أكملت القائمة المشتركة سنتين من عمرها في الكنيست، ولقد مرّت الذكرى بهدوء لا يلازم، بالعادة، وهج السياسة وضعف المتعاطين فيها أمام المنصات وميلهم الدائم للعبث برذاذ الاحتفالات خاصة تلك السعيدة عندهم؛ فباستثناء مقالة بعنوان "عامان على المشتركة" كتبها النائب د. يوسف جبارين، (عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة) لم تلتفت الأقلام ولا المواقع الإخبارية أو مراكز الأبحاث والدراسات إلى حلول هذه المناسبة، ولم تجر محاولات لتقييمها بشكل جدي، ولا حتى من قبل مفكري الأحزاب الشريكة في تركيبة القائمة نفسها وقيادييها.
معظم من تطرقوا إلى هذه التجربة أشادوا بها، وأكدوا أن عدم تفكّك القائمة يشكّل بيّنة قاطعة على ضرورتها ونجاحها، ودليلهم في ذلك،ما توقعه، قبل عامين، المشككون في نجاعة إقامتها وتمناه "الأعداء" لها من سقوط مدو وفشل حتمي بعد انتهاء المعركة الإنتخابية، ولقد أضافوا وأبرزوا، علاوة على صمودها وبقائها مشتركة، حقيقة تحوّلها إلى "ممثل شرعي ووحيد" للمجتمع العربي في البلاد، وفرض ذاتها، بهذه الصفة، على مؤسسات الدولة وداخل أروقة الكنيست ومختلف لجانها، وعلى قطاعات واسعة من المجتمع الدولي.
من دون التقليل بأهمية ما ذكروه يبقى الاقتناع بأن النجاح، على عكس ما توقعه المتشائمون والعاذلون، في المحافظة على مبنى القائمة ونشاط أعضائها البرلماني بدرجة تنسيق متوسطة ومتأرجحة، برأيي، ومن دون حدوث صدامات مكشوفة بينهم وفاضحة، غير كاف ليعد وحده مسطرة حقيقية لقياس وتقييم تسويغات بنائها في الشروط والصيغ المؤسسة، ولا لاستمرار عملها وفقًا لنفس الآليات والنهج المتبعين حتى أيامنا، فكي تتحول هذه التجربة إلى رصيد ذي قيمة في صناديق صمود الجماهير ومعلمًا على الطريق الصحيح الموصل إلى بر الأمان يجب أن تستعرض أكثر من التشفي على طريقة الشرق، وتعكس ما أنجزته من مكاسب ملموسة لا غبار عليها ولا خلافات.
وقبل الحديث في ما على القائمة وما لها أود التأكيد على ضرورة رفض تهجمات قادة إسرائيل وأحزابها على القائمة المشتركة وأعضائها، فانقضاضاتهم وتحريضهم السافر والدائم يندرج ضمن مساعيهم لنزع الشرعية عن قيادات ونضالات الجماهير العربية، كما ويبقى اتهام نواب المشتركة، من قبل تلك الجهات، بأنهم يؤثرون العمل في قضايا وطنية فلسطينية وعربية عامة ويهملون العمل من أجل مصالح ومشاكل الجماهير العربية، إدّعاءً باطلًا ومستفزًا، واجتراره من قبل أبواق عربية محلية لا يحلّيه ولا يضيف عليه "حمرة" لا تعرفها الوقاحة ولا يألفها المتعاونون ولا الشذوذ أو الجحود.
في ذات الوقت، لن يحجب صراخ هذه الحناجر المغرضة صوت الغيورين الذين ينتقدون، وبحق، من حين لآخر مواقف القائمة المشتركة وقراراتها، ولن يلغي محاولة البعض، الجادة والمسؤولة، وضع مجمل التجربة تحت مجهر الفحص والتدقيق رافضين الاكتفاء، بعد مرور عامين عليها، بما عرض على عجلة بعد رفع نسبة الحسم للنجاح في الانتخابات، كمسلمات "وطنية وقومية" لا تقبل التأويل ولا التفنيد، ومتسائلين، أحيانًا، حول صحة بعض الشعارات الملتبسة التي ملأت فضاءاتنا فجأةً، وصارت، مثل شعار "الشعب يريد قائمة مشتركة" كتميمة علينا أن نتقبلها اقتداءً "بالوطنيين" بيننا وإلّا شذذنا عن السراط وانحرفنا عن حكمة السرب أو خسرنا الأمن المشتهى في مسالك القطيع! فكيف اكتشفت، بين ليلة و"ليبرمانها" الأحزابُ والحركات المتنافسة على مقاعد الكنيست الذهبية إرادة الشعب وإصراره؟ وكأن هذا الشعب لم يكن موجودًا قبلما ارتفعت عتبة الكنيست التي صار القفز عنها وتجاوزها أصعب من القفزة عن جبل القرنطل.
على جميع الأحوال مرّ عامان وشهدنا فيهما ما يكفي لوضع عدد من الخلاصات الأوليّة؛ فالقائمة المشتركة حاولت فقط، في أحسن الأحوال، الحد من تدهور الأوضاع، وعلى الغالب كان عدم النجاح حليفها، فهي، لقصورها في وضع رؤىً سياسية واضحة توحّد جميع مركباتها وتمكّنهم من إفراز برامج عمل كفاحية طموحة وواقعية، غدت غير مؤهلة لمواجهة وتغيير سياسات الدولة والتأثير عليها بشكل فعلي وملموس، بل صار اعتمادها على الشعارات وسيلة مستسهلة وشائعةً، وردات فعلها على سياسات الحكومة كانت، في معظم الحالات، خالية من الدسم السياسي الباقي في الأرض والمؤثر.
لست ضد القائمة المشتركة بديلاً سياسيًا مرغوبًا وكآلية عمل نضالية يستوجبها الحضيض الذي وصلنا اليه وعمق الهوة التي يدفعنا باتجاهها قادة إسرائيل، لكنني مقتنع أنه وإن كانت تلك اللحظة التاريخية كافية لإعلان المشتركة كما أعلنت، فاستمرار وجودها بقوالبها الحالية، سيبقيها مجرد جهاز تنسيقي هزيل وغير كاف، هذا علاوة على الوهم الذي تصدّره بوجود قوة جبارة تضخها الوحدة في عروقنا، بينما الحقيقة ليست كذلك، تمامًا كما في حالة بعض أبطال كمال الأجسام الذين يحقنون بوجبات من المنشطات الكيماوية "الستيرويدات" لنفخ عضلاتهم بشكل خرافي فتبدو أجسامهم مهيبة، في حين يكون مفعول هذه المواد قاتلًا على باقي أعضائهم الداخلية الحيوية، فنحن نشهد، في ظل هذه الوحدة، كيف حُيّدت المؤسسات التنظيمية في معظم الأحزاب والحركات السياسية وأصاب بعضها خدر المرحلة التوافقية وخمرة الوحدة المسكرة، فغابت عن حياتها حمأة المنافسات الحزبية وضجيج صراع السياسات على وعي الجماهير العريضة وأفئدتها.
إنني على قناعة بأن كثيرين مثلي يعون النواقص والسلبيات الخطيرة التي رافقت إقامة القائمة المشتركة وتلك التي لازمت عملها ونتجت عن ممارساتها؛ بعض هذه الجهات والقوى قد يسعى لإقامة أحزاب جديدة وقد تشكل هذه المبادرات تحديًا للقائمة المشتركة ومستقبل وجودها، أو عساها تتحول إلى محفزات تجبرههم على الارتقاء بتجربتهم وتوقفهم عن الاستكانة إلى قِصر "نظر الجماهير"، والاعتماد على "قلة مروة" النخب ومفاعيل التأثير الجماعية المدنية والسياسية القائمة في مجتمعاتنا.
أتمنى أن يكون هذا ما قصده النائب جبارين عندما أنهى مقالته مصوبًا سهامه "نحو تعددية أكثر في قائمة موحدة أكثر" مع أنه لم يرشدنا إلى كيفية تحقيق تلك الأمنية، ولا كيف سينجح هو وزملاؤه بتهذيب المحاور الثلاثة التي أشار إليها وعرّفها كشواغل يجب أن تعالجها وتواجهها القائمة المشتركة قريبًا؛ فكيف يمكن صياغة معادلة تجمع بين القومي والمدني من خلال رؤية عملية مشتركة سيكون سقفها ما تتيحه الكنيست الإسرائيلية؟ وقد ينفع التذكير هنا برفض توقيع القائمة عند تأسيسها على اتفاقية فائض أصوات مع حزب "ميرتس" اليساري الصهيوني حتى عندما كان ثمن رفضها فوز اليمين بمقعد إضافي، وها هي تجدد اليوم رفضها للتعاون مع "ميرتس" مبدئيًا، في حين يعتبر حزب النائب يوسف جبارين ورفاقه "ميرتس" ومثيلاتها شركاء ضروريين في جبهة العمل ضد قوى اليمين وحلفاء يجب السعي لضمهم من أجل مواجهة زحف العنصريين والفاشيين.
إنها مسألة مبدئية وليست مجرد خلاف تكتيكي يمكن التجسير عليه بمط قاسم القائمة المشترك وتفادي الصدام عليه، تمامًا مثلها مثل قضية اختلافهم حول من يكون خيمتنا وسندنا ونحن في ساحات نضالنا المحلية، فمنهم من يستظل بحراب أردوغان ويعتبرونه حامى الحمى وسلطان الحق الأعظم، ومنهم من يصطحب بشارّا كأسده ومنقذه في هذه الغابة الحمقاء، وآخرون يرون ببوتين حجابًا يدرأ عنهم كل الشرور، وغيرهم يستدفئون بما تدره الصحراء وأمراؤها من نعم وأنعام ومفكرين.
لم يُفهمنا أحد كيف ستتصدى القائمة المشتركة لآفة العنف المستشري في قرانا ومدننا وبعضنا يعرف كيف توحش هذا الغول بيننا بعدما أغمضت الدولة عيونها وصمت آذانها، وعندما غابت الأحزاب عن فضاءاتنا ونكست الكرامة النضالية والسياسة أعلامها وانحنت أمام الرايات البيضاء وعصيها، وصار الشعب ينتظر رحمة السماء ورضا وكلائها على الأرض وحمايتهم.
من سيوقف هذا النزيف وكل يوم يكتب الرصاص آيات نصره في شوارعنا وعلى أجساد النساء وهن يقتلن باسم شرف القبائل والحمائل ذاتها التي يحج إلى دواوينها القادة الذكور طمعًا بالمعونة والعزوة وألدعم المسمى مجازًا وطنيًا!
في تصوري لن تتحقق نبوءة الوحدة المتكاملة المنتجة لقيم النضال الحقيقي من دون تغيير في مفاهيم التعاقد ومضامينه ولأسفي أراهما عامين آخرين بلا تغيير يذكر؛ فالوحدة غاية غايات الضعفاء لكنها لن تسعف جراحهم وتضمدها إلا إذا حيكت على الأصول وسيّجت بجدران سياسية متفق عليها وقادرة على تأمين خطوط دفاع كفيلة ليس للبقاء فقط ولردات الفعل العابرة إنما للتأثير وتغيير مرارة الواقع، فعساكم، إذا فعلتم ذلك، تعيدون أصالة "الضاد" لنضالاتنا وسحر المعاني لشعار الأوّلين: " في الأتحاد قوة" .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق