قراءة لرواية "رحلةُ العمر" للدكتور عبد المجيد وهبي/ عباس علي مراد

الدكتور عبد المجيد وهبي القادم من عالم الطب يقدم لنا روايته "رحلة العمر" الصادرة حديثاً في بيروت وتقع في فصلين وعدة أجزاء في قالب أدبي يجمع بين السرد والحوار بين عالمين ولغتين وثقافتين مختلفتين ربطهما بإحداث إجتماعية، إنسانية وتاريخية لتكون رحلة عمره والتي نتشاركُ فيها مع الكاتب في الكثير من محطاتها، حيث وحدات كلامية وحوارية تتردد في ثنائيات كالزمان والمكان، الوطن والغربة، الشمال والجنوب، المسلم والمسيحي، وثنائية الفساد والظلم اللبناني والعدل والنزاهة الفرنسية.
في محطات عديدة يعود الكاتب الى مبضع الجراح ولكن هذه المرة شاهراً قلمه في وجه أمراض إجتماعية، سياسية، ثقافية وغيرها نتيجة الفساد والطائفية والمذهبية والتي تسبب التلوث البيئي الأخلاقي والسياسي التي شكلت عامل دفع للشباب حتى يصبح الحلم تأشيرة دخول الى الدول المتقدمة حتى يؤمن حياة أفضل (كان طموحه السفر لعله يحضى بفرصة تؤمن له حياة أفضل ص 17) هذه الفرصة غير المتوافرة في وطنه حيث الحب أيضاً محكوم عليه بالموت بسبب الاختلاف الديني لأنه يعرض المحبين  ( للمضايقة والاهانة والنفي من قبل ألأهل ص24) وهنا تظهر أول ثورة للكاتب على هذا الواقع من خلال زواج سامي وميرا وإن كان الزواج بالسر، بهذه المبادرة يصبح كل من سامي وميرا شخصيات هدفها الحرية والانعتاق من القيود التي تكرسها قيود الطائفية والفساد من أجل تحقيق الذات.
في رحلة العمر ككل عمل أبداعي ينتقل بنا الكاتب من الحياة بواقائعها ثم محلقاً بأجنحة خياله ليبلغ أفق هذا الخيال بلغة مبسطة بجمالاتها الى الحبكة الفنية وعنصر التشويق لجذب القارئ في دلالات مباشرة أو دلالات مغايرة يريد الكاتب من خلالها تحرير نفسه ببعض الغموض من خلال التلميح غير المباشر مستعملاً اسلوبي الهدم  والبناء فالعدوان والحرب التي دمرت وشردت وقتلت يقابلها الحمية التي أخذت معظم الشعب اللبناني بفتح قلوبهم قبل بيوتهم للنازحين ص 34) هذه الحمية التي جسدتها أم جان وابنها بأبهى صورها وتجلت بأحتضانها  لميرا التي فقدت كل شيئ، ومع ذلك كان القدر بمآسيه لها ولأم جان بالمرصاد لما تعرضت له ميرا بسبب معاناة الولادة التي تعسرت وكادت أن تأتي على حياتها ودخولها في غيبوبة ونقلها الى إحدى المستشفيات البعيدة لتختفي آثارها.
من هنا ينقلنا الكاتب الى الحيز المكاني الثاني في روايته (فرنسا) التي نقلت اليها ميرا الصغيرة (ماري) التي تبنتها عائلة لوفافر (ميشال وجيزيل) اللذان لم يرزقا اولاداً، هذا التبينّي الذي وافقت عليه أم جان على مضض بسبب تقدمها بالسن وحاجة الطفلة لمعيل وبعد تدخّل خوري القرية لإقناعها بهذا الحل ( فلتكن مشيئة الرب، أنا لي كل الثقة بسيدنا ص 78) .
صارت الأمور على ما يرام، كبرت ماري، تخرّجت وأصبحت طبيبة ودخلت معترك الحياة وفي هذا السياق يعرض الكاتب نموذج وطريقة عيش الفرنسيين  بسرد مباشر أو بحوارعلى ألسنة شخصياته ولا يخفي الكاتب إعجابه بحياة الفرنسيين ووطنيتهم خامزاً من قناة اللبناني ص 100، فالأحزاب لا ترتبط بالخارج ولا تتلقى أوامرها منه، وهذا ما يظهر بأماكن كثيرة في الرواية على لسان سامي الذي سيصبح مسيو هداد الذي عاد واستقر في فرنسا بعد أن قطع الأمل بالعثور على ميرا حية او ميته، فتزوج من فرنسية وانتقل من ألمانيا للعيش معها هناك (كامل قصة مسيو هداد ص 134).
لكن كل ذلك لا يخفي حرقة الكاتب العميقة التي تركت ندوبها في نفسه حيث لم يتوانى عن إبداء سخطه وإظاهر قرفه من الظروف التي مرّت بها البلاد ولا زالت تعيشها رغم بعض فسحات الأمل التي أجهضت دون البناء عليها من أجل مستقبل أفضل ذاكراً فترة حكم الرئيس فؤاد شهاب ومحاولته الإصلاحية دون أن يسميه (ص 140) أو بعد تحرير الجنوب من الأحتلال الإسرائيلي حيث انقسم اللبنانيون على بعضهم، وفي الحوارات التي دارت بين مسيو هداد وماري يظهر الكاتب عمق حبه للبنان تغنيه بماضيه عندما كان يقال إن لبنان سويسرا الشرق "ففي البلد الصغير كنت ترين التنوع الحضاري والثقافي المتناسق في العادات والتقاليد" (ص119).
قد يعتقد القارئ أن المأساة قد إنتهت، لكن الكاتب بمهارة في عملية ربط الحدث الروائي يأخذ قارئه إلى بدايات جديدة فبعد موت ميشال ومرض جيزيل أم ماري بالتبنّي فها هي وقبل وفاتها تفجّر قنبلة بمصارحة ماري بقصة التبنّي (ص150) لتبدأ عذابات جديدة في رحلة الكشف عن الجذور وهذا ما يتجلى في الحوارات بين ماري ومسيو هداد ومقارنة معاناتهما ولكن التصميم والتحدّي للوصول إلى الحقيقة يظهر من كلامهما " الحياة لم تخلق للضعفاء… ولن يقف أي شيء في طريقي" (ص 165) هذه الطريق التي ستقود ماري وهداد للعودة إلى لبنان وكما في الفصل الأول يستمر الكاتب في إظهار نقمته على أوضاع لبنان التي تعكس عصر الإنحطاط الذي نعيشه (ص184) بسبب إخفاقات الماضي الذي يطارد الحاضر والمستقبل مفضلاً عدم الدخول في تفاصيل إعادة الإعمار وما رافقها (ص210).
لم تجرِ رياح ماري وهداد كما تشتهي سفينتهما حيث أضطر مسيو هداد للعودة باكراً إلى فرنسا بسبب تعرّض زوجته لحادث خطير.
لكن الكاتب الذي يقول "ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل" (ص206) يعود ومعتمداً في حبكته الفنية على إظهار شخصيات جديدة وبدور متمّم مثل السور ريتا والدكتور سليم الأب والإبن وسلمى واسترجاع شخصيات مرّت سابقاً السائق أبو نبيل وجان وينتقل بنا إلى منزل أم  جان في الشمال الذي تحمل منه ماري المنديل اللغز الذي يحتوي على رسالة سامي لميرا التي ستكون المحفز للعودة والبحث المزدوج كما قال الكاتب، حيث يلتقي مسيو هداد من  ضمن الذين إلتقاهم جان الذي أطلعه على قصة نقل ميرا ويحصل منه على بعض الوثائق ، وثيقة ولادة وإفادة الموافقة على التبنّي (268) لتظهر من بعد ذلك اولى الحقائق لماري ووالدها سامي اللذان بدءا البحث عن ميرا ليصل بنا الكاتب إلى آخر مفاجآته بلقاء الدكتور سالم الإبن ثم الأب لتكون النهاية والبداية في رحلة العمر حيث ينقلنا الكاتب إلى لحظة اللقاء والنهاية السعيدة غير المتوقعة كما قال هداد (ص 314)، ليعود ويظهر من جديد السؤال الذي طرحته ماري " هل ستنصحني بالعودة إلى الجذور… إلى لبنان" (ص275) هذا السؤال الذي يلازم كل مغتربي لبنان والذي كان للكاتب العتب على بعضهم.
أخيراً، في روايته رحلة العمر يظهر الكاتب وعيه برسالته وأحاطته بالواقع الذي يعيشه وطنه بحسناته وسيئاته وما فيه من تجاوزات وفساد ومظالم وإلتزامه بقضاياه السياسية والإجتماعية والثقافية ويسجّل موقفاً من المعاناة التي تطارد يومياتنا على كافة المستويات العاطفية، السياسية، الثقافية وغيرها. وفي رحلة عمره حيث يتكئ حاضره على أمل بمستقبل قد يأتي أو لا يأتي، لكن الدكتور وهبي لم ييأس فكانت هذه الرواية بين أيدينا والتي ننصح بقراءتها.

سدني أستراليا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق