الحنين إلى الوطن
الإنسان كائن اجتماعي بالطبع ، يحاول الاستقرار ، والتشبث بالأرض التي يعيش فيها ، يحرثها ،ويبذرها ، ويستسقي السماء لزرعها ، ويبني فيها مستقراً له ، ويأنس لمن هو حوله ، ومنحه الله العقل ، ومن العقل الذاكرة ، فترتسم الأشياء المادية والمعنوية في ذهنه ، ويربط بينها ربطاً جدلياً ...ثم يسرع بكبح جماح الفوضى من حياته ، ويبذر في كل جانب منها بذورالعلم والمعرفة والغناء حتى يصبح الجو والغلال والحيوان والإنسان أرق حاشيته ، فتتضاعف لديه مشاعرالحب والخير والنفع (1). وما الجو والغلال والحيوان والإنسان إلا هبة الله على الأرض ، والتعلق بها ، وبما حولها ، غريزة طبعٍ ٍ جبلَ عليها هذا الإنسان ، وذلك الحيوان .
والعرب من أقدم الأمم تعلقاً بالأرض ، وحب الديار ،وذكرى حبيب ومنزل ، وأبصر الشاعر البدوي ما حواليه ، فامتزج به امتزاجاً قوياً ، فوصفه وشمل بوصفه البلاد أرضاً وسماء :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ***بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وان شفائي عبرة مهراقــــة *** فهل عند رسم دارس من معول
والمنزل ليس له قيمة وجدانية ، إذا لم يرتبط مع من يأنس إليه الإنسان ، فتتشابك الذكريات ، وتتراكب العلاقات ، وتمتزج امتزاجاً وجدانياً يصعب انفكاكها، وإلا فالطبيعة قد جادت بما هو أجمل بكثير من هذا المنزل ، او تلك الأطلال ، فما وجهة امرى القيس غير (فاطم ) ، وما مراده إلا هي :
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّلِ***وإن كنت قد أزمعت هجري فاجملي
أغرك مني ، ان حبك قاتلي*** وأنك مهما تأمري القلب يفعل
ولا أراك تنسى المجنون ، وهو يهيم بدار ليلي وجدرانها ، يلثم الأعتاب ، ويقبل الأطلال ، وما مقصده الحجارة ، وإنما ليلى، وأسراره:
مررت على الديار ديار ليلى ***أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا
ويعيد إلينا أبو تمام هذا الترابط والحنين المتنامي في اللاوعي لكل الأهل والخلان ، فالسكن :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى*** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدا لأول منزلِ
ثم يتطور هذا العشق الوجداني من مناجاة الأطلال والمنزل إلى دائرة أوسع , ليشمل حب القرية أو المدينة والسكان معا ، فالترابط الاجتماعي أساس الوجود الإنساني ، وتطوره نحو الأفضل.
أقول يتسع إدراك الفرد من الخاص إلى العام تبعاً لثقافته وحضارته ، فإبان عزّ الحضارة العباسية ، لم ير ابن بغداد أجمل من بغداده مصراً، ولا أبدع من دجلتها نهراً ، ولا أعذل من روحائها جواً ، ولا أروع من ناسها خلقاً ، ولكن الأيام تدور بما لا تروم الأنفس ، والرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، فعندما حاصر طاهر بن الحسين ، وهرثمة بن أعين بغداد سنة 197-198هـ ، لنصرة المأمون على أخيه الأمين ، ودكت عاصمة الرشيد دكاً ، وهدمت دورها ، وخربت ساحاتها ، وماتت حدائقها ، وقتل رجالها ، وانتهكت أعراضها ، ورميت عاصمة الخلافة بالنفط والنيران ، والمناجيق والعرادات ، لقتل المقبل والمدبر ، قال أحد فتيان ببغداد ، كما يورد الطبري في تاريخه :
بكيت دماً على بغداد لمّا *** فقدت غضارة العيش الأنيقِ ِ
تبدلنا هموماً عن سرورٍ *** ومن سعة تبدلنا بضيق ِ
أصابتها من الحساد عين ***فأفنت أهلها بالمنجنيقِ
فقوم أحرقوا بالنار قسرا *** ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي وا صباحاً ** وباكية لفقدان الشقيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا *** متاعهم يباع بكلّ سوق
ومغترب غريب الدار ملقى ** بلا رأسٍ بقارعة الطريق(2)
الشعر على بساطته يجسد هول المصاب ، وعمق المأساة ، واستمر الحال ، وزادت النكبات ، وتراكمت الهموم ، واغرورقت العيون ، لم تعد بغداد بترفها ، ولا دجلة بخيرها ، ولا الدنيا على حالها ، انقلبت الأمور ، وحلت الدهيماء ، أي عين أصابت بغداد الأمس البعيد ، وحتى بغداد الأمس القريب , فالتاريخ يعيد نفسه , والأيام تدور لتلتقي بداياتها بالنهايات , ولا يدري ابن بغداد أين هو من عمر الزمان؟ إن كان للزمان عمر ، وأصل وفصل !
وقد عبرعمرو بن عبد الملك العتري الوراق عن الحالتين ، بعينين دامعتين قائلاً :
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ِ**** ألم تكوني زماناً قرة العين ِ
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم *** وكان قربهم زين من الزين ِ
صاح الغراب بهم بالبين ,فافترقوا * ماذا لقين بهم من لوعة البين ِ
أستودع الله قوما ما ذكرتهم *** الا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ,ففرقهم دهر , فصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين(3)
ترى أن الشاعر يفزع لما أصاب بغداد المنكوبة ، وما بغداد إلا بأهلها وسكانها...وما أشبه الليلة بالبارحة ...يا بغداد يستبيحك السلاطين ، ويهتك حرماتك الأشرار ، ودائماً يعجز الإنسان عن فهم الأسباب ، أو يتناسى ، فيلعن الزمن ، ويغلق المحن ، وأحياناً يدرك الحقائق الموضوعية ، ويفقه أن الصراع المادي ، والنزعة الأنانية ، والجهل المركب ، وراء كل تخريب وفساد ودمار :
أرى درراً تصان على أناسٍ *** وأخلاقاً تداس فلا تصانُ ُ
يقولون الزمان به فسادٌ *وهم فسدوا ، وما فسد الزمانُ
ومهما يكن من أمر ، فما من امرىء بتارك وطنه إلا تحت ظروف قاهرة ، يكون فيها تحت خيار الموت أو الحياة ، فيقول الوراق العتري نفسه بنفس الحصار والدمار :
ولست بتاركٍ بغداد يوماً *** ترحل من ترحل او أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ** نبالي بعد من كان الإماما
اذاً هو ليس بتارك بغداد ، إذا ما ساعده العيش فيها ، ولا يبالي من يكون الخليفة من بعد ،فالسلطان سلطان بأي زمان ومكان ، فكم يعاني هذا الشعب المغلوب على أمره من جور وظلم الطغاة وقسوتهم جراء الصراع على السلطة حتى لو كانت بين أخوين ، هما المأمون والأمين ، تنكب بغداد ، وتهدم بيوتها على رؤوس ساكنيها ، فلا كأن هارون الرشيد - وهو والدهما - جلس على عرشها متنعما هو وبنوه ، وأمامه المنصور النمري يخاطبه شعراً ، بأمر من السيدة زبيدة ليقول :
ماذا ببغداد من طيب الأفانين *** ومـــــــــــن منازه للدنيا وللدين ِ
تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت*** وجوّشت بين أغصان الرياحين ِ
رحم الله المظلومين ، ولله أمر الظالمين ، وما الحساب ببعيد ، وإن غدا لناظره قريب !!
_____________________
(1)ممثلوا الانسانية : لوالف والدإمرسن
(2) تاريخ الطبري-ج8-ص456-457 المصرية.
(3) المصدر نفسه-ص447
(4) تاريخ بغداد -للخطيب ج1ص 21
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق