يدعوني ديوان "لاهثاً، يبتلع الهواء" الى رحلة أكتشف فيها ما في داخله، يحثني أسم الشاعر بدوي الحاج على ركوب امواج شعره بجمالياته وثورويته. ويتحداني العنوان المتربع على الغلاف الأنيق. واذا بي أقبل التحدي من دون ان أدرك كم هي مبعثرة أفكاري هذه الأيام. فأخذت أتصفح صفحات الديوان لتحملني الرغبة على أكتشاف المزيد من فكر بدوي الحاج المسافر على متن وجدانياته وتمرده ومشاغباته وعشقه ووطنيته ومقاومته بحثاُ عن غدٍ يفيض بثمار الحلم...وعن أستقرار ما برح يتأرجح بين تناقضات المثالية الحالمة والواقع المقلق... "غدا، يحلو القطاف..! نفرش التراب حبا ونلتحف غيوم السماء" (ص 14).
وتنطلق بنا الأفكار الى ذلك الغد لنحلق صعوداً نحو فضاء الشعر المنعتق كما كاتبه من قيود إرضاء هذا او ذاك، ومن متطلبات المسايرة ونثر الأطراء المتطاير مع هواء المزاجية، ومن داء "الأنا" المزمن الذي يلحق الأذى بصاحبه قبل سواه، فتخطفنا القصائد والنثريات وتحثنا على التمعن بما ترسمه ريشة الشاعر الذي يرفض الإمتثال إلا الى إرادته الثائرة، وترتقي بنا الى ملامسة أعماق الأدبيات التي صقلها بإتقان لتصبح أكثر نضجاً ودلالة منذ ما قبل "ولو بعد حين" وفيه وبعده. وهنا تكمن براعة الكاتب في مرافقة القاريء الى حيث تكمن الفكرة وتتكون القصيدة ويتألق الخيال. ويثمر إصراره صياغة سلسة تدق باب الحنين الى تلك البيوت و"كم من العصافير عادت، ولم تجد بيوتها؟!" (ص 116).
لم يعد بدوي الحاج في "لاهثاً، يبتلع الهواء" ذلك الكاتب الموهوب "المغمور" الذي يتفادى أعباء "مهنية" كتابة الشعر، مبرراً ذلك بكونه ما زال من الهواة، بل دخل الى أحترافية الشعر من الباب الأجمل والأوسع والأنقى بصورة دائمة ترجح كفة "الشاعر"على "المهندس" في الرسم على بياض الورق المتعطش الى ابداع ينبعث من الروح، ويحلق بين الأرض والسماء، بين الولادة والموت، بين الملح والماء، و بين الروح والجسد.
فبدوي بات يغوص أكثر من ذي قبل في صناعة التعابير الشيقة، الموجعة، الحنونة، الجريئة، المتمرسة، المقدامة، والقاسية احياناً، فيكتب معترفاً بما يعانيه من عطش الى الأفراج عن إبداع لا سقف له ولا ابواب مغلقة... ولا حواجز تعيق دربه... "كلما أمطرت...أشعر بالعطش أكثر! شفاهي لم تذق منذ دهر قطرة ماء من لعاب تلك الغيوم الشاردة!" (ص 28).
ويتواصل الصراع الوجداني بين الروحانيات والماديات وكأن الأغراء المتمترس في سحر العيون يقبض على مشاعر الكاتب ويتحكم بإرادته الحائرة التي ترتضي لذاتها ان تقع في أسر الجمال الفتان، حتى لفافة التبغ نخالها واحدة من تلك الحسناوات "تداعب أناملي خصرها... تداعب شفاهي أنفاسها" (ص54) ويتابع بشغف أنضجته الأمسيات المعتقة بنبيذ العشق.. "يأخذني الأزرق عميقاً...بين الروح والجسد ...ما بين الملح والماء!" (ص 56).
ومن الواضح ان الثورة على الظلم والكراهية تأخذ مداها كمقام أساسي من مقومات الأسلوب الأدبي الأندفاعي الذي يعتمده بدوي الحاج، ولذلك لا يتردد بالصراخ بوجه المتخاذلين في نداء خطته المعاناة فيدعوهم الى الأهتداء بنور المعرفة والوعي والعزيمة سعياً وراء تكسير أغلال الظلام، ووراء تغليب مشيئة التفوق على الذات المتكاسلة فيكتب"غير مبال بفرح المكان"... "في العتمة، كل شيء مباح! يصعب تبيان المنتصر.. إبحثوا عن النور... حطموا جدار الليل!" (ص 63). ولا يكتفي بتلك الصرخة، بل يضيف اليها صيحة من صميم الحسرة على حالة مذرية تبدو آفاقها مغلقة، لا بد من ان يهز بها بعض الضمائر في مكان ما من عالمنا العربي... "كيف لنا ان نقود ثورة!؟ وفي عروقنا خمول...وفي رؤوسنا ذهول...فوق سطوح الأبنية الفخمة..!" (ص 85).
يتناول بدوي الحاج بأسلوبه الشعري الأنيق فكرياً ولغوياً قضايا انسانية تهم كل العالم، من دون ان يتغاضى عن جذوره وهو المدرك ان من يتنكر لجذوره يفتقر الى "قاعدة الأنطلاق" المركزية الراسخة في الجينات التي ساهمت في تكوين كيانه وطبيعته وأخلاقياته. وليس هنالك ما هو أنبل من الوفاء للوطن، الوطن الأم، والوطن البلدة، والوطن الأنسان، والوطن المقيم في قلوب منتشرة في كافة أرجاء المعمورة ... "في حضن أمي، وطن وملجأ ومسبحة صلاة...!" (ص 111). وما من شيء في الدنيا يترك أثره على شخصيتنا مثل حنان الأم وصلاتها التي لا تتوقف حتى بعد الرحيل لأنها ترحل الى حيث الصلاة هي الوطن والملجأ.
لقد أثبت بدوي الحاج في انتاجه الجديد انه يمتلك أساليب الرصد الفكرية القادرة على التقاط وتظهير الصور المعبرة التي تجعل من "الكهف" يراقص الموج، والثورة تعانق ارادة الحياة، والحرية ترتفع راية من روح وليس من قماش.
"لاهثاً، يبتلع الهواء" يحمل الكثير مما هو عليه الشاعر من أدب وفكر وقيم، فهنيئا له ولنا بديوان يحرك سكون العتمة في ليل الغربة مضيئاً بعض خيوط النور التي تجعلنا نرى تلك الأرض البعيدة في سطر، في خاطرة، في قصيدة تنثر شذاها داخل القلوب والعقول، وفي مشاعر تستريح على كتف غيمة.
ومع بدوي الحاج نردد "أعظم الأبطال...فلاح..يغرس في كل أرض وطناً!"... والى المزيد من الغرس والقطاف الصالح.
(ديوان "لاهثاً، يبتلع الهواء" هو الثالث للشاعر بدوي الحاج، من 120 صفحة، صادر عن دار المؤلف بيروت، وسيتم إطلاقه في سيدني مساء السبت في 9 ايلول 2017 في قاعة كاتدرائية سيدة لبنان هارس بارك سيدني)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق