هذه المجموعة ُ الشِّعريَّة ُ الثالثة ُ التي يُصدرها الشَّاعرُ الشَّاب " محمد حسين علاونه" من قرية "جبع " قضاء جنين ( فلسطين) وسبقَ وأن أصدرَ مجموعتين شعريَّتين قبلَ ذلك ، وكان لي الحَظُّ والشَّرفُ في كتابةِ مقدمةِ ديوانه الثاني . وقد كلَّفني وشرَّفني مرَّة ً أخرى في مراجعةِ مجموعتهِ الثالثةِ هذه وكتابةِ مقدِّمَتِهَا .
الشَّاعرُ المناضلُ "محمد علاونه " كان سجينا أمنيًّا قبعَ في السُّجون الإسرائيليَّة عدَّة سنوات ، وكان لتجربتِهِ الطويلةِ داخل السجن الدورُ الكبير في صقل ِموهبتِهِ الفنيَّة وتطويرها وفي تفجير طافاته الإبداعيَّة . فشعرُهُ وجدانيٌّ إنسانيٌّ شفافٌ يعكسُ نفسيَّتهُ وعواطفهُ ومشاعرَهُ ولواعجَهُ الذاتيَّة َ وحياتهُ على مداراتٍ وابعادٍ واسعةٍ ويعكسُ همومَ الوطن . ونجدُ فيهِ أيضًا النظرة َالشُّموليَّة َوالفلسفيَّة السَّامية للحياةِ وللإنسانيَّةِ جمعاء والحسَّ الأمميَّ والرُّؤيا اللامتناهية َ في القضايا الأمميَّة .
يُعالجُ محمد علاونه في شعرهِ جميعَ القضايا والأمور والمواضيع الهامَّة ،مثل:الوجدانيَّة والذاتيَّة والعاطفيَّة والوطنيَّة والإجتماعيَّة والأمومة وغيرها .
وبالرُّغم من كون شعرهِ يتبثقُ منطلق ٍ وجدانيٍّ وشخصيٍّ كما يبدو، نظرًا لمعاناتِهِ الطويلةِ وحجز حرِّيته داخل غياهب السجن فنجدُ شعرَهُ يعنى ويهتمُّ ويشملُ الإنسانَ أينما وُجدَ في كلَّ بقعةٍ في هذا العالم ، وسيظلُّ هذا الشِّعرُ محافظاعلى إشراقتهِ ورونقهِ وسحرهِ وأريجهِ الخاصّ في كلِّ ظرفٍ ومكان وزمان ٍ مهما تغيَّرتِ الأوضاعُ وتبدَّلتِ الأحوالُ،على عكس الكثير من الشِّعر والأدب الفلسطيني - ( أدب الشعارات ) والذي قسمٌ لا بأس بهِ منهُ هو وليدُ المناسبةِ والظرف وابن ساعتهِ ، وإذا تغيَّرتِ الأوضاعُ والظروف السِّياسيَّة والإجتماعيَّة والدوليَّة سيفقدُ هذا اللونُ الأدبي الذي أعنيهِ ( أدب الشِّعارات) قيمته الفنيَّة المعنويَّة ويصبحُ في طيِّ النسيان لأنَّهُ متقوقعٌ على نفسِهِ ، موغلٌ في الذاتيَّة الآنيَّةِ ويدورُ في نفس المدار ويفتقرُ إلى الشُّموليَّةِ والعالميَّة.
إنَّ هذا الديوان " أنشودة الأرض " هو انطلاقة ٌ أدبيَّة ٌ كبيرة ٌ وإطلالة ٌ إبداعيَّة ٌ مشرقة ٌ في فردوس ِ الشِّعر الإنساني والوطني القومي الملتزم . وفقد نجدُ هناك تفاوتا وتفوُّقا ً نوعيًّا بين هذا الديوان والدواوين التي أصدرَها قبلهُ من ناحيةِ : المستوى والبُعد الفنِّي والبلاغي والصور الشِّعريَّة الجميلة الشَّفافة المبتكرة والمجاز اللّغوي وشموليَّة الإبداع والرُّؤيا الفلسفيَّة والإنسانيَّة التقدميَّة الشَّاملة . وقد يجدُ القارىءُ والإنسانُ المثقف ذو الحسِّ الوطني الجَيَّاش والتقدُّمي المشرق حلمَهُ وَمآلهُ وضالَّتهُ المنشودة،لأنَّ الكثيرَ من الكتبِ والإصداراتِ الأدبيَّةِ والدواوين الشعريَّة التي تصدرُ اليوم بغزارةٍ وبدعم من المؤسَّسَاتِ العديدةِ تفتقرُ إلى الحدِّ الأدنى من المستوى الأدبي وركيكة لغويًّا وفنيًّا،عدا الأخطاء الإملائيَّة، ولا تحملُ في طيَّاتِهَا أيَّة َ رسالةٍ أو هدفٍ سام ٍ- سواءً على الصَّعيد الوطني والقومي أو الإنساني والعاطفي وحتى الترفيهي، لأنَّ أصحابَها لم يعيشوا أيَّة َ تجربةٍ خصبةٍ وغنيَّةٍ سواءً كانت إنسانيَّة أو قوميَّة وحتَّى عاطفيَّة . فكلُّ عمل أدبي أو فكري أو ثقافي وفنِّي هنالك شروطٌ وأسُسٌ عديدة ٌ لمَدى نجاحِهِ، وأهمُّها : خصُوبة التنجربة والمُعاناة - كعنصرأساسي، ثمَّ المصداقيَّة والأمانة الكتابيَّة والثقافة الواسعة والمستوى الفكري والمقدرة اللغويَّة والبيانيَّة، إضافة ً إلى الموهبة والحدس الفطري . فقبل كلِّ شيىءٍ من الأمور المذكورةِ يجبُ أن تتوفر الموهبة ُ الفذة ُ عند الشَّاعر أو الكاتب والفنان وبدون الموهبةِ لا يُمكنُ أن يكونَ الإنسانُ مُبدعًا في أيِّ مجال ٍ فكري أو أدبي حتى لو درسَ وقرأ كلَّ العلوم والآداب والثقافاتِ المختلفة جميعها .
والسُّؤال الذي يطرحُ نفسَهُ هنا : أينَ كتَّابُنا وشعراؤُنا وفنانوننا من هذه الأشياءِ والأسس المذكورة ،لأنَّ معظمهم يفتقرون إليها، ولهذا نجدُ كتاباتهم وكتبهم المطبوعة دون المستوى، لأنَّهم يكتبون عن أشياءٍ وأمورغير واقعيَّة بالنسبةِ لهم وبعيدة عنهم، وغير حيَّة وموجودة في أحاسيسهم ونفوسِهم ولم يعيشوها ويحيوها . وأمَّا شاعرنا "محد علاونه " فجميعُ العناصر والشُّروط المذكورة تجسَّدَت فيهِ وتجذرَت وترسَّخت في هويَّتِهِ الأدبيَّةِ والإبداعيَّةِ ، فهو إنسانٌ قبل كلِّ شيىءٍ ، وقبل أن يكونَ كاتبًا وشاعرًا، يملكُ مشاعرَ رقيقة وشفافة ً مُترعة ً بالمحبَّةِ تجاهَ الآخرين ، فيُحبُّ الناسَ والبشرَ جميعًا ، غير متعصِّب عرقيًّا ، يكرهُ العنصريَّة َ، ويتمنَّى السَّلامَ والسَّعادة َ والهناءَ لجميع شعوبِ الأرض ، ومن ضمنهم شعبه الفلسطيني الذي يُعاني الكثيرَ وما زالَ يرزحُ تحتَ نير الحصار وقساوةِ الإحتلال ...فايَّة ُ قضيَّة إنسانيَّةٍ مهما كانت ثؤَثِّرُ فيهِ إلى حدّ بعيدٍ وتحرِّكُ مشاعرَهُ ولواعحَهُ الذاتيَّة َووجدانهُ . لقد كتبَ في موضوع الأمومة َ قصائدَ في منتهى الرِّقَّةِ والشَّفافيَّةِ والرَّوعةِ والتألُّقِ الإنساني . وكتب أيضًا للحياةِ والأرض والوطن وللإنسان، وكتبَ الكثيرَ من القصائد الإجتماعيَّةِ والوصفيَّةِ والعاطفيَّةِ ، وقد أبدعَ كثيرًا في كلِّ هذهِ المواضيع .
وممَّا يُميّزُ كتابات " محمد "عن الكثيرين غيره من الشُّعراءِ الفلسطينيِّين أنهُ رغم حداثةِ سنِّهِ ( لم يزل شابًّأ في مقتبل العمر) فكتاباتهُ تمتازُ بأسلوبٍ جديدٍ مُمَيَّز ، نوعا ما ، ويستعملُ الكثيرَ من المعاني والأفكارَ والصُّور الشِّعريَّة والصورالشعريَّة َ الجديدة َ المُشِعَّة، والكثيرَ من المفردات والتعابير البلاغيَّة المبتكرة والموفقة التي لم يستعملها أحدٌ قبلهُ . فقاموسُهُ الشِّعري زاخرٌ وحافلٌ بالمعاني الجديدة الرَّائعة وبالتعابيرالشِّعريَّةِ الجميلةِ والمُشرقةِ فشاعرنا يمتلكُ ثقافة ً واسعة ً جدًّا حيث مدَّة مكوثِهِ في السجن إستغلَّهَا في المطالعةِ المستمرَّةِ وفي توسيع آفاقِهِ الثقافيَّة والعلميَّة، وفي صقل موهبتِهِ . وأنا ، بدوري ، أتنبَّأ لهُ بمستقبل ٍ كبير مشرق ٍ رائع ٍعلى صعيد الشُّهرةِ والنجاح الكبيرين في المجال الشعري والأدبي . فإذا تابعَ مسيرَتهُ الادبيَّة واستمرَّ في الإنطلاق النوعي السِّريع والإبداع المتواصل، ففي فترةٍ قصيرةٍ قد يكونُ في طليعةِ الشُّعراء الفلسطينيِّين والعرب قاطبة ًعلى امتداد الوطن العربي من المحيط للخليج .
وأخيرًأ وليسَ آخرًا : نهنِّىءُ الشَّاعر الفلسطيني المناضل والمبدع الشَّاب ( محمد حسين علاونه) على صدور هذا الديوان ونحنُ في انتظار ديوانِهِ الشِّعري الرَّابع الذي سيصدرُ قريبًا ... ودائمًا نتمنَّى منهُ المزيدَ من الإنتاج والإصداراتِ الأدبيَّةِ والشِّعريَّةِ الجديدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق