الحلقة الأولى
كانت اللغة بشعرها ونحوها ورواياتها تتربع عرش الثقافة والمجتمع ومجالس الخلفاء والوزراء في العصر العباسي الأول وبدايات الثاني ، وكان للنحو العربي منزلة ما بعدها منزلة ، تعقد له المجالس ، وتدار له الحلقات في الساحات ، ويدور حوله الجدال والنقاش ، المهم مالئ الدنيا وشاغل الناس ..، وإليك بعض المشاهد مما كان ، وعلى الله التكلان ...!!
مشاهد تعدد وجوه الإعراب ، ودقّة اللغة العربية :
المشهد الأول :
بالرغم من قوة حفظه ثعلب -أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني ( 200 هـ - 291هـ /815م - 903م) إمام الكوفيين - كان يأخذ الكلام على عدة وجوه ، بارعاً في التعليل يذكر بلسانه كما ورد في ( بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ) لمؤلفه جلال الدين السيوطي : " كنت أصير إلى الرياشي لأسمع منه ، فقال لي يوماً ، وقد قـُرئ عليه :
ما تنقمُ الحربُ العوان مني***بازلُ عامين صغيرٌ سنـّي
( لمثلِ هذا ولدَتني أمّي)
كيف تقول : بازلُ أو بازلَ ؟
فقلتُ : أتقول لي هذا قي العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا ، يروى بالرفع على الآستئناف ، والنصب على الحال ، والخفض على الإتباع فأستحيا وأمسك ."
وقد نقل هذه المجالسة ابن هشام في المغني، الباب الأول، والباب الثامن ، كما نقل هذه المجالسة السيوطي في الأشباه والنظائر، الفن السابع، فن المناظرات والمجالسات .
الإعراب :
(بازلُ) بالرفع تأتي خبراً لمبتدأ محذوف تقديره ( أنا) ، أي ( أنا بازلُ عامين ) ، والجملة مستأنفة .
والخفض ( بازلِ) تأتي على البدلية ، بدل كلّ من كلّ لياء المتكلم في ( منّي) ، وهذا اجتهاد ضعيف لأن بدل الظاهر من ضمير المتكلم لا يكون إلا حيث تكون الإحاطة والشمول. ( الأخفش لا يشترط الشمول) ، يمكن السير على مذهبه في البدلية.
والنصب على أنه حال من ياء المتكلم.
ويذكر الشيخ الطنطاوي في ( نشأة نحوه ...) :العوان: من الحروب التي قوتل فيها مرة، والبازل: اسم فاعل من بزل البعير إذا طلع نابه ، ويطلق البازل أيضا على الرجل الكامل في تجربته وعليه فلا تشبيه في البيت والشعر لأبي جهل قاله يوم بدر أو تمثل به.
هذه الحادثة التي وقعت بين ثعلب الكوفي مدرسة ً، والرياشي البصري سبقت سنة (259 هـ / 871م) . لأن أبا الفضل عباس الرياشي ، وكان أسود قتل في ثورة الزنج في السنة المذكورة سابقاً ، وهو من جذام ، له ( كتاب الخيل) و (كتاب الأبل) ، وهذا (ثعلب) كان مقتراً على نفسه ،فجمع ثروة ، وله عدة مؤلفات : المصون في النحو ، معاني القرآن ، اختلاف النحويين ، معاني الشعر.
المشهد الثاني :
في كتاب: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك لمؤلفه : علي بن محمد بن عيسى، أبو الحسن، نور الدين الأُشْمُوني (المتوفى: 900هـ) الناشر: دار الكتب العلمية بيروت- لبنان الطبعة: الأولى 1419هـ- 1998مـ ج 1 ص 529 - 530
حكم الاسم الواقع بعد (لا سيما)
خاتمة : جرت عادة النحويين أن يذكروا (لا سيما) مع أدوات الاستثناء؛ مع أن الذي بعدها منبه على أولويته بما نسب لما قبلها.
ويجوز في الاسم الذي بعدها الجر والرفع مطلقا ، والنصب -أيضا - إذا كان نكرة، وقد روي بهن قوله - من الطويل - ( الشاهد 469) :
ألاَ رُبَّ يَــوْمٍ صَــالِــحٍ لَــكَ مِــنْــهُــمَا ***وَلاَ سِـــيَّــمَــا يَــوْمٌ بِــدَارَةِ جُــلْــجُــلِ
(469التخريج: البيت لامرئ القيس في ديوانه ص10؛ والجنى(
اللغة:
منهما: يقصد عنيزة وصاحبتها في الهودج. دارة جلجل: موضع فيه غدير ماء.
المعنى:
هناك أيام كثيرة تصلح للعيش مع هاتين الحلوتين، وخصوصا إذا كان المكان جميلا كدارة جلجل، حيث طاب لنا اليوم فيه.
الإعراب:
ألا رب:
ألا : حرف استفتاح،
رب : حرف جر شبيه بالزائد.
يوم: اسم مجرور لفظا، مرفوع محلا على أنه مبتدأ.
صالح: صفة (يوم) مجرورة على اللفظ بالكسرة.
لك: جار ومجرور متعلقان بخبر (يوم) .
منهما: جار ومجرور متعلقان بخبر (يوم) أيضا.
ولا سيما:
الواو : للاستئناف، لا : نافية للجنس، سي : اسمها منصوب بالفتحة؛ وخبرها محذوف، ما:
نحن شغلتنا في إعراب (ما) ، ووجوه إعرابها :
( ما ) :
أ - يجوز أن تكون(ما) زائدة فيكون (يوم) مجرورا بالإضافة إلى (سي) .
ب - ويجوز أن تكون (ما) موصولة في محل جر بالإضافة إلى (سي) وعليه يكون (يوم) مرفوعاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ وتقدير الكلام: ولا مثل الذي هو يوم يوم، والجملة من المبتدأ وخبره لا محل لها من الإعراب صلة الموصول .
ج - ويجوز أن تكون (ما) نكرة تامة في محل جر بالإضافة إلى (سي) . أيضا، وعليه يكون (يوم) منصوبا على التمييز.
وجملة (ألا رب يوم لك منهما) : ابتدائية لا محل لها. وجملة (ولا سيما) : استئنافية لا محل لها.
والجر أرجحها، وهو على الإضافة، و (ما) زائدة بينهما، مثلها في " أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ".
وجاء في كتابي ( نشأة النحو العربي ومسيرته الكوفية ) صفحة 55 - طبعة دار الحصاد - دمشق 2003م عن (لاَ سِـيَّــمَـا) قولي:
ويرفض صاحبنا - أعني ثعلباً- استعمال (لاَ سِـيَّــمَـا) دون حرف ( الواو) قبلها ، ويقول : " مَن استعمل ( سِيّ)على خلاف ما جاء على لسان امرئ القيس في بيته من معلقته :
ألاَ رُبَّ يَــوْمٍ لَــكَ مِــنْــهُــنَّ صَــالِــحٍ ***وَلاَ سِـــيَّــمَــا يَــوْمٌ بِــدَارَةِ جُــلْــجُــلِ
فهو مخطئ."
وهذه المقولة ورواية بيت امرئ القيس كما وردت في كتابي نقلاً عن ( مغني اللبيب ) لابن هشام الأنصاري. و البيت في ( شرح المعلقات السبع ) للزوزوني وغيره أيضاً ورد هكذا .
وجاء في الهامش رقم ( 3) ، وفي الصفحة نفسها، تعريف لكلمة (سِيّ) قولي :
سِيّ : اسم بمنزلة مثلٍ وزناً ومعنى ، وعينه في الأصل واو وتثنيته ( سِيّان) ، وتشديد يائه (سِيّ) ، ودخول (لا) عليه ، ودخول ( الواو) على (لا) واجب حسب ثعلب ، ويجوز في الاسم الذي بعدها الجرّ والرفع مطلقاً ، ، والنصب أيضاً ، إذا كان نكرة ، والجر أرجحخا ، وهو على الإضافة ، و( ما ) زائدة بينهما .
المشهد الثالث :
عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117 هـ /735 م)، وهو أبو بحر، كان ملماً بالعربية والقراءة، إماماً فيهما، وكان شديد التجريد للقياس، ويقال : إنه أول من علل النحو، وقد نقل في حقـّه أبو الطيب اللغوي في ( مراتب النحويين) بأنـّه " أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه " ، والحقيقة كان مولى لآل الحضرمي، وآل الحضرمي من موالي بني عبد شمس بن عبد مناف، ومن المضحك لمّا هجاه الفرزدق قائلاً:
فلو كان عبد الله مولى هجوتهُ*** ولكنَّ عبد الله مولى مواليا
وكان عبد الله هذا كثيراً ما يرمي الفرزدق باللحن ، فقال للفرزدق على هذا البيت : لقد لحنت أيضاً في قولك (مولى مواليَ ) ، كان ينبغي أن تقول ( مولى موال ٍ).
والحق هذا تحرش من الحضرمي بالفرزدق، إذ يذكر أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس في (شرح أبيات سيبويه): إنّ سيبويه استشهد بهذا البيت على أن بعض العرب يقولون ( مررت بجواريَ) بالفتح، كما جاء في بيت الفرزدق، والألف في بيته للإطلاق، وهذا لا يُخفى ، بل يزيد النحاس نفسه ( ت 338 هـ / 949 م)، وهو محسوب على البصريين: " أراد موالٍ فحرك الياء وفتحها لأنها مفاعل ومفاعل لا ينصرف كما لا ينصرف مساجد ".
المشهد الرابع :
يذكر أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري في مؤلفه (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) :
" كان عند المهدي مؤدب يؤدب الرشيد ، فدعاه المهدي يوماً وهو يستاك ،فقال له : كيف تأمر من السواك ؟ فقال : استك يا أمير المؤمنين ، فقال المهدي : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم قال : التمسوا لنا من هو أفهم من هذا الرجل ، فقالوا : رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريباً ، فكتب بإرجاعه من الكوفة ، فساعة دخل عليه قال : يا علي بن حمزة ..فقال : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : كيف تأمر من السواك ؟ فقال سك فاك يا أمير المؤمنين ، فقال : أحسنت وأصبت وأمر له بعشرة آلاف درهم " ، ويذكر بروكلمان في ( تاريخ الشعوب الإسلامية) أصبح الكسائي من يومه معلماً للرشيد ، ومن ثم عهد إليه الرشيد تأديب ولده الأمين ، ومن خلال المسواك واستك وسك فاك تسيدت الكوفة أكثر من قرن ونصف على الحياة الاجتماعية و السياسية ، أي من خلافة المهدي (158 - 169 هـ /775 - 785م) إلى أن تراجع شأن الكوفة وضعفت مكانتها العلمية في أوائل القرن الرابع الهجري كما ذهب لويس ماسينيون في ( خطط الكوفة وشرح خريطتها) .
المشهد الخامس :
بعد أن عهد الخليفة المهدي للكسائي بتأديب ابنه الرشيد ، وحين استلم الرشيد زمام خلافة المسلمين أخذ يجالسه في مجالسه الخاصة ، بل كان له المقام العلمي الأول ، فأصبح الأصمعي ، ومن هو الأصمعي ؟!! أبو عبد الملك (ت 213 هـ / 828 م من مشاهير لغوي العرب ، تلميذ الفراهيدي وأبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر في البصرة ، والذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنه الأمين ، راوية العرب الأكبر ، أقول هذا العملاق البصري أصبح يصمت أمام الكسائي الكوفي ، ولا يجابهه إجلالاً له ، أو خشية منه بالرغم من أنهما كانا ملازمين للرشيد يقيمان بإقامته ، ويظعنان بظعنه ، وأبو يوسف الكوفي (يعقوب بن إبراهيم)(ت 182 هـ /798 م) ، وهوأول من دعي بقاضي القضاة تلميذ أبي حنيفة ، ومن أكبر أصحابه ، أصبح أيضاً يخشى كسائينا الكوفي ، ولا يتدخل في شؤونه .
يحدثنا الزبيدي الأندلسي في ( مراتب النحويين واللغويين) : " دخل أبو يوسف على الرشيد ، والكسائي عنده يمازحه ، فقال له أبو يوسف: هذا الكوفي قد استفرعك ، وغلب عليك ، فقال : يا أبا يوسف ...إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليه قلبي ، فأقبل الكسائي على أبي يوسف ، قال : يا أبا يوسف ...هل لك في مسألة ؟ قال : نحو أو فقه ؟ قال : بل فقه ، فضحك الرشيد حتى فحص برجله ثم قال : تـُلقي على أبي يوسف فقهاً ! قال : نعم ، قال : يا أبا يوسف ...ما تقول في رجل قال لأمرأته : أنت طالق إن دخلت الدار ؟ قال : إن دخلت الدار طلقت ، قال أخطأت يا أبا يوسف ، فضحك الرشيد ، ثم قال : بين الصواب ؟ قال : إذا قال : " أن" فقد وجب الفعل ، وإذا قال " إن" فلم يجب ، ولم يقع الطلاق ، قال : فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي " .
ما بين (إنْ) و (أنْ) يتوقف مصير الزواج أن يستمر العناق أو يتمَّ الطلاق ، ففراق.....ونحن نفترق على أن نلتقي في مشاهد أخرى بحلقة أخرى .... لعلكم تتذكرون يا أولي الألباب ...!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق