتهم ويعبرون عن غضبهم من الظلم والتمييز العنصري بأبشع صوره في تلك الأيام.. وخاصة القيود العسكرية التي تمنع التجول في وطننا بدون تصريح عسكري.
تبدأ الهتافات ضد الحكم العسكري.. وتنطلق الأهازيج الوطنية والزغاريد وتقام الدبكة التي يصطف فيها الرجال والنساء جنبا الى جنب... وتبدأ السحجة من ساحة كنيسة البشارة حتى مدخل دير المطران.. أكثر من 3 كيلومتر.. ويرقص المحتفلون بعيد البشارة ويطلقون اغاثة للعذراء مريم سيدة البشارة:
يا عدرا يا أم المسيح ارفعي عنا التصاريح
ستي يا عدرا نجينا من الحكم العسكري خلصينا
يا عدرا احمينا احمينا احنا ليكي التجينا ( أي التجأنا)
يا عدرا يا ام القدرة زتي العسكر لبرا
هذه بعض الأبيات التي أتذكرها. سالت كبار السن لعلهم يتذكرون، لكني لم اجد اكثر مما اعرف. وكانت مناسبة جمعتني مع السيدة نائلة عزام - لبس التي تهتم بالتراث الغنائي الفلسطيني ولها عدة اصدارات رائعة، سألتها ان كانت تعرف اغاني تلك المناسبة، بعد ايام فاجأتني بهذه المقاطع :
اول ما نبدا ونقول بالصلاة على البتول
يا شباب دادي دادي هاي العدرا بتنادي
يا عدرا احمينا احمينا واحنا ليكي التجينا
يا عدرا عليكي السلام وبعيدك يحلى الكلام
احمينا يا عدرا احمينا للزفة احنا جينا
يا عدرا يا ام المسيح شوفي شعبك عم بصيح
انت بنت بلادنا ابدا ما بتهملينا
بشوارعنا مشى المسيح وعلمنا الدين الصحيح
يا عدرا ليكي ليكي واحنا التجينا ليكي
يا عدرا يا ام النور ام الشامة والبخور
العدرا ام البشرية شفيعة المسيحية
الك يا عدرا السلام وبعيدك يحلى الكلام
مريم ام الطهارة مريم ام النصارى
الك برفع ايديي يا عدرا الناصرية
اسلام ومسيحية الكل بقول احمينا
طبعا هناك ابيات اخرى آمل ان تكتمل!!
بعد ان تفرغ قناني العرق ، التي لا تخلو منها السحجة والتي لها حصتها في الغزل مثل:
"اللذة مش من اول كاس اللذة بقاع القنينة"
وغيرها من أغاني الغزل بالعرق يبقى الهم الوطني...
ما بقي ان أذكره ان الشرطة لا بد ان تعتقل مساء بعض المتظاهرين الذين بحت اصواتهم وهم يهتفون ضد الحكم العسكري ويناشدون ام المسيح ان ترفع عنهم التصاريح!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق