منذ اعلان الرئيس الامريكي ترامب عزمه عن نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس
منذ اعلان الرئيس الامريكي ترامب عزمه عن نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الى القدس بدأ ينهال علينا سيل من تصريحات الشجب والاستنكار من قبل كل ممثلي الطيف السياسي العربي والفلسطيني. ورغم احالة الامر قبل ايام من قبل الرئيس ترامب الى الوزارات والجهات الامريكية المعنيه لدراسة إمكانية تنفيذ القرار وآليته بعد ان صوره ترامب للعالم بدايةً بان قراره حاسم لا تراجع عنه ولا تعديل عليه، وهذا بحد ذاته دلالة على شعبوية الخطاب الترامبي، لم ينقطع سيل الشجب والتهديد بانفجار جماهيري لم ترى المنطقة مثيلاً له.
السؤال الوجيه بهذا السياق هو: كيف يتعامل السياسيون الفلسطينيون والعرب مع الحدث السياسي اليومي؟ وما هي درجة مصداقية ومهنية هذا التعاطي وهذا الاداء؟
انا شخصياً اتفهم جداً صرخات الشجب والاستنكار التي أطلقها المئات من السياسيين العرب والفلسطينيين فوراً بعد توقيع ترامب على قرار نقل السفارة الى القدس. تفهمي لردة الفعل هذه نابع عن عدة عوامل:
اولا مركزيه مدينة القدس في الصراع الصهيوني الفلسطيني والتحدي الصهيوني للعالم وللقانون الدولي ومعاهدة جنيف بضم القدس في العام ١٩٨٠ وجعلها "العاصمة الابدية" لإسرائيل كما تمنى التيار الديني المتطرف.
ثانياً لما للقدس بمعالمها الدينيه الاسلاميه من مسجد الأقصى وقبة الصخره من موقع مميز عند مسلمي العالم.
عند متابعتي لردات الفعل على اعلان نقل السفارة الامريكيه للقدس خطرت بذهني بداية العديد من التسائلات وازدات علامات الاستفهام على مواقف العديد من السياسيين يوماً بعد يوم. وبعد التمحيص بالامر والبحث في اراشيف المعلومات والتفكير المتشعب حول كل ما يتعلق بقضية القدس تبين لي ان تصريحات السياسيين وشجبهم لفكرة ترامب، رغم تفهمي لهذا الشجب والاستنكار ودعمي لهما، الى ان هذه التصريحات لا تخرج عن إطار " الواجب السياسي" وردة الفعل المتوقعه التي تريد ان تسمعها الجماهير ليطيب خاطرها.
ردات الفعل الفلسطينية والعربيه الرسمية على نية نقل السفارة الامريكيه للقدس هي " فشة خلق" وتنفيسة عن غضب محتقن في قلوب الجماهير ولا علاقة للتصريحات السياسية وموجات الغضب على شاشات التلفاز بالواقع السياسي على الارض.
حال الامر ينطق بحقائق يجب علينا ان نواجهها ويجب علينا ان نأخذها بالحسبان عندما يتعلق الامر بالقدس ومستقبلها وعلينا ان نضع هذه الحقائق صوب اعيننا عندما نرى دموع التماسيح تذرف من عيون السياسيين العرب والفلسطينييين ونسمع نداح وعويل المسلمين على مصير" القدس الشريف":
1. قرار نقل السفارة الامريكيه الى القدس لم يكن قراراً قد اتخذه ترامب لوحده ، بل هو قرار قانوني صدر عن الكونغرس الامريكي في 8 نوفمبر 1995 ويطالب الرئيس الامريكي باتخاذ الخطوات اللازمه لنقل السفارة للقدس الذي اعتبرها القرار بأنها عاصمة اسرائيل الابدية. القانون يمنح الرئيس الامريكي إمكانية تأجيل تنفيذ القرار لستة اشهر. الرؤساء اللذون سبقوا ترامب بالبيت الأبيض كانو يوقعون مرسوم رئاسي يؤجل تنفيذ القرار.. وآخر مرسوم وقعه اوباما في نوفمبر 2016 ، اي انه ساري المفعول حتى ابريل 2017. الحقيقه المره ان الكل يتعاطى مع تصريحات ترامب وكأنها امر جديد لم يسمعوا به من قبل...وعندما ترى سياسيين، عرب وفلسطينيين، سكتوا عن هذا القرار الامريكي وتناسوه منذ اكثر من عشرون عام ويعتلون المنصات ليهددوا بانفجار الساحه ان قامت أمريكا بنقل السفارة!! هنا يتضح لك كبر الدجل السياسي وشعبوبية خطاب هؤلاء. في اراشيف الصحافة لا تجد الا تعليقات خجوله من فلسطينيين وعرب ومسلمين على إقرار القانون سنة ١٩٩٥. آنذاك كانت سلعة السلام رائجة وتباع على شاشات التلفاز بالمزاد العلني ولم يكن مجال لطرح سياسي استراتيجي واقعي بشأن الارض والشعب. الغاضبون اليوم، اصحاب الأصوات العاليه ، هم من سكت عن هذا القانون قرنيين من الزمن ولم يحرك ساكناً لدعم نضال اهل القدس وصمودهم.
2. منذ اعلان اسرائيل ضم القدس سنة 1980 ورفض مجلس الأمن "قانون القدس الإسرائيلي " اصدر قراره رقم 478 من 20 أغسطس (آب) 1980 ؛ حيث قال إن تطبيق القانون الاسرائيلي يعتبر خرقا للقانون الدولي. كذلك أعلن مجلس الأمن قانون القدس باطلا من الناحية الدولية ودعى إسرائيل إلى إلغائه من جانبه.ودعا مجلس الأمن الدول التي أنشأت سفاراتها لدى إسرائيل في القدس إلى إخراج السفارات من المدينة. جميع السفارات تم نقلها الى تل ابيب او مدن اخرى وبقيت سفارتي باراغواي وبوليفيا في ميفاسيريت تسيون التابعة اليوم الى الخارطة الهيكلية "للقدس الكبرى". في سنة 1984 اعادت كل من كوستاريكا والسيلفادور سفارتيهما الى القدس ولكنهما نقلتاهما ثانية الى تل ابيب سنة 2006. منذ هذا التاريخ والتعامل بمد وجزر. تشييد عمارة ما لسفارة حتى لو كانت امريكيه، لا يعني بأن القدس ضاعت واهلها تنازلوا عنها وان هذا القرار لا عوده عنه وان هذا الخطوة غير قابله للتعديل... مثال الدول اللاتينية الامريكيه الاربعه، رغم عدم وجود مقياس لدورهم السياسي مقابل دور أمريكا، الا ان هذا مثال واضح من واقع السياسه وعلينا ان لا نصور ان نقل السفارة الامريكيه سيكون نهاية المطاف!
3. م ت ف والسلطة الفلسطينيه آلتي ورثت عملياً وواقعياً منظمة التحرير الفلسطينيه، تطالبا بالقدس الشرقيه عاصمة لفلسطين. اي انها، السلطه، تعترف ضمنياً ان القدس الغربيه تابعة لإسرائيل ! ماذا اذا لو ان الولايات المتحدة الامريكيه قامت ونقلت سفارتها الى القدس الغربيه؟ او الى الضواحي المتاخمة لها والتابعة حسب الخارطة الاسرائيليه الى " القدس الكبرى" كما هو حال باراغواي وبوليفيا... كيف ستكون ردة فعل السياسيون الفلسطينيين والعرب؟!
4. في الخطاب الاسلامي السياسي يتم الكلام دائماً عن " القدس الشريف".. هذه المنطقه الجغرافيه تعادل حوالي 2 كم مربع! لا اكثر ولا اقل.. وهي تحيط الحرم الشريف! ماذا اذا عن باقي القدس؟ وماذا عن اهل القدس؟ في السياسية لا فهماً مجازي! ولا فهماً ضمني... كل ما تعنيه عليك قوله وكل ما تقوله عليك ان تعنيه! في هذه المعادله يتم اختزال القدس الى مربع صغير وكل ما خارج هذا المربع هو خارج حدود الأخذ بعين الاعتبار. بكلمات اخرى لو نقلت السفارة الامريكيه الى خارج حدود " القدس الشريف" سيكون هذا وفق معادلة وفهم الاسلام السياسي لمنطق الصراع، نصف مصيبه... المهم ان الأقصى وباحته لا تنتهك!
5. التطاول على السيادة الفلسطينيه، أرضاً وشعباً وخيرات، ليس بجديد.. عمره من عمر اغتصاب فلسطين وتشريد اَهلها بالقوه.. ما هو جديد ان التطاول اصبح، منذ قبول السلطة الفلسطينيه بمبدأ تبادل الاراضي، شبه شرعي. تبادل الاراضي هو جزء من التعاطي مع السياده. وهذا في القانون الدولي شأن الدول وحكوماتها التي تُخّٓوٓل من الشعب بالتعاطي مع السياده. السلطة الفلسطينيه بموجب الاتفاق الذي أتى بها، اتفاق اوسلو، هي سلطه إداريه فقط وليس سلطة سياديه. بكلمات اخرى لا يحق للسلطة ان تتصرف بالسياده على الارض.. قبولها بمبدأ تبادل الاراضي قبل ان تحدد اسرائيل حدودها اصلاً خطأ تكتيكي يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني غالياً وسيدفع المزيد لاحقاً. هذا الخطأ هو الذي اطلق العنان للمشروع الكلونيالي الصهيوني في القدس وفتح باب توسيع المستوطنات ومصادرة الاراضي واحتلال البيوت وتهجير اَهلها على مصراعيه... وان أتى الان رئيس أمريكي متصهين واراد ان يسري بمسار الكولونياليه الصهيونيه فهو لا يخرج عن السياق المتبع منذ اكثر من 25 عام. بل اكثر من ذلك، هو يستغل موقف فلسطيني لين مع موضوع الاستيطان وتهويد القدس ومدفوع ضمنياً بوضع فلسطيني داخلي مشرذم وضعيف على مواجهة الواقع.
6. الحقيقة السادسة التي علينا مراعاتها في هذا السياق هي ألوضع الفلسطيني الداخلي، خصوصاً فهمه الذاتي لنفسه السياسي.. كيف ترى النخبة السياسية الفلسطينيه نفسها وبأية مرحلة تتواجد؟ هل هي نخبة سياسيه تعمل على بناء مؤسسات دوله في مخاض التكوين والانشاء؟ ام ترى نفسها نخبه تقود حركة تحرر وطني من اجل تقرير المصير وتحرير الارض والشعب؟ معرفة حقيقة الذات وقدراتها اهم عناصر النجاح في أية استراتيجية يتم اتخاذها. السلطة الفلسطينيه تتكلم منذ سنوات على ان الشعب الفلسطيني ونخبته السياسيه أصبحت في مرحلة بناء مؤسسات الدوله.. ان كان هذا هو واقعنا والصف الاول في السلطة يوحي لنا بانفجار جماهيري كبير ان اقدمت أمريكا على خطوتها بنقل السفارة الى القدس والخطابات والتصريحات التي تابعناها على مدار الأسابيع الثلاثه الماضيه هي تحضير الأجواء لمثل هذا الانفجار، هنا يطرح السؤال نفسه عن مدى التحضير لمثل هذه الخطوة ؟ التحضير السياسي والتحضير النضالي لدعم صمود الجماهير! كيف ستتصرف السلطه ( التي تعتبر نفسها دوله) تجاه الدوله التي ستواجه شعبها؟ هل ستقطع العلاقات الدبلوماسية كاملة معها؟ هل ستبقي على التنسيق الامني مع المحتل وشعبها الفلسطيني يواجه جيش المحتل وقطعان المستوطنين كما فعلت في السنوات الماضيه اثناء الهبات المختلفة وأثناء الانتفاضه الثالثة؟ هل ستغلق السلطة اسواقها الداخلية امام السلع الصهيونيه وتدعم حركة المقاطعه فعلياً بعد ان تغنت كلامياً سنوات بهذا الدعم دون ان تجرأ على خطوات عمليه ملحوظة لدعم الكفاح الشعبي السلمي للاحتلال؟ هل ستقدم السلطه على خطوتين انتظرههم الشعب الفلسطيني منذ سنوات..أولاً بفرض سيادة فلسطين على ارض فلسطين؟ وثانياً، هل ستتجرأ السلطه للذهاب الى المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة قيادات العدو المحتل؟ اجوبة عديدة بقيت قيادات السلطة مديونة بها للشعب الفلسطيني في خطاباتها الناريه حول الانفجار القادم. وان انطلقنا من مفهوم اليسار الفلسطيني، الخجول، باننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني وان النخبة السياسية قائدة لهذه المرحلة وهذا النضال من اجل احقاق حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على ارضه المحررة.. هنا يطرح السؤال نفسه على هذه النخب؛ ما هو نسبة تحضيرها السياسي والنضالي الدفاعي لمواجهة الاحتلال ودعم انفجار غضب الجماهير في فلسطين المحتله؟ وبهذا السياق ايضا نطرح الديالكتك المعروف بان حركة التحرر تحتاج الى برنامجين: برنامج نضالي وبرنامج سياسي! نضال شعب من اجل الحرية دون برنامج سياسي هو طخطخة دون فائدة وبرنامج سياسي لحركة تحرر دون برنامج نضالي مدروس هو عبث في مصير الشعب. في انعدام برنامج سياسي واقعي براغماتي لعموم الحركة الوطنية الفلسطينيه يراعي الظروف الوطنيه السياسية والجغرافيه التي أصبحت واقع في فلسطين المحتله ودون مراعات التغيرات الاقليميه والعالمية التي عصفت وما زالت تعصف بالإقليم منذ ستة سنوات يصبح النضال دون هدف محدد وتذهب تضحيات الشعب وشبابه المنتفض في مهب الريح.
7. الحقيقة الاخيرة اخصصها للعالم الاسلامي والإسلامي العربي الذي يتشدق صباحاً مساءاً بالقدس الشريف والجهاد من اجل تحريره... وأسالهم؛ كم عملتم وماذا عملتم لدعم صمود اهل القدس في أولى القبلتين وثالث الحرمين؟ منذ عشرات السنين وانتم تتباكون وتشكون من الدعم السخي الذي تقدمه الحركات الصهيونيه لدولة الاحتلال وقطعان المستوطنين والملايين التي يدفعها رأس مالهم في أمريكا وأوروبا للاستلاء على الارض الفلسطينيه في القدس. نعم هذه حقيقه وهذا واقع.. لكن هل بالفعل رأس مال الصهاينه بالعالم اكبر من رأس مال المسلمين؟ وهل تعداد مليرداتهم اكثر من مليردات المسلمين؟؟ في العالم الاسلامي آلاف مؤلفة من اصحاب الثروات الهائلة والإحصاءات المختلفة تقول بان تعداد المليارديرات المسلمه مئات المرات اكثر من تعداد الميليارديرات الصهيونيه بالعالم. ولو تناسينا هذه الطبقه الاجتماعية وركزنا على ان المسلمين سنوياً يصرفون حوالي 600 مليون دولار على الأضحية في موسم الحج فقط دون الأخذ بعين الاعتبار مئات الملايين الاخرى التي يتم صرفها على الأضحية في العالم الاسلامي إجمالاً... مبلغ نستطيع به دعم صمود الخمسين الف عائلة فلسطينية في القدس المحتله ، امام مشاريع تهويد القدس، لسنوات.. وانا على يقين تام بان ايمان المسلمون بالخالق لن يتزعز ان تنازلوا سنه واحده عن طقوس الأضحية. وان غضينا النظر عن هذا الامر وأخذنا بالحقيقه ان بالعالم حوالي 1,3 مليار مسلم ... لو افترضنا ان لجان الزكاة والتي تعد بمئات الألف بالعالم الاسلامي او لجان القدس وما أكثرها، عملت على إقناع وتجنيد 2% من المسلمين ( اي 26 مليون مسلم) بالتبرع على مدار سنه واحدة كل يوم بدولار لصيانة القدس من التهويد لجمعنا مبلغ يتجاوز 9,5 مليارد دولار لأهل القدس لدعم صمودهم امام المحتل الصهيوني . هذا هو الفكر البرغماتي الواقعي الذي به نواجه العنجهية الصهيونيه والخطط الامبرياليه للحفاظ على القدس وعروبة القدس وقدسية القدس بعيداً عن البكاء والصراخ والعويل الذي عودنا عليه الخطاب الاسلامي العدمي منذ سبعين عام.
في النهاية بقي ان اكون صريح معكم وأقول باني اتمنى ان يكون الجميع على حق: نعم ان يكون الصهيوني بتمنياته بان تنقل الولايات المتحدة الامريكيه سفارتها الى القدس على حق وان يكون العالم شاهد على ان ما يقوله ترامب يفعله وان يكون السياسيين العرب والفلسطينيون الذين صرخوا واستنكروا ويتنبأوا ، على حق بان المنطقه سترى انفجار جماهيري لم تراه المنطقه بتاريخها ..لنرى كيف ستقف هذه الأنظمة العربيه المتهلهلة اما غضب الجماهير ومن منها سيصمد امام هذا الغضب العارم ومن منها سيلقى بنفسه على مزبلة التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق