جرائم القتل... الفوضى والإنهيار مستمرة... أين الخلل؟/ راسم عبيدات


حتى هذه اللحظة ما زالت جرائم القتل ....وقضايا الإنفلات والإحتراب العشائري والقبلي والفوضى وحالة الإنهيار في مجتمعنا الفلسطيني،وكذلك في المجتمعات العربية مستمرة ومتواصلة،ولم تفلح كل الجهود المبذولة لوقفها او حتى لخفض مستوياتها.....بل ما نشهده في شهر التوبة والغفران والعبادات إرتفاع في وتائرها وتصاعدها بشكل كبير وبما يجعل  حماية السلم الأهلي والمجتمعي تتقدم على أي اولوية اخرى،بما فيها الإنعتاق والتحرر من الإحتلال،فحماية وصيانة وحدة المجتمع ومنع تفككها وإنهيارها مجتمعياً ووطنياً يجب ان تكون هاجسنا جميعاً،فمن الصعب على أي مجتمع ان ينال حريته وإستقلاله وازماته الإجتماعية تتعمق ثم تنفجر على شكل إحترابات عشائرية وقبلية واسعة وجرائم قتل... فتحرر الإنسان يتقدم على تحرير الأرض،فإنسان مخترق مجتمعياً ووطنياً،وإنتماءاته العشائرية والقبلية والجهوية والطائفية متقدم على إنتماءه الوطني،لا يمكن ان يشكل رافعة او معول بناء لبناء مجتمع يقوم على أساس المواطنة الكاملة لجميع مكوناته ومركباته المجتمعية.

نعم علينا ان نقر كحركة وطنية واحزاب سياسية ورجالات إصلاح ومؤسسات مجتمع مدني وسلطة وغيرها من مرجعيات دينية ومؤسسات تربوية وغيرها،بأننا فشلنا فشلاً ذريعاً في حماية نسيجنا المجتمعي من التفكك والإنهيار،فالأمور اذا ما استمرت على ما هي عليه،فنحن سائرون نحو كارثة كبيرة،والإحتلال الذي نقر بانه واحد من الأسباب الجوهرية لما يصيب مجتمعنا من تفكك وإنهيار وتشظي وفرقة،فهو يغذي النعرات الطائفية والعشائرية فيه،ويسعى لتفتيه،ومشروعه الإقصائي والتطهيري قائم على إستمرار خلافاتنا وتغذيتها وتضخيمها،لكي يجعلنا نستمر في "طحن" انفسنا وفي إحتراب داخلي دائم،وان لا نلتفت الى جرائمه بحق أرضنا  وشعبنا وكل تجسيدات ومظاهر وجودنا كشعب،فهو يرى بان أي استقرار وامن وأمان اجتماعي من شأنه ان يجعل كل الطاقات والجهود تتوجه الى التصدي الى مشاريعه وقوانينه العنصرية المستهدفة لنا كشعب فلسطيني...ولكن هذا يجب ان لا يجعلنا دائمأ نعلق كل أمراضنا ومشاكلنا وخلافاتنا وما يحدث لنا من تدمير ذاتي على انها  من صنع الإحتلال،فهناك جزء كبير من ما يحدث في مجتمعاتنا من جرائم وإحتراب عشائري وقبلي من صنع أيدينا،ووليدة بيئتنا ووجودها مرتبط بسياقاتنا الإجتماعية والإقتصادية والتاريخية والثقافية التي عشناها ونعيشها....أي انها ليست من صنع السماء أو مستدخلة علينا..بل هي من صنعنا نحن.

نحن ندرك انه في مراحل الهزيمة والردة،وإستدخال وعيها وثقافتها،وإستلاب الأمة والجماهير لحريتها وإستقلالها وحقوقها،وسيطرة الفكر الإقصائي والتكفيري والوعي والثقافة القائمين على الغيبيات والحجر على العقول من خلال السيطرة على المشهد العام ثقافياً وإعلامياً وعبر أنظمة وسلطات،لم تمارس سوى القمع والتنكيل والقهر والعقاب والإستبداد،وكذلك إفقار الجماهير وتجويعها ومحاربتها في لقمة عيشها،وعدم نجاحها في بناء مجتمعات المواطنة الكاملة لدولها بكل مكوناتها ومركباتها،تدفع تجاه تنامي وتجذر وتّسيد مثل هذه الظواهر في المجتمع،والتي تنفجر بسبب القهر والضغط الداخلي على شكل مشاكل إجتماعية و"طوش" تتحول الى إحتراب عشائري وقبلي واسعين، تذكرنا بحروب "داحس والغبراء" و"البسوس" و"الأوس والخزرج" في تاريخنا،والتي كانت أسبابها تافهة،وما نشهده الآن هو إمتداد وتكرار لما حدث بأشكال أخرى،فكل " الطوش" والمشاكل الاجتماعية وقضايا الإحتراب القبلي والعشائري قامت وتقوم  لأسباب ليس لها أي مضمون جوهري،او ذو شأن يستحق مثل هذه الحروب والمعارك العشائرية والقبلية،والتي في حالة إندلاعها نكتشف بأن الرابط العشائري والقبلي يتقدم على أي رابط او وازع وطني، دم،ديني،قيمي واخلاقي،ونظهر بأننا شعوب بوهيمية بدائية تتقاتل وتتصارع بين بعضها البعض بوحشية، وبأننا نحقد على ذاتنا وأبناء جلدتنا اكثر من حقدنا على من يحتل ويغتصب أرضنا ومقدساتنا،وكأننا هنا نفرغ ونعبر عن عقدة النقص وعدم القدرة على مقارعة عدونا بالإحتراب والإقتتال الداخلي بمظاهره القبلية والعشائرية والجهوية.

علينا ان نعترف بان هناك حالة من التخلف تسود مجتمعاتنا العربية،فأغلب هذه المجتمعات،هي مجتمعات قبلية إستهلاكية،يسودها تشوه بنيوي عميق،لم تتطور فيها القوى الإنتاجية بشكل طبيعي،بل هي نتاج إقتصاد ريعي استهلاكي،لم تخلق قاعدة اقتصادية مادية صناعية او زراعية مدنية،ولذلك بقيت العلاقات الاجتماعية متخلفة،على مستوى الفكر والوعي والممارسة...ومما زاد الطين بِلة في السنوات الأخيرة،هو تسييد القراءات المتطرفة للدين،التي لا تكفر اتباع الديانات الأخرى،بل اتباع الديانة نفسها من المذاهب المختلفة،وتراجع الفكر التنويري الحداثي المؤمن بالتعددية الفكرية والسياسية وإحترام الاخر والمواطنة الكاملة،بحيث بات المواطن يشعر بإغتراب في وطنه وخطر جدي على حقوقه وحريته وكرامته الشخصية،مما ولد عنده قهر داخلي،دفعه بإتجاه التقوقع على ذاته أو الهجرة ومغادرة المجتمع،أو اللجوء لل"مافايات" العشائرية والقبلية لحمايته.

المراحل الطويلة والحقب التاريخية التي تعرضت فيها مجتمعاتنا العربية عامة والمجتمع الفلسطيني خاصة الى الإستعمار وما رافق ذلك من وعي وثقافة  مشوهتين،والقراءات المتطرفة للدين وتوظيفه وإستخدامه من قبل أنظمة وحكومات وأحزاب لخدمة أهدافها ومصالحها وحكمها وسيطرتها،وإستبدادها وسيطرتها المطلقة على الدولة والثروات وعدم العدالة في توزيعها،وإعتبار تلك الدول بمثابة ممالك وإقطاعيات خاصة بها،ومحاصرة وقمع أي فكر تنويري يطالب بالتغيير واوسع مشاركة في القرار والحكم والعدالة في توزيع الثروات ،وانتشار مظاهر الجهل والتخلف والدروشة والغيبيات،كلها عوامل ساهمت في إحتجاز تطور مجتمعاتنا العربية عامة ومجتمعنا الفلسطيني خاصة.

أخفقت القوى والأحزاب والحكومات الوطنية والتقدمية والعلمانية في مرحلة المد الوطني والقومي في بناء مجتمعات ديمقراطية تعددية،وتحديث وتصنيع الدول،ولنشهد في مرحلة الإنهيار والهزيمة حالة من الإرتداد الى العشائرية والقبلية والقطرية والجهوية.

حالة الإرتداد تلك عمقت من الأزمات المجتمعية،ترافق ذلك مع أزمة شمولية أصابت الموالة والمعارضة وحتى الجماهير الشعبية،والتي أصبحت تنشد الخلاص من خلال الغيبيات والإنغماس في التطرف والجهل.

ولذلك نرى بان ممكنات الخروج من أزماتنا العميقة ممكنة وقائمة،شريطة ان يكون هناك إقرار بوجود هذه الأزمات،وبالمقابل توفر قوى وأحزاب ومؤسسات  مؤمنه وقادرة على حمل لواء التغيير،ومستعدة لدفع الثمن والتضحية في سبيل ذلك،غير مكتفية بنقد الواقع وتشخيصه من باب رفع العتب،بل تسعي بشكل تراكمي للتغيير في أفكاره وقناعاته،هذا التغيير يجب ان يكون وفق استراتيجيات واضحة توضع لها الخطط والبرامج والأليات تستهدف فيها الجماهير والعائلات من البيت الى المؤسسة التعليمية فالمؤسسات الدينية،من حيث نوعية التعليم والمنهاج وما يبث من خطب وتراتيل دينية،وما يجري التثقيف به من خلال ورش عمل لهذه الغايات متخصصة،وكذلك خلق مؤسسات وفضاءات إعلامية وثقافية تركز وتشدد على  وحدة المجتمع والإنتماء له،وتبين مخاطر العشائرية والقبلية على النسيج الوطني والمجتمعي،وأيضاً تعمل على محاربة وإجتثاث الفكر الإنغلاقي والإقصائي والتكفيري،القائم على تخوين وتكفير ومطاردة الشركاء في الوطن،بإدعاء إمتلاك الحقيقة المطلقة وبأنهم وكلاء الله على الأرض.

اذا لم نعترف بوجود خلل بنيوي وازمات عميقة لدينا ،نتاج فكر ووعي وثقافة وقراءة متطرفة للدين،فإن أزماتنا ستستمر في التعمق،وسنستمر في "طحن" انفسنا وتدمير ذاتنا،ولنشهد المزيد من التفكك والإحتراب العشائري والقبلي على غرار "داحس والغبراء" و"البسوس" و"الفجار" وغيرهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق