بائعة الاعشاب/ نزار حنا الديراني

مجموعة قصصية
جمعت كل ما يربطها بالماضي من ذكريات مؤلمة وصعدت بها الى قمة البرج لتنصب عدستها الكبيرة وتوجهها الى حيث الشارع لتنتقي ما يناسبها في دائرة مغلقة رسمتها لكي تحصر فيها شخوصها، وتُسقط عليهم ما يمر من امام عينيها من مشاهد سينمائية كانت خلايا ذاكرتها قد سجلتها بأمانة لتمتزج مع الواقع وتصنع منها قصص جميلة كي تدغدغ القارئ وتستفيقه من نومه العميق . .. هذه القصص التي تشبه البانوراما تتحرك مشاهدها وتسحبك الى حيث أعماقها وتعيش معها وتستخلص منها العبرات ... هذا ما فعلته القاصة اللبنانية حنان رحيمي في مجموعتها القصصية ( بائعة الاعشاب ) الصادر من الدار العربية للعلوم ناشرون والذي تجمع بين دفتيها 13 قصة  في 160 صفحة ...
في البداية أثار عنونة المجموعة القصصية (العنوان هو لاحدى قصصها ) حاضنة المنطق الفلسفي لدي لمفهوم العشب الذي يشير دائما في الميثلوجيا العراقية الى فكرة الخلود لفاعلية العلاقة الكونية بين القصص والواقع المرير الذي نعيشه اليوم بحيث اصبحت هذه الاحداث خالدة الى يومنا لانك تراها اليوم وكما خزنتها في ذاكرتك بالامس ... أن هذه العنونة تشير إلى مدى تعلقها، بأشتغالات إشكالية السؤال الفلسفي حول الوجود الانساني وخصوصا حين يتعلق هذا الوجود بمدى ديمومة السلوك الانساني تجاه الاخر لذا اختارت صورها القصصية من تداعيات الرؤيا للاحداث التي لا تزال تمثل دقائق الحياة والوجود فتنبري القاصة من جانبها  لتكفكف دموع شخوصها التي تستمر الى ما لا نهاية في قرائها وكأنها قد تغذت من ذلك العشب لتكون خالدة ، ولان من عناصر القصة القصيرة هي وجود صراع لذا نراها تقيم حواراتها ( التي استقتها من ذكرياتها وهي في نزاع مرير ) من خلال التداعيات التي تشمل في مركباتها الوجود والموجود فيتشظى هذا الصراع الى حيث الداخل ، الا ان هذا الصراع غير مفتعل لانه تراه ونراه يوميا في الشارع ، لذا تثير هذه القصص الترقب والتلهف عند القارئ لمشاهدة نهاية الحدث ...
بمتابعة متأنية لتجربة القاصة حنان رحيمي القصصية، نخرج بانطباع، أن الخامة التي تصوغ منها القصة، هي الهم الأنساني، لترتقي به الى لعبة تبادل الأدوار بين الواقعي المرير والمتخيل القادر على انقاذ القيمة الانسانية من الزوال والنسيان .. وأسلوبها في الكتابة تبدأ من النهاية ، أي خلاصة الحاصل ومن ثم تعيد بك نحو البداية من خلال شريطك الذكرياتي .. وهي تستطرد في تلا فيف قصصها الى أن تصل الى الذروة ( العودة الى النهاية من جديد ) حيث تزاوج بين بنيتي الماضي والحاضر لتثور على كل شئ وتعلن في صراعها الخفي معادلتها الحياتية من روح الحدث لتسجل له موقفا ذاتيا ينبع من احساساتها ومشاعرها التي تتشكل في اقنوم الانسان. هذا الشكل يمنحنا فرصة التشوق اثناء القراءة ويستدرجنا بالأضافة لما نحن فيه من حالة تعاطف مع الصوت المعذب في القصة ، الى تعزيز رغبتنا في التضامن التام مع بطل القصة لذا تجد القص في هذه القصص متدفق وسلس .
ففي قصتها ( سرقوا صوت أمي ، غربة وغريب ، بائعة الاعشاب ، ابو حجر ...) لا يزال المشهد هو هو ، تاريخنا ملىء بالمآسي الى حد سرق منا احلامنا جرّاء ماضي ارهقه الحروب والصراعات وحاضر يسير على وجع الفقراء والبائسين وهي ترى بأم عينيها ، الكثير من الامهات والعذراوات والشباب في بلدها قد قدموا من بلدان اخرى تعمل في بيوتهم ليوفروا لقمة العيش وحيث جشع الاغنياء جعلهم ان ينظروا الى الاخر كونه حشرة ليس الا .. كما الحال لملايين من ابناء شعبها المنتشرين في بلدان المهاجر ...
وفي قصتها (ابنة المطر) لا يزال المشهد يتكرر وحيث ظواهر الطبيعة احيانا تقف عائقا امام الرغبات وحيث اصبح المظهر الخارجي ما يشغلنا كثيرا ... وهل اختفت الاسباب التي تدفعنا دوما للبحث عن الانفصال العائلي وحيث الطلاق يتكاثر بسرعة جنونية في عالمنا لتتناوله في قصتها ( ساستعيد دمي ) او البحث عن الهوية الانسانية للانسان وحيث الصراع اصبح قوتنا اليومي لاثبات الوجود ( قصتها الكف الاسود ، حكاية رماد ) ... اما في قصتها (عنتر زمانة) فالأنسان في هذه القصة يعيش الوجود المزيف حيث ينفصل الشخص عن اختياراته الذاتية وإمكانياته الخاصة، ويصبح تابعاً لإرادات الآخرين، فيسقط في حالة الاغتراب التي ينعزل فيها عن ذاته ويتحول وجوده إلى شيء غريب عنه، كل هذا فلا يزال المشهد نفسه وحيث البشر اصيحوا كدمى تحركهم الايادي الغليضة من وراء الستار .
وهكذا في قصتها ( من الطريق الى الطريق، مقبرة الاحياء ) فالحياة اليومية على سبيل المثال تفرغ الذات من وجودها الحقيقي، وتصبح مهددة من طرف الآخرين . وفي قصتها ( فايسبوك ) اجادت في إيصال الصورة ليراها الآخر من منظوره الخاص ومن خلال التأكيد على حدثها في السابق وانتشارها اليوم فالاحساس هنا هو الشعور بما انقطع من الوعي لايقاظه ...
إن رغبة القاصة تكمن ضمن الاتجاه الواقعي الذي جاء كرد فعل لحركة المجتمع الشاملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر؛ لذا جاءت قصصها كنبض ، حيث وضعت الإنسان في اعتبارها الأول . الا انها وظفته ليكون قادرا على التعبير بما يعج في دواخلنا .
لقد كانت القاصة أمينة مع فنها لان قصصها كانت تتضمن فكرة واحدة أو حدثاً واحداً، وشخصية أساسية، إضافةً لهدف واحد .. وقصصها مزيج من الحرارة والحيوية والديناميكية وتتمثل في مجموعة من العلاقات الإنسانية والأنماط السلوكية المختلفة فمواضيعها كانت صادقة مع الواقع الذي تقدم اليه القصة .
وفي الختام ما يسعني إلا أن أقدم لها حزمة من العشب والورد لتبقى وقصصها خالدة وجميلة ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق