المائة يوم الأولى هي مدة اتخذت منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت في ثلاثينات القرن الماضي كمقياس للقيام بعملية تقييم وجرد أولية مبكرة لما ستكون عليه السنوات التالية من حكم أي رئيس وطريقة وأسلوب إدارته للشؤون الداخلية والخارجية لبلاده. وعلى الرغم من اعتراض البعض وقوله أن هذه المدة قصيرة وغير كافية للحكم على توجهات أي زعيم، إلا أنه استقر الأمر على المدة المذكورة.
وبما أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أكمل مؤخرا المائة يوم الأولى من عهده الرئاسي، فهذه مناسبة لإجراء تقييم حول أدائه، خصوصا وأن شكوكا كثيرة حامت حول قدرته على إدارة دولة عظمى كالولايات المتحدة، كونه جاء إلى السلطة من خارج النخبة السياسية الامريكية، ناهيك عن أن خصومه في "الدولة العميقة" من مؤيدي الحزب الديمقراطي شنوا عليه حملة شعواء منذ يومه الأول في البيت الأبيض، وجندوا كل وسائلهم لإفشاله.
أثناء حملاته الانتخابية للفوز برئاسة بلاده في العام الماضي تبنى ترامب، الذي توقعت استطلاعات الرأي خروجه مهزوما، جملة من الشعارات والوعود. بعض هذه الشعارات أغضبت العرب والمسلمين مثل توعده بطردهم من الولايات المتحدة وعدم السماح لهم بدخولها، ومثل إلتزامه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وإشادته بديمقراطية إسرائيل وسجلها في حقوق الانسان، لكن بعضها الآخر لقت استحسانا في العواصم العربية الحليفة لواشنطن لأنه كان ذا صلة بالملفات الشرق أوسطية الملتهبة التي فشل الرئيس السابق باراك أوباما في التعاطي معها بجدية فكانت النتيجة إهتزاز ثقة تلك العواصم بالإدارة الأمريكية للمرة الأولى.
بدا واضحا من حملات ترامب ووعوده أنه بصدد إحداث نقلة في سياساته الخارجية يعيد بها هيبة بلاده ومكانتها على الساحة الدولية ــ إن قدر له دخول البيت الابيض ــ وذلك من خلال سلسلة من القرارات المناقضة لقرارات سلفه الذي عـُرف بتخبطه وتردده، ورضوخه لسطوة اللوبي الايراني بقيادة "هوشنك أمير أحمدي" رئيس المجلس الوطني الإيراني ــ الأمريكي. هذا اللوبي الذي تعاظم دوره ونفوذه كثيرا في سنوات أوباما الرئاسية الثمان.
وبقدر ما حبس المراقبون أنفاسهم يوم ظهور نتائج إنتخاب الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين خوفا من فوز ترامب الموسوم بالتطرف والعنصرية وقلة الخبرة السياسية، فإنهم بالقدر نفسه حبسوا أنفاسهم بعد إعلان فوزه رسميا وطوال الأشهر التالية تحسبا لما سيتخذه من قرارات سياسية يترجم بها وعوده الانتخابية، خصوصا بعدما اختار لمعظم المناصب القيادية الحساسة شخصيات عسكرية معروفة بتصلبها، في مقدمتها وزير الدفاع جيمس ماتيس عدو الايرانيين وأكثر المطلعين على أنشطتهم التخريبية، بفضل عمله السابق في العراق وأفغانستان.
فماذا نقرأ الآن بعد مرور المائة يوم الأولى على فوز ترامب؟ وكيف تبدو سياساته وقراراته، خصوصا لجهة انعكاساتها على منطقتي الخليج والشرق الأوسط؟
الحقيقة أن ترامب نفذ الجل الأعظم مما التزم به على الصعيد الخارجي مع إستثناءات بسيطة لا زال النقاش دائرا حولها، مثل الموقف من الصفقة النووية مع طهران والتي وعد الرجل خلال حملته الانتخابية بتمزيقها بمجرد فوزه، بل وصفها بأسوأ إتفاق لأنها لم تأخذ مصالح الولايات المتحدة ودول الخليج في الإعتبار. لكنه يبدو اليوم أكثر ميلا للإبقاء على الاتفاقية مع إعادة التفاوض على بعض بنودها بهدف ممارسة المزيد من الضغوط والعقوبات على النظام الإيراني كي تكف عن زعزعة الأمن والإستقرار في الشرق الأوسط والعالم. ومؤخرا أعلن وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون أنه طالب الكونغرس بتوجيه الأجهزة الحكومية المعنية لمراجعة ما إذا كان قرار أوباما برفع العقوبات عن إيران بموجب الصفقة النووية يخدم مصلحة الأمن القومي الأمريكي أم لا؟ وهذا هو نفس ما تنبأ به مستشار ترامب لشئون الشرق الأوسط قبل فوز ترامب حينما قال أن إلغاء واشنطون للصفقة قد لا يجدي نفعا لأنها اتفاقية دولية وقعت عليها قوى عالمية أخرى قد تصر على الإلتزام بها، وبالتالي "أتوقع إعادة التفاوض حول بعض بنودها"
من خلال متابعة السياسات الترامبية حتى ساعة كتابة هذه السطور يمكن أن نلاحظ عليها أنها:
ـــ نقيضة تماما لسياسات سلفه باراك أوباما الداخلية والخارجية، ناهيك عن تميزها بالحزم والحسم السريعين بعيدا عن التخبط والتردد.
ـــ تراعي بالدرجة الأولى مصالح الولايات المتحدة وإعادة الهيبة لدورها العالمي، ولا بأس من انتهاج البراغماتية سبيلا للوصول إلى الهدف المنشود.
ـــ ملتزمة بالدرجة الأولى بمحاربة الجماعات الإرهابية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيمي داعش والقاعدة، وقد تجلى هذا عمليا في إنزال قوات أمريكية على أرض اليمن للمرة الاولى في يناير المنصرم لمطاردة بعض رموز القاعدة، وضرب مواقع لداعش في أفغانستان في أبريل 2017 ب "أم القنابل"، ناهيك عن استهداف مواقع ميليشيات داعش وحلفائها في سوريا والعراق واليمن.
ـــ جادة في إعادة الدفء إلى علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها العرب التقليديين، وذلك من خلال الإلتزام بأمنهم وحمايتهم، وإرسال رسائل واضحة إلى النظام الإيراني مفادها أن عهد السكوت على سياساتهم التوسعية المهددة للأمن والأستقرار قد ولى. وقد تجلت إحدى هذه الرسائل في إعادة إرسال المدمرة الأمريكية الشهيرة "كول" إلى السواحل اليمنية للمرابطة أمام السواحل اليمنية لحماية الممرات المائية الدولية من المسلحين الحوثيين، وأيضا لمنع وصول الإمدادات العسكرية الايرانية بحرا لهذه الجماعة المتمردة على الشرعية والعابثة بالقانون الدولي.
ـــ صارمة في التعامل مع الأنظمة المارقة التي تقتل شعبها (نظام الأسد في دمشق)، أو تلك التي تهدد جاراتها بالأعمال الحربية الطائشة (نظام كيم جونغ أون في كوريا الشمالية). وقد تجلى هذا في قصف قاعدة الشعيرات الجوية السورية المسؤولة عن قتل أطفال خان شيخون بالسلاح الكيماوي، وتهديد نظام بيونغيانغ بالإبادة إن استمر في تجاربه النووية والصاروخية. يضاف إلى ما سبق وضع المزيد من الكيانات والشخصيات الضالعة في القتل والإرهاب والمنتمية إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني على القوائم السوداء وفرض العقوبات وتشديد الخناق عليها.
ـــ مستعدة للتراجع عن بعض الشعارات والوعود التي صاحبت الحملات الانتخابية كثمن لإحتواء غضب بعض الحلفاء كالعرب (التراجع عن مسألتي ترحيل العرب والمسلمين ومنع دخولهم، ومسألة نقل السفارة الامريكية إلى القدس مثالا) أو كثمن لتفادي اندلاع حرب شاملة (التراجع عن التصلب مع الصين مقابل بذل بكين لمساعيها مع بيونغيانغ للتعقل والكف عن إرتكاب الحماقات مثالا).
مما سبق يمكن القول أن أكبر الخاسرين من السياسات الترامبية هو إيران وحلفائها، وأن أكبر الرابحين هو دول الخليج العربية وحليفاتها من الدول العربية المعتدلة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من مملكة البحرين
تاريخ المادة: إبريل 2017
البريد الالكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق