لم أتوقع أنني سأقف مجددًا أمام ثلاثة قضاة في محكمة العدل العليا الإسرائيلية لأطالبهم بإلغاء أمر الاعتقال الإداري الصادر بحقه من قبل قائد جيش الاحتلال.
لقد بلغ الستين من عمر توالت سنينه كالموج يعانق العاصفة ويتمنى شاطئًا ينام في أحضانه، فعندما أفرجت عنه سلطات الاحتلال في مطلع عام ٢٠١٦ خرج عازمًا على تعويض أفراد عائلته عن غيابه عنهم قسريًا لأكثر من خمس عشرة سنة قضاها في السجون الإسرائيلية.
اسمه محمد جمال نعمان علاء الدين النتشة، أبو همام، ربما يتذكره بعضكم لأنني كتبت في الماضي عن انتظاره الصبور على شرفة أحلامه، الأشهى من عنب الخليل، رغم معاناته التي بدأت عندما اعتقلوه إداريًا أول مرة سنة ١٩٨٩لمدة عام تلاها اعتقال آخر في العام ١٩٩٤ ثم حُكْم في سنة ٢٠٠٢ لمدة ثمانية أعوام ونصف بعد إدانته في محكمة عسكرية كقيادي كبير في حركة "حماس" ومسؤول عن عدة نشاطات وأعمال "عدائية ومعادية".
في عام ٢٠٠٦ انتخب وهو أسير، عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني المعطل منذ ذلك التاريخ.
لم تنته القصة بعد أن أمضى محكوميته كاملةً، فقوّات الأمن أبقته وراء القضبان لمدة عامين إضافيين بأوامر اعتقال إدارية متوالية، وبحجة أنه يشكل خطرًا على أمن وسلامة الجمهور. تساءلت، في حينه، أمام قضاة المحكمة العليا، كيف يمكن لأسير قضى أكثر من ثمانية أعوام في السجن أن يشكّل خطرًا، لا سيما إذا علمنا أن مصلحة السجون قد وضعته، في آخر أربعة أعوام، في العزل التام، فحُرم من زيارات عائلته التي كانت اصلًا متعثرة، ومُنع، كذلك، من لقاء زملائه الأسرى.
تم الإفراج عنه مع نهاية العام ٢٠١٢، ليبقى حرًا لمدة ثلاثة شهور فقط، أعيد بعدها إلى السجن بأوامر اعتقال إدارية جددت تباعًا لمدة ثلاثة أعوام نفد آخرها في العاشر من شباط عام ٢٠١٦، فأطلق سراحه وهو صامد كالنسمة- رغم ما أصابه من مرض يعرف أعراضه من عانوا وعورة الطريق إلى ستينهم، ويعيشها أكثر كل من ذاق برودة الزنازين وحرقة الدمع في المآقي عندما يزورهم في الليالي طيف قمر يشكو وحدته والجوى، أو يسمعون نوح حمامة محمّلة لواعج أحبة وشكوى قلوب تنتظر صدرها الحنون لتنبض كالنبع.
في الثاني من تشرين الأول المنصرم، وقبل أن يكمل عامًا من عمر فجره الجديد، اعتقلوه مرّةً اخرى. قائد في جيش الاحتلال كتب مبررًا أمر اعتقاله لمدة ستة أشهر، بأن محمد جمال علاء الدين يعمل على دفع نشاطات حماس قدمًا ويساعد في ترويج أنشطة إرهابية من خلال علاقاته الواسعة مع قياديين حمساويين في منطقة الخليل وبأماكن أخرى، وذلك من غير ذكر تهمة واحدة على الأقل أو أي بيّنات يملكونها ويعرضونها لتعزيز ادعاءاتهم التي ينفيها هو جملة وتفصيلا.
قاضيا المحكمة العسكرية في معسكر "عوفر" رفضا جميع ادعاءاتي؛ فأوّلهم ثبّت الأمر مشيرًا إلى أنه إطّلع على ملف سري يدعم موقف قائد الجيش، والثاني، قاض في محكمة الاستئناف أكد أنه سينام مطمئنًا لأن قرار الاعتقال غير مجحف، فما قرأه في الملف السري يكفي لرفض استئنافي والإبقاء على موكلي وراء القضبان.
وصلت إلى المحكمة العليا ساعةً قبل الظهر ودخلت القاعة الثالثة التي كانت تغص بالمتقاضين والمتفرجين الجالسين على المقاعد، ويتقدمهم، على مقعد خاص، رهط من المحامين الغاطسين في عباءاتهم السوداء، ويبدون من الخلف كسرب من طائر البطريق. على وجه بعضهم علت علامات تعب يلازم بالعادة أصحاب مهنتنا، بينما تحرّك آخرون على كراسيهم "كحاقنين" ربما من خشية على مصير قضيتهم أو رهبةً لأنهم ما زالوا يواجهون هذه المحكمة وقضاتها بفائض من تبجيل وخوف.
قبل دخول القضاة بلحظات يُحضر ثلاثة من حرس مصلحة السجون موكلي ويقعدونه في منصة خاصة بالمتهمين. يحييني من بعيد رافعًا يده وببسمة لا تغيب عن وجهه الذي لم يكن كما ألفته من قبل، فحمرة خديه بهتت ومكانها برز شحوب خفيف، بينما حافظ نوره على بريقه، لكن عينيه كانتا أصغر من عيني خليليّ جميلتين، وعلى بؤبؤهما غلب وسَن وبقايا سهر وشوق. حاول أن يقاوم إرهاقه ويطمئنني فأخذ كفي بيده وضغطها كما يفعل الشباب، فبدد قلقي، ووقف فصار كالرمح بقامة يغار منها الصبح.
على اليمين تجلس قاضية بصعوبة أرى رأسها، فلقد أرخت جسمها حتى غاب معظمه تحت المنصة وأبقت لنا صفحة من وجهها ونظرات لا تشي بأي مشاعر أو تأثر كوجه لاعبي البوكر المحترفين. كنت ألحظ من حين لآخر انفراجًا دقيقًا عند طرفي شفتيها لم أفهم إذا كانت تلك علامة رضا منها أم اشمئزاز، فما كنت أقوله بصوت كان أقرب لتأديب شيخ لطلابه في الكتّاب لم يكن مريحًا لهم، ولذلك تعمّدت أن أهمل النظر إليها، وأكمل مرافعتي وكأنني أخاطب السماء.
كنت أعرف القاضي الذي جلس على يسار المنصة، فلقد بدأ حياته المهنية، قبل عقود، متدربًا في قسم محكمة العدل العليا في وزارة العدل، وهناك تقاطعت طريقانا، فهو كان يمثل ويدافع عن الدولة ومؤسساتها واحتلالها، وأنا مثلت المظلومين من أبناء شعبي ودافعت عن حقوقهم المسلوبة وضد الاحتلال.
لقد صار قاضيًا في المحكمة العليا وفي رصيده جنى انتصارات الغاصبين على شعب أثخنته الجراح وأدمته الخيانات وأرهقته المؤامرات، أما أنا فصرت كهلًا وفي رصيدي خرير الخسارة الجارية في ساحات القضاء، فهو ينام وضميره متساوق أو قد يكون متصالحًا مع ما تبتغيه مصلحة النظام وتفرضه بنادقه، وأنا أنام وضميري متصالح مع ما تهمس به الزنابق ومرتاح من دعوة أم حزينة تتمتم على الملأ : "ألله يخليك ويحفظك يا بنيّي إنت وولادك وعيلتك".
في الوسط تجلس رئيسة الهيئة. ترفع قامتها بتظاهر وترفع فوقها رقبة بثقة وترفع فوقها رأسًا بتحدّ وفي وسطه تطلق عينين وتوجههما صوبي كخيط ليزر. تباشرني بتحية، لا أذكر مثلها في الماضي، فتخفف وطأة جفاف مزمن بيننا وتظهر رغبة بسماعي.
أحاول أن أكون لطيفًا، لكنني مع كل واقعة كنت أؤكدها في تاريخ معاناة موكلي، كان يزداد صوتي حدة وينفلت من لجامي حصان الغضب. "ماذا يريدون منه؟ سبع سنين يعتقلونه من غير تحقيق وبلا تهمة وبدون محاكمة عادلة"، أسألهم ولا أنتظر جوابًا، فقاطعتني قائلة:
"لكن قاضيين في هيئتين قضائيتين عسكريتين قررا رفض موقفك".
لم أنتظر كي تكمل فكرتها واندفعتُ صارخًا:
"لقد نصحتكم مرارًا أن تستبدلوا تلك المحاكم العسكرية، وتنصبوا مكانها مجموعات من الروبوتات ثلاثية الفتحات، واحدة لتودع النيابة العسكرية فيها طلبها لاعتقال فلان إداريًا وملفه السري، وثانية ليلقي فيها الدفاع مرافعته الدونكيشوتية العبثية، والثالثة لتقذف منها القرارت الروبوتية المكرورة الممجوجة الصفراء التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة".
حاولت القاضية إسكاتي فبرأيها أنني تماديت. رفضت موقفها وأصررت على أنها الحقيقة والواقع، فالقضاء العسكري هو "القدر" وعدله "كعدل" المقاصل وهي تهوي على رقاب الأحرار الأبرياء .
متى سيتوقف النزيف في حياة موكلي؟ وكيف لمن عبر عتبة خريفه أن يأوي إلى شتائه سالمًا ومطمئنًا؟ ماذا عليه أن يفعل كي لا يعتقل مجددا من دون تهمة أو تحقيق أو محكمة؟
لم أتوقع منهم جوابًا فلو أرادوا لما سمحوا، منذ البداية، لكل هذه العتمة أن تملأ فضاءاتهم ولو نووا لما أجازوا كل هذا الظلم. فضد موكلي ومثله عشرتان من الشخصيات أو أكثر تمارس سياسة مصممة وتستهدف أرواحهم الجوّانية، فهناك من يريد نزع رغبتهم بالحياة، ولو كان مسوّغًا استهدافهم بصاروخ لفعلوا، لكنهم يعرفون أن لا مبرر لذلك، فقرر من قرر قتل إرادته وتعطيل حريته وشلّها، عساه يجنّ أو يركع أو يطلب الرحيل. قلت فسمعوا، جلست فصمتوا.
أفرغوا القاعة منا ومن الجمهور، وبقي ثلاثة قضاة ورجال أمن وملف سحري سري. نصف ساعة كانت كافية لتحقيق الخسارة المؤكدة. كتبوا قرارا لم يتجاوز الثلاثة أسطر وفيه كرروا، وليس كالروبوت، بل بما صار لديهم لازمة لأناشيد القهر ولمارشات العدل غير العسكري: "عاينّا مواد مخابراتية مكتومة، وسمعنا شروحًا من قبل رجال الأمن المتواجدين في القاعة، واقتنعنا أن لا مكان لتدخلنا في قرارالقائد العسكري، وبأن الملتمس مشبوه بالتورط في دفع نشاطات حماس وأنشطة تروج للارهاب.. وعليه نرفض الالتماس".
لم أفاجأ. كان محمد ينظر صوبي ويبتسم وعلى وجهه حمرةً لم ألحظها في بداية الجسلة، بقي أمامهم كالرمح.
قرأتْ قرارهم بدقيقة أو أقل، أنهته وهي تنظر إلي بنظرة لا تشبه نظرات المنتصرين الأقوياء. نظرت صوبها فشعَرتْ بغضبي، وشعرت أن نظرتها كانت أقرب إلى نظرة المتعذرة أو المهزومة، فهي وبعض زملائها بدأوا يذوقون طعم الخسارة وكيف تشعر الضحية قبل الهزيمة.
لم يكن لدي فسحة لأفهمها أن من برر لخمسة عقود جريمة الإحتلال وسوّغ قمعه لن يأمن مستقبل أولاده في دولة لن تكون "طبيعية"، ومن اختار أن ينام وضميره متصالح مع فوّهات البنادق ودردبة البساطير سيفيق حتمًا على قعقعة الشنان واصطكاك أسنانه.
غادرت المحكمة ولم أجد أحدًا أحدثه عن وجعي وسؤالي المزمن: متى سيتوقف الفلسطينيون من التظلم أمام ظلّامهم؟ متى؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق