معضلة إصلاح الأنظمة الدكتاتورية (1)/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

الدكتاتورية من أفشل أنظمة الحكم ليس لأن الدكتاتور شخصاً فاشلاً فهو بالتأكيد ليس كذلك؛ فقد استطاع النجاح بالوصول إلى سدة حكم مطلق وحافظ عليه بقوة بوليسية ومليشيات مسلحة ومرتزقة تنفذ سياسته وتقمع معارضيه بقوة ؛ لكن الفشل الذى نتحدث عنه هو فشل النظام وليس الفرد لأن الحكم الاستبدادى هو راعى لمصلحة خاصة هى مصلحة الطبقة الحاكمة سواءً كانت تلك الطبقة حزبية أو إثنية أو طائفية وقومية أو اجتماعية أو حتى خليط من كل أولئك؛ وتبقى تلك الطبقة شريحة الأقلية أمام طبقات المجتمع العريضة التى هى حتماً بلا راعى أمين لمصالحها في ظل النظام الدكتاتورى البوليسى الذى يتحول مع الوقت لنظام خاص لطبقته دون باقى الشعب، وليس بمقدور نظام كهذا التخطيط إلا لمصلحة تلك الطبقة وبقائها في الحكم ومع مزيد من الوقت يتصلب التفكير الاستراتيجى لذلك النظام فلا يملك إلا أن يعيد نفسه ويكرر نفس تجاربه حتى لو كانت فاشلة في خضم تلك المنظومة ومع ترسخها في الحكم ومع مرور الوقت يفقد النظام الدكتاتورى شىء فشىء الشعور بباقى طبقات الشعب من غير طبقته الحاكمة، ويتصرف على أساس أن تلك الأغلبية الصامتة هى فعلياً أغلبية ميتة على الأقل في التأثير السياسى عليه وهذه المرحلة عادة تكون الشيخوخة وهى آخر سنوات في عمره لأنه وببساطة إنكار الموجود لا ينفى وجوده بقدر ما يستفزه لفرض وجوده  وبقدر الانكار يكون الفرض؛ وهذا الفرض قد يأخذ أشكالاً عدة ولكنه في المحصلة يعرف في علم السياسة بالثورة الشعبية وهى عملياً ردة فعل إنسانية طبيعية ومنطقية لما يتعرض إليه الشعب من ظلم واضطهاد من دكتاتوريه حكامه.
إن إصلاح الأنظمة الدكتاتورية لا يأتى من داخلها قط لأن أى محاولة إصلاح حقيقية تعنى إنهيار المنظومة الدكتاتورية والدولة معاً بأسرع مما هو متوقع؛ وأمامنا في التاريخ الحديث تجربة البروستريكا السوفيتية والتى ما أن بدأت حتى انهارت المنظومة السوفيتية والدولة كذلك في سنوات معدودة لأن الاصلاح كان من داخل المنظومة فقط فلم يشرك الحزب الشيوعى السوفيتى أى أطراف من خارجه في صياغة البروستريكا ربما لانعدام وجود تلك الأطراف بشكل حقيقى في حينه، ولكنه في المقابل هناك تجربة بولندا في حينه وتجربة جنوب أفريقيا لاحقاً أديتا إلى انهيار النظام الشيوعى البولندى وانهيار نظام الأبرتهايد ، لكن لم تنهار الدولة البولندية وكذلك لم تنهار جنوب أفريقيا على العكس لأن الاصلاح شارك فيه الآخر والذى تمثل في نقابة التضامن بزعامة( ليخ فاولسا) في بولندا؛ والمؤتمر الوطنى الأفريقى بزعامة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وبغض النظر عن قدر الحكمة والفكر الاستراتيجى والوطنية لكلا من فاولسا ومانديلا في قدرتهم وبراجماتيتهم فى العبور ببلادهما من المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية والاستقرار؛ إلا أن بيت القصيد يكمن في كلا الحالتين البولندية وجنوب أفريقيا في أن الاصلاح لم يدره الحزب الشيوعى البولندى بزعامة(فويتشخ ياروزلسكى) ولا نظام الأبرتهايد بزعامة (فردريك ويليم دي كلرك) بمفردهما بل أشركا المعارضة لهما في عملية الاصلاح، وذلك ربما لحكمة الرجلين أو لحكمة إلاهية منعت أن يؤل مصير بولندا وجنوب أفريقيا لمصير الاتحاد السوفيتى .
إن أى دكتاتورية تدعى أن بمقدورها الاصلاح والتقدم هى في الحقيقة لا تخدع شعبها بقدر ما تخدع نفسها  فهى تسير بعكس اتجاه الزمن لأنها ببساطة تدور في نفس فلكها الذى لا مكان فيه للآخر وستكرر نفسها لأنها لن ترى في فلكها غير نفسها بتلك النرجسية الساذجة؛ وحرى بتلك الدكتاتوريات خاصة تلك التى تمر بأزمات سياسية واقتصادية أن تدرك أن المشكلة الحقيقية هى وجودها، وأن نتيجة وهدف أى اصلاح دون إشراك كافة القوى الآخرى في إدارتها للحكم ومؤسساتها المختلفة هو نفس نتيجة وهدف الثورة وهو ببساطة نهايتها .
أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق