كما أن الانسان الأكثر ثقافة وتحضر هو الأقل تطرف كذلك الشعوب الاكثر تحضر وذات الإرث الثقافى و الحضارى هى أقل عنصرية وتطرف وهى في المحصلة القادرة على ترك آثار لها على هذا الكوكب، وكذلك في تاريخه لأنها توارثت عبر العصور الإرث الثقافى لتجاربها العملية التى تترجم بشكل بايولوجى سلس لصفات انسانية سلوكية فردية وجماعية، هذا ببساطة ما حدث عبر التاريخ وسيحدث دوماً وهو عينه ما حدث في فرنسا هذا الأسبوع حينما رفض الشعب الفرنسى بأغلبيته صوت التطرف والعنصرية واختار البديل برغم أن فرنسا تُعد منذ عقود الدولة الأوروبية الأولى المهددة في هويتها الثقافية بفعل تراكم أجيال من المهاجرين الذين يحملون هوية الآخر الثقافية، وهو ما اضطرها إلى سن المزيد من القوانين للحفاظ على هويتها العلمانية خلال العقدين الماضيين في محاولة منها لدمج الجيل الثالث والرابع من أولئك المهاجرين في البوتقة الثقافية للدولة . وهو ما قوبل بردة فعل مضادة ومتطرفة في أحيان كثيرة من بعض أبناء الجيل الثالث والرابع بالخصوص، ويظهر هذا جليا في عدد الفرنسيين من ابناء هذان الجيلان الذان انخرطا بشكل عملى في تنظيمات متطرفة في الشرق الأوسط، أو حتى الذين فضلوا البقاء في فرنسا كخلايا نائمة تحت الطلب لتنفيذ أعمال إرهابية كهجوم تشارل أبيدو ومحطة المترو وغيرها، كل ذلك كان كفيلاً بأن يوصل السيدة مارى لوبان وحزبها الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة إلى سدة الرئاسة وبأغلبية أكثر من تلك التى حصل عليها السيد ايمانويل ماكرو في أى بلد آخر، لكننا نتحدث عن فرنسا درة تاج الثقافة الأوروبية نتحدث عن جان جاك روسوا وفولتير وعن اللوفر والشانزليزه ونتحدث عن قلب أوروبا الثقافى النابض وبوصلتها الفكرية .
وكل من راهن على نظرية حدوث( telepthy توارد الخواطر) بين الشعوب وراهن على تكرار ما حدث في الولايات المتحدة في فرنسا تجاهل بسذاجة حقائق الاختلاف الثقافى، وأغفل البعد الحضارى التاريخى بين الحالتين، ولم ينتبه لحقيقة التنافس الثقافى الغير مرئى المحموم بين النموذج الأمريكى والأوروبى والذى تمثل فرنسا رأس حربته، صحيح الفرنسيين يأكلون الهامبورجر ويشربون الكوكا كولا في الشوارع ولكنك لن تجد على موائدهم غير الباجيت والكريب والنبيذ الفرنسى المعتق ويستمعوا لمعزوفة كلود ديبوسى، وهنا يبدو توارد الخواطر (telepthy) أمراً مستحيلا . إن الشعب الفرنسى بانتخابه السيد ماكرون حسم صراع داخلى أوروبى بين يمين يرى أن أوروبا موحدة ومتعددة ومنفتحة ومتسامحة وعبء ثقيل على الدولة الوطنية، وبين تيار وسطى ومعتدل يرى فيها النموذج الأصلح اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً لكل شعوب الاتحاد الأوروبى .
وبعد هذه التجربة الانتخابية على فرنسا وكل دول الاتحاد الأوروبى أن تنتبه لحقيقة أن تجربة الاتحاد الاوروبى ورغم نجاحاتها المتعددة منذ معاهدة ماسترخت وحتى يومنا هذا في بلورة هوية أوروبية سياسية واقتصادية إلا أنها وعلى ما يبدو لم تنجح في بلورة هوية اجتماعية وثقافية أوروبية موحدة إضافة إلى ذلك الموقع الذى أصبح باهت للدولة الوطنية في الاستراتيجية الاتحادية بفعل توحيد العملة وإزلة الحدود السياسية وحرية التنقل بين دول الاتحاد، وهذا أدى إلى ردة فعل وطنية عند البعض تُرجمت عبر صناديق الاقتراع عبر صعود أحزاب اليمين المتطرف وإعادة بعث بعض الحركات الأكثر تطرفاً في أوروبا خاصة في دول كان لها النصيب الأكبر من المكاسب من تجربة الاتحاد الأوروبى كفرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا
إن المهمة الاساسية والأصعب للقادة الأوروبيين خلال العقد القادم تكمن في قدرتهم على إعادة صياغة الاستراتيجية الأوروبية بما يضمن للدولة الوطنية مكان واضح ووازن، كذلك داخل الاتحاد لتحافظ على الخصوصية الثقافية والقومية لها لكبح جماح أولئك الشعبويين المتطرفين، كذلك على الاتحاد الأوروبى أن يدرك البحر المتوسط الذى يجلب المواد الخام بأزهد الأثمان من الضفة الأخرى يجلب أيضاً أصعب المشاكل وأعصاها على الحل، فمشكلة الهجرة هى في الأساس نتاج تقاعس أوروبى تاريخى متراكم عن إيجاد حلول لقضايا ومشاكل في الشرق الأوسط وأفريقيا، وكانت أوروبا في أحيان كثيرة من افتعلها أو ساهم فيها بالنصيب الأكبر ثم تركتها وغادرت دون أدن مسؤولية، ومن أهم تلك القضايا التنمية في أفريقيا والصراع الفلسطينى الاسرائيلى وكلاهما يحتاج لمساهمة فعلية وجادة من الاتحاد الأوروبى، وعلى أوروبا أن لا تغفل أن البحر المتوسط الذى يحجب الآخر لن يمنع وصوله لها ولو حتى جثة هامدة ملقاة على شواطئها .
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق