1 - مقدمة :
وأنا أشدّ حقائبي للتجوال من غربةٍ مكانية نائية إلى مثلها دانية ، ومن تغرّبٍ زماني عسير إلى تغرّبٍ آخر مرير ، ولا أقول : تغرّب نفسي ، لأن نفسي تفقه الدنيا ما الدنيا على حقيقتها ، لا تستأهل هذه أم الدفر الدنيئة أن تنال مني نفساً ، وتتفهم - نفسي - طبائع مَن أصطفيه أو اصطفاني لعلمي أنّهم بعض الأنامِ !!
أقول تذكّرت مقال الدكتور زكي مبارك عن المعري وقد أوسمه " هل كان المعري يكره الدنيا " يشرع كما شرعت قائلاً : " أكتب هذا المقال وأنا أحزم أمتعتي للرحيل عن بغداد ، وهو رحمه الله - يقصد المعري - قد بكى يوم فارق بغداد ، ولعله لم يعرف موجعات الحزن إلا يوم قهره الوجد على أن يقول :
أودعكم يا أهل بغداد والحشا *** على زفرات ٍما ينين من اللذع ِ
وداع ضناً لمْ يســـتقل وإنّما ** تحامل من بعد العثار على ظلع ِ
فبئس البديلُ الشام منكم وأهلهُ** على أنهم أهلـــي وبينهم ربعي"
أقول ، وقد انتهى قوله :
ألا زودوني شربة ًولو أنـّني *** قدرتُ إذاً أفنيتُ دجلة بالكرعِ
كلاهما قد رحلا من بغدادهما إلى مسقط رأسيهما أو موطنهما ، وكان المعري قصد بغداد عاصمة العباسيين ( 398- 400 هـ / 1007 - 1009 م ) ، في عهد الخليفة أبي العباس أحمد القادر بالله ، ولكن السلطة الفعلية كانت بيد السلطان بهاء الدولة البويهي بن عضد الدولة ، وكان غرضه تحصيل العلم ، واكتساب الشهرة ، أما الدكتور زكي مبارك فانتدب إلى العراق 1937 ودرس في دار المعلمين العالية - كلية التربية - ومكث فيها أقل من سنة ونال من التكريم والكرم العراقي ما يستحقه لجرأة كلمته ، وقوة شخصيته ، وصريح قوله ، وللأسف الشديد هذه الخصال عينها سببت له في مصره المشاكل والمشاكسات ، فصبت عليه النقمة ، ومنعت عنه اللقمة ، وجذبت إليه اللعنة !! ستأتي لك الأخبار ما لم تزوّد .
أيّها القارئ الكريم : ماذا تعرف عن العبقري الدكتور زكي مبارك ، هذه مختارات عن آرائه و حياته ، وما بيني وبين آرائه من لقاء ووفاق عن المعري وأبي نؤاس وأبي فراس !!
2 - المعري والمبارك :
الدكتور الناقد زكي مبارك يرى " أنّ أبا العلاء لم يكره الدنيا أبداً ، ولم يكن يوم اعتزل دنياه إلا حيواناً مفترساً ، نزع الدهر ما كان يملك من أظافر وأنياب ، ولو كان أبو العلاء كره دنياه لاكتفى منها بأيسر العيش ، ولكنه عاش عمراً طويلاً جداً ، وطول العمر يشهد بقوة الأواصر بين المحب والمحبوب ، فالقتال بين أبي العلاء وبين دنياه كان قتالاً بين عاشقين يظهران البغض والحقد ، ويضمران العطف والحنان ." ( أبو العلاء المعري : حياته وشعره - الحديثة - بيروت - ص 70 ) .
يواصل دكتورنا شن هجومه اللاذع القاسي على المعري ، ، وأزيدك من الزكي ما يعجبني ، وليسامحني شيخ المعرة ، قوله !! : " لقد أنسحب المعري من المجتمع ، وما كان ذلك من باب الزهد ، وإنما كان فرار المناضل الذي تعب من النضال ، وماذا صنع المعري حين اتسحب من المجتمع ؟ أترونه نظر إليه نظر الرفق والعطف ، وذلك واجب الفيلسوف؟
ما صنع شيئاً من ذلك ، وإنما قضى دهره في أكل لحوم المجتمع ، لو كان قلبه أحس النورلعرف المجتمع غير مسئول عما يعاني من أوهام وأضاليل ، فتلك مواريث القرون الطوال ... ولو كنت أستبيح لحم المعري كما استباح لحوم الناس لقلت إن ثورته على المجتمع كانت ضرباً من الانتقام الأثيم ..." ، ( أبو العلاء م. س. ص 72 )
لا أستطيع التكهن بما ذهب إليه دكتورنا المبارك من حيث الصلة الخفية بين التعلق بالحياة و أسبابها وطول عمر الإنسان ، وكل شيء بحسبان ، وقد قلت في بيت من إحدى قصائدي :
تأتي المنية للصبيان تغصبهم *** روح الحياة ويُعفى العاجزُ الهرمُ
وقد قال زهير بن أبي سلمى من قبل:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب * * * تمته ، ومن تخطئ يعمر فيهرمِ
ربما أراد الدكتور المبارك أن يرميه بالحجر الذي رماه المعري على مناؤيه من المتزهدين ، فخانه الاستشهاد بهذين البيتين اللذين خاطب بهما المعري الواعظين المتزهدين ، وأنا أكمل المشوار ، فأرمي البيتين على المعري نفسه !! :
بخيفة الله تعَبَّدتنا *** وأنــــــت عينُ الظالم اللاهي
تأمرُنا بالزهدِ في هذه الـ *** دنيا وما همُّك إلا هي
لا أعتذر من شيخنا المعري ، لأن الإنسان هو الإنسان ، فبأي آلآء ربكما تكذبان !!
ثم ضع خطاً تحت كلمة (الفيلسوف) الواردة في النص كي لا تعبر علينا ، وتمرّ مرور الكرام ، أو يعبّرها علينا صاحبنا للنيل من شيخنا ، أو التهكم عليه ، لإثبات الحجة بالجور !! ، هل كان دكتورنا المبارك يقرّ أن المعري كان فيلسوفاً ؟ وبذلك يوافق رأي الدكتور طه الذي يصرّ بدفاع مستميت على فلسفة المعري ، بل يعتبر ديوان ( اللزوميات) كتاباً فلسفياً ، ويقول : " أبو العلاء فيلسوف وكتاب اللزوميات كتاب فلسفي ما أشك في ذلك ولا أتردد في اعلانه والجدال عنه " ( أبو العلاء المعري ...حياته وشعره ص 19.)
أنا في شك من نوايا دكتورنا المبارك في هذه النقطة ، رغم إصرار الدكتور طه الذي لا يمكنني أن أوافقه الرأي ، لأن المعري لم تكن له مدرسة فلسفية خاصة به ، ولا خط واضح المعالم لفلسفته حتى أنه أثار حوله جدلاً كبيراً ، يثبت وينفي ، يؤمن ويلحد ، يكفر ويسلم ، يحب ويكره .. نعم له آراء فلسفية ، وتأملات في الحياة ، وشعر حكم ومواعظ ، وهذا ما ذهب إليه المستشرق الأنكليزي الأستاذ نيكولسن ، أما ما يستشهد به الدكتور طه أن المعري قد: " لائم بين علمه وعمله ورتب حياته اليومية على ما يهديه إليه عقله من حقائق الأشياء وأصول الأخلاق " ( م . ن.)، فهذه الأمور تستحق التفكر والتأمل والتساؤل ، هل المعري عكف عن الزواج عجزاً وقصوراً - وحالته الجسدية معروفة حتى أنه كره المرأة !! - فبرر وتفلسف ، أم أنها عقبى فلسفة ملتزمة ، أنا أشك في ذلك ، لأن الحياة نفسها غلقت أبواب المتعة الجنسية أمامه !!، أما قضية عدم تناوله لحوم الحيوانات ومنتجاتها ، ودافع عن رأيه بأبيات وقصائد رائعة ، وخصوصاً وصل إلى الحد الذي يقول :
إطلاق كفّك برغوثاً ظفرت به *** أبرّ من درهمٍ تعطيه محتاجا
نعم أميل في هذه النقطة إلى أنها كانت فلسفة ملتزمة ، ولو أنه أعترف أمام قاضي القضاة الفاطمي ، عندما ألحّ عليه جبراً على أكل اللحم: إن تجنبه عقبى عادة قديمة ، وليست بفلسفة أو عقيدة !!
من هنا أستطيع أن أعتبر أبا العلاء كان فيلسوفا متجزئاً ، وفي كلّ حالاته الأخرى كان متفلسفا في لحظات الإبداع وليس بفيلسوف !!
3 - المعري وأبو فراس الحمداني بين المبارك وشوقي و الدكتور طه حسين:
لا ريب هذه الحملة الجريئة الصادقة الناقدة بعين ثاقبة من الدكاترة المبارك ، إن كانت ترضيني ، وتؤكد قناعتي بصحة تحليلي النفسي ، ومدى رؤيتي لأعماق الإنسان ، وخبايا أسرار خلقته ، ما كانت هذه تقنع ، بل ولا تزحزح قيد أنملة من قناعة الدكتور طه حسين بزهد ، وعظمة روح شيخ المعرة النافرة للحياة ، وإن الطيور على أشكالها تقع !! وبالرغم من أن المبارك قد وقف بحزم مع موقف الدكتور طه من قضية انتحال الشعر الجاهلي عام 1925 - 1926 ، إلا أن هذا الموقف ما كان ليشفع للدكتور المبارك حين ضاقت به الدنيا ، وألغي عقد عمله التدريسي أن يقف الدكتور طه إلى جنبه ليجدده ، وقد تسلم زمام الأمور أبان هذا الإلغاء الظالم ، والسبب جرأة مباركنا وتمرده وصراحته ومشاكساته ، وعدم مساومته على حساب اجتهاده ورأيه وفكره بنفاق مصلحي ! ومن هذه الاجتهادات سنأخذ مثالاً ، يقول أبو العلاء المعري:
فلا هطلتْ عليّ ولا بأرضي ***سحائب ليس تنتظم البلادا
ويقول أبو فراس الحمداني:
معللتي بالوصل والموت دونهُ *** إذا متُّ ضمآناً فلا نزل القطرُ
الدكتور زكي مبارك يرى : الشعراء نوعان أنانيون وغيريون ، ومتذوقو الأدب مَن يميل إلى هؤلاء ، وإلى أولئك، ولكن الشعراء الأنانيين أكثر صدقاً وتعبيراً عن ماهية النفس البشرية ومكنوناتها من الغيريين ، والأنانية تفرض وجودها على الكون والحياة ، فالشمس تحجب بقية الكواكب ، والقمر يستحوذ مجال النجوم ، ويبدو ذليلاً أمام الشمس ، والشجرة الكبيرة الوارفة الظلال الكثيرة الثمار لولا استئثارها بأغلب أملاح التربة المعدنية على حساب الحشائش والشجيرات الصغيرة ... أترى بلغت هذا الحجم الكبير ؟!! لذا يقف الدكتور مبارك إلى جانب أبي فراس ، ويعتبره أبلغ صدقاً ، وأكثر جرأة من المعري الذي يتصنع الفضيلة والإيثار ، وأنا معه معه !!
بينما يقول أحمد شوقي حول معنى البيتين ، ومذهب الشاعرين : " انظر إلى الأول كيف شرع سنّة الإيثار ، وبالغ في إظهار رقة النفس للنفس ، وانعطاف الجنس نحو الجنس ، وإلى الثاني كيف وضع مبدأ الإثرة ، وغالى بالنفس ، ورأى لها الاختصاص بالمنفعة في هذه الدنيا ، تعيش فيها حافية ، ثم تخرج منها غير آسية ."( مقدمة شوقي لشوقياته ط 1907م)) طبعاً أحمد شوقي لم يتعمق بالمعنى ، ولم يعطِ الظروف الموضوعية التي جعلت الشاعر الفارس أبا فراس الحمداني أن ينطلق من هذا المنطلق ، ولم ينتبه إلى بواعثه ودوافعه النفسية لحظة نظم البيت ، وينسى أن أبا فراس من إسرة حاكمة ،عرفت بالإقدام والعنفوان،وهو القائل في القصيدة نفسها :
ونحن أناسٌ لا توسط بيننا *** لنا الصدر بين العالمين أو القبرُ
أقول قولي هذا مع علمي أنّ كثيراً من النقاد الكبار يقفون إلى جنب شوقي باسم الإنسانية ، وكأنما الشاعر الذي يعبر عن خوالج نفسه ، وأحاسيس آلامه ، ومشاعر وجدانه ليس بإنسان ، كم كان المتنبي رائعاً في ( وا حرّ قلباه ...) ، و أبو فراس في ( أراك عصي الدمع ...) ، والجواهري في (أزحْ عن صدركََ الزَّبدا...) ... ووو ....!!
مهما يكن ، من العجيب أن الدكتور طه الذي وقف ضد شوقي بعنف شديد ، يوافقه الرأي حول شيخ المعرة في هذا البيت ، ولكن العقاد - ومثله المازني - لا يرى الشاعر شاعراً إلا عندما يعبر عن خوالج نفسه الذاتية ، وبذلك يكون شاعرا صادقاً يبث ما يشعر به حقاً وحقيقة ، وعنده الشاعر الغيري ليس بشاعر ، وإنما يصنع الشعر بإحساس غير صادق ، يتحكم عقله في صناعته ، لذلك جرد شوقي من الشاعرية تماماً حتى الممات !! اقرأ ما يقول عن شوقي : «فإذا كانت ثمة أمارة كذابة»في الدنيا فهي أمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعراً حتى - يعد أمير شعراء وحتى يقال "إنه عنوان الأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة» ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الابيات فيكون له بها بعض الغنى عن شاعرية النفس والروح!» - انتهى قول العقاد ، ( الرافد الألكتروني / معارك نقدية ومقاربات فكرية / بقلم د. عبد العظيم حنفي ) ، لابد لي أن أشير أخيراً إلى تفهمي إلى الملاحم الإنسانية الخالدة في اللغات الأجنبية ، والمعادل الموضوعي ، وتناولت هذا الأمر في مقالة سابقة ، وليس في الأمر تناقض ، ولكل مقام مقال !!! /
4 - النؤاسي والمبارك :
نعود للدكتور زكي مبارك - والعود أحمد - في حق أبي نؤاسه وتهتكه ومجونه وعبثه لنرى كيف يناصره ويعاضده بتحليل دقيق غير منافق ، وأنا أيضاً معه معه في التحليل الصريح الجريء : " وكان أبو نواس في موقفه الحرج من أشجع الشجعان ، فالدعوة إلى الفضيلة يستطيعها كل مخلوق ، والتخلق بأخلاق الشرفاء لا يحتاج إلا إلى قسط ضئيل من الرياء ، أما الدعوة إلى المجون فتحتاج إلى جرأة فاتكة لا يتسلح بها إلا من أمدته الحياة بمدد من القوة النفسية ." (أبو نؤاس : حياته وشعره...المكتبة الحديثة - بيروت ، ص 45) ،
وأخيراً لا أطيل معكم المقام كي لا أكون ثقيلاً !! سوى أن أجد لأبي نؤاس سبيلا وكفى بالله وكيلا ، فهذه الأبيات في الزهد للنؤاسي نفسه ، قالها في أواخر حياته:
أَيا رُبَّ وَجهٍ في التُرابِ عَتيقِ*** وَيا رُبَّ حُسنٍ في التُرابِ رَقيقِ
وَيا رُبَّ حَزمٍ في التُرابِ وَنَجدَةٍ *** وَيا رُبَّ رَأيٍ في التُرابِ وَثيقِ
أَرى كُلَّ حَيٍّ هالِكاً وَابنَ هالِكٍ **** وَذا نَسَبٍ فـي الهالِكينَ عَريقِ
فَقُل لِقَريبِ الدارِ إِنَّكَ ظاعِنٌ ** ** إِلى مَنزِلٍ نائي المَحَلِّ سَـــحيقِ
إِذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت ***** لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ
والبيت الأخير يُعدّ من الوثبات الفكرية في الشعر العربي ، وكرره المأمون ، وقال : لو سئلت الدنيا عن نفسها فنطقت ، لما وصفت نفسها كما وصفها أبو نؤاس بهذا البيت ، وكان أبو العتاهية شاعر الزهد الشهير يقول : "قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت ، وددت أن أبا نؤاس لها ثلثها بهذه الأبيات" ، ويعني البيت الأخير ، وبيتين آخرين من قصيدة أخرى ، وبالرغم من هذا كلّه لم يترددالأستاذ الكبير العقاد أن ينفي الزهد عن أبي النؤاسي ، و يقول عنها : " ذلك هو شعور الآسف على الدنيا ومباهجهها ومواطن الرجاء فيها وليس هو شعور المعرض عن الدنيا لأنه مطبوع على الزهد ومتانة الإيمات بما وراء الظواهر والمحسوسات .." ، (أبو نؤاس . م . ن. ص 15 (
نعم الحق مع الدكتور مبارك في جرأة أبي نؤاس الفاتكة ، فهو غير منافق ، ولا متصنع ، ولا مبال ، وقالها بعظمة لسانه :
وهان عليَّ الناسَ فيما أريدهُ**** بما جئتُ فاستغنيتُ عـن طلب العذرِ
وأنا أيضاً معه معه ، لا عن تقليد ، وقد قلت مثل هذا في مقدمة مقالتي دون قصدٍ مني ، وإنما توارد خواطر ، والدنيا تجارب ، وإلى الملتقى في الحلقة القادة عن الزكي المبارك ، والله من وراء القصد !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق