مَنْ ذا أصابكِ يا بغدادُ بالعينِ/ كريم مرزة الأسدي

 الحنين  إلى الوطن

الإنسان كائن اجتماعي بالطبع ، يحاول الاستقرار ، والتشبث بالأرض التي يعيش فيها ، يحرثها ،ويبذرها ،  ويستسقي السماء لزرعها ، ويبني فيها مستقراً له ، ويأنس لمن هو حوله ، ومنحه الله العقل ، ومن العقل الذاكرة ، فترتسم الأشياء المادية والمعنوية في ذهنه ، ويربط بينها ربطاً جدلياً ...ثم يسرع بكبح جماح الفوضى من حياته ، ويبذر في كل جانب منها بذورالعلم والمعرفة والغناء حتى يصبح الجو والغلال والحيوان والإنسان  أرق حاشيته ، فتتضاعف لديه مشاعرالحب والخير والنفع (1). وما الجو والغلال والحيوان والإنسان إلا هبة الله على الأرض ،  والتعلق بها ، وبما حولها ، غريزة طبعٍ ٍ جبلَ عليها هذا الإنسان ، وذلك الحيوان . 

والعرب من أقدم الأمم تعلقاً بالأرض ،  وحب الديار ،وذكرى حبيب ومنزل ، وأبصر الشاعر البدوي ما حواليه ،  فامتزج به امتزاجاً قوياً ،  فوصفه وشمل بوصفه البلاد أرضاً وسماء :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل  ***بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وان   شفائي  عبرة   مهراقــــة *** فهل عند رسم دارس من  معول

والمنزل ليس له  قيمة وجدانية ، إذا لم يرتبط مع من يأنس إليه الإنسان ،  فتتشابك الذكريات ، وتتراكب العلاقات ، وتمتزج امتزاجاً وجدانياً يصعب انفكاكها،  وإلا فالطبيعة قد جادت بما هو أجمل بكثير من هذا المنزل ،  او تلك الأطلال ،  فما وجهة امرى القيس غير  (فاطم ) ،  وما مراده إلا هي :

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّلِ***وإن كنت قد أزمعت هجري فاجملي
أغرك مني ، ان حبك قاتلي***  وأنك  مهما    تأمري    القلب يفعل

ولا أراك تنسى المجنون ،  وهو يهيم بدار ليلي وجدرانها ، يلثم الأعتاب ، ويقبل الأطلال ، وما مقصده الحجارة ، وإنما ليلى، وأسراره:

مررت على الديار ديار ليلى ***أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا

ويعيد إلينا أبو تمام هذا الترابط والحنين المتنامي في اللاوعي لكل الأهل والخلان ، فالسكن :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى*** ما الحب إلا للحبيب الأولِ 
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه  أبدا    لأول منزلِ

ثم يتطور هذا العشق الوجداني من مناجاة الأطلال والمنزل إلى دائرة أوسع , ليشمل حب القرية  أو المدينة والسكان معا ، فالترابط الاجتماعي أساس الوجود الإنساني ،  وتطوره نحو الأفضل.

 أقول يتسع إدراك الفرد من الخاص إلى العام تبعاً لثقافته وحضارته ، فإبان عزّ الحضارة العباسية ، لم ير ابن بغداد أجمل من بغداده مصراً، ولا أبدع  من دجلتها نهراً ، ولا أعذل من روحائها جواً ، ولا أروع  من ناسها خلقاً ، ولكن الأيام تدور بما لا تروم الأنفس ،  والرياح تجري بما لا تشتهي السفن ، فعندما حاصر طاهر بن الحسين ، وهرثمة بن أعين بغداد سنة  197-198هـ ، لنصرة المأمون على أخيه الأمين ،  ودكت عاصمة الرشيد دكاً ، وهدمت دورها ، وخربت ساحاتها ، وماتت حدائقها ، وقتل رجالها ، وانتهكت أعراضها ،  ورميت عاصمة الخلافة بالنفط والنيران ،  والمناجيق والعرادات ،  لقتل المقبل والمدبر ،  قال أحد فتيان ببغداد ،  كما يورد الطبري في تاريخه :

بكيت دماً على بغداد لمّا *** فقدت غضارة العيش الأنيقِ ِ
تبدلنا هموماً عن  سرورٍ *** ومن  سعة   تبدلنا   بضيق ِ
أصابتها من الحساد عين ***فأفنت   أهلها     بالمنجنيقِ
فقوم أحرقوا بالنار قسرا ***  ونائحة  تنوح  على غريق
وصائحة تنادي وا صباحاً **  وباكية   لفقدان     الشقيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا  *** متاعهم  يباع  بكلّ  سوق
ومغترب غريب الدار ملقى  ** بلا رأسٍ  بقارعة الطريق(2)

الشعر على بساطته  يجسد هول المصاب ،  وعمق المأساة ،  واستمر الحال ، وزادت النكبات ، وتراكمت الهموم ، واغرورقت العيون ،  لم تعد بغداد بترفها ، ولا دجلة بخيرها ،  ولا الدنيا على حالها ،  انقلبت الأمور ، وحلت الدهيماء  ، أي عين أصابت بغداد الأمس البعيد  ،  وحتى بغداد الأمس القريب , فالتاريخ يعيد نفسه , والأيام تدور لتلتقي بداياتها بالنهايات , ولا يدري ابن بغداد أين هو من عمر الزمان؟  إن كان للزمان عمر ،  وأصل وفصل ! 

وقد عبرعمرو بن عبد الملك العتري الوراق عن الحالتين ،  بعينين دامعتين قائلاً :

من ذا  أصابك  يا بغداد     بالعين ِ**** ألم تكوني زماناً قرة  العين ِ
ألم يكن فيك   قوم    كان مسكنهم   *** وكان قربهم زين من الزين ِ
صاح الغراب بهم بالبين ,فافترقوا  *  ماذا لقين بهم من لوعة البين ِ
أستودع  الله   قوما   ما   ذكرتهم *** الا تحدر ماء العين من عيني
كانوا  ,ففرقهم   دهر   , فصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين(3)

ترى أن الشاعر يفزع لما أصاب بغداد المنكوبة ، وما بغداد إلا بأهلها وسكانها...وما أشبه الليلة بالبارحة ...يا بغداد يستبيحك السلاطين ، ويهتك حرماتك الأشرار ، ودائماً يعجز الإنسان عن فهم الأسباب ، أو يتناسى ، فيلعن الزمن ، ويغلق المحن ،  وأحياناً يدرك الحقائق الموضوعية ، ويفقه أن الصراع المادي ،  والنزعة الأنانية ،  والجهل المركب ،  وراء كل تخريب وفساد ودمار :

أرى درراً تصان على أناسٍ *** وأخلاقاً  تداس  فلا   تصانُ ُ
يقولون  الزمان  به     فسادٌ  *وهم فسدوا ، وما فسد الزمانُ

ومهما يكن من أمر ، فما من امرىء بتارك وطنه إلا تحت ظروف قاهرة ، يكون فيها تحت خيار الموت أو الحياة ،  فيقول الوراق العتري نفسه بنفس الحصار والدمار :

ولست  بتاركٍ بغداد  يوماً   *** ترحل من ترحل او أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا **  نبالي بعد من كان الإماما

اذاً هو ليس بتارك بغداد ، إذا ما ساعده العيش فيها ، ولا يبالي من يكون الخليفة من بعد ،فالسلطان سلطان بأي زمان ومكان ،  فكم يعاني هذا الشعب المغلوب على أمره من جور وظلم الطغاة وقسوتهم جراء الصراع على السلطة حتى لو كانت بين أخوين ، هما المأمون والأمين ، تنكب بغداد ، وتهدم بيوتها على رؤوس ساكنيها ، فلا كأن هارون الرشيد - وهو والدهما -  جلس على عرشها متنعما هو وبنوه ،  وأمامه المنصور النمري يخاطبه شعراً  ،  بأمر من السيدة زبيدة ليقول :

ماذا  ببغداد  من  طيب  الأفانين *** ومـــــــــــن  منازه للدنيا  وللدين ِ
تحيي الرياح بها المرضى إذا نسمت*** وجوّشت بين أغصان الرياحين ِ

رحم الله المظلومين ، ولله أمر الظالمين ،  وما الحساب ببعيد ، وإن غدا لناظره قريب !!

_____________________
(1)ممثلوا الانسانية : لوالف والدإمرسن
(2) تاريخ الطبري-ج8-ص456-457 المصرية.
(3) المصدر نفسه-ص447
(4) تاريخ بغداد -للخطيب ج1ص  21

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق