في الخامسة عشر من شهر مايو من كل عام تحتفل اسرائيل بعيد استقلالها ونحن بنفس التوقيت نحيي ذكرى نكبتنا، تسعة وستون عاما على الاستقلال ومثلها على النكبة الفلسطينية، شكل الحدث فى حينه تكفير من أوروبا عن قرون من الاضطهاد لليهود وكذلك فرصة للتخلص منهم حيث مثَل وجودهم المتزايد فى أوروبا إشكالاً إثنياً واجتماعياً واقتصادياً لمعظم دول أوروبا . وهو ما دفعهم للبحث عن حل للمشكلة اليهودية في أوروبا بعيداً عنها، وكان وعد بلفور وزير خارجية الامبراطورية البريطانية أحد تلك الحلول من بين خيارات عدة كانت تطرح بين الفينة والأخرى للمشكل اليهودى فى أوروبا، وهو ما يؤكد أن نشأة الحركة الصهيونية من قلب أوروبا لم تكن مصادفة أو ردة فعل إثنية بقدر ما كانت نتاج تخطيط سياسى استراتيجى أوروبي بعيد المدى للتخلص وللأبد من المشكل اليهودى فى أوروبا. كانت الحركة الصهيونية بمؤسساتها المختلفة يده الضاربة لكن بالعقل، وتمكنت من إقامة دولة اسرائيل ووظفت لها كافة الامكانات والمتغيرات الدولية لخدمة هدفها إلى أن أصبحت اسرائيل الدولة الأكثر تقدماً عسكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً في منطقة الشرق الأوسط ، وفى المقابل أُقتِلع شعب فلسطين وهُجِر من أرضه إلى كافة أصقاع الأرض وفقد كل ما يملك في جريمة( أوروبية بالأساس و دولية لاحقاً) طويلة الأمد تفوق بمراحل جرائم التطهير العرقى التى عرفتها البشرية .
وقد عصفت بالقضية الكثير من الأحداث والحوادث تنكر الجاني لجريمته، وتحول من جانى إلى وسيط بين من جنده لارتكاب الجريمة والضحية، وفى أحيان عدة وصلت حالة الانكار بالأوروبيين إلى وصف ما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين بالوصف الحقيقى له وتحميلها المسؤولية كاملة عن مأساة الفلسطينيين . ففى حادثة ذات معانى عميقة مطلع التسعينات حدث أن بالغ وزير خارجية بريطانيا في حينه روبن كوك في إدانة اسرئيل ووصف قتلها لأطفال فلسطين أبان الانتفاضة الأولى بأنها جرائم ضد الانسانية، لكن رد اسحاق شامير رئيس وزراء اسرائيل في حينه ألقمه حجراً في فمه عندما وصفه بقليل الخبرة ودعاه إلى عدم التباكى على الفلسطينيين و بإعادة قراءة التاريخ، ذاك التاريخ الذى سطر أكبر مؤامرة تاريخية وسياسية وانسانية بتخطيط أوروبى وبيد الضحية اليهودية التى تحولت إلى جلاد له ضحايا بالملايين من الفلسطينيين الذين تراهم اليوم وبعد قرابة السبع عقود لا زلوا قابعين في مخيماتهم ذات الأزقة التى بالكاد تتسع لمرور انسان؛ لا زالوا في مخيماتهم بدون كهرباء ولا ماء ولا عمل، لكن لم يتخلوا عن الحلم والأمل في العودة إلى هناك حيث الوطن المأسور؛ ويعيش الجلاد ابن الضحية الأوروبية ويتمتع بالعيش الكريم والرفاهية في أرض وممتلكات ضحيته.
إن قبول العالم باستمرار هذا الوضع هو مؤشر واضح على انحدار للضمير الانسانى، وإبقاء القضية الفلسطينية والنكبة بدون حل هو وسمة عار في جبين العالم والانسانية، والجريمة الأكبر هى أن تتم تسوية هذه القضية تسوية غير عادلة لأن هذا يعنى ببساطة دفن برميل من البارود في أرض ساخنة لن تفلح مياه مليارات الحوافز الاقتصادية الموعودة أو تغير المناهج الدراسية في تبريد تربتها .
إننا نحن الفلسطينيون وإن كنا نبدو في أسوء أحوالنا السياسية والاقتصادية إلا أننا لا زلنا منتصرين ثقافياً في صراعنا مع الصهيونية، فالرواية التاريخية الصهيونية مرفوضة بقرارات الأمم المتحدة وهى رسالة مبطنة من أولئك الذين صنعوا الصهيونية بأن اسرائيل هى حل للمشكل اليهودى فقط وأن رواية أرض الميعاد هى رواية يهودية خاصه غير ملزمة لأحد سواهم استخدمت لجلب اليهود إلى هناك ليس إلا، والنصر الثقافى الفلسطينى وإن كان يبدو للبعض غير ذى قيمة إلا أنه في حقيقة الأمر النصر الحقيقى في صراع كالصراع الفلسطينى الصهيونى، فكل ماوصلت له اسرائيل لا يساوى تاريخيا شىء بدون اعتراف الفلسطينيين بالرواية الصهيونية التاريخية وهو ما يظهر في اصرار اسرائيل على ضرورة انتزاع اعتراف فلسطينى باسرائيل كدولة يهودية . واسرائيل التى تحتفل بعيد استقلالها ال69 اليوم تدرك جيداً أنها قامت بعكس حركة التاريخ الانسانى لنشأة الدول والكيانات كما أنها تدرك جيداً أن استمراريتها مرهونة بحسابات دقيقة جداً لموازين القوى العالمية والاقليمية وعليه؛ فان اسرائيل اليوم قد تضمن لنفسها أن تحتفل بعيد استقلالها السبعين وربما الثمانين؛ لكن من المؤكد أن لا أحد في اسرائيل أو في العالم يضمن أو حتى بمقدوره إعطاء وعد بأن تحتفل اسرائيل بمئوية يوم الاستقلال هاهنا. وهذا الفرق الحقيقى بين أى شعب طبيعى مرتبط تاريخياً بأرضه في هذا العالم وبين شعب فرضته القوى الدولية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق