قلنا في مقالنا السابق "معركة جرود عرسال في إطارها الأشمل" إن الأزمة الشامية دخلت في مرحلة التفكيك والفرز. وقصدنا بالتفكيك طريقة التعامل الميداني مع بؤر التوتر حيث أقيمت مناطق "خفض التوتر" في بعض الجبهات، في حين تصاعد العمل العسكري الحاسم في أنحاء أخرى. ويترافق ذلك مع ضغوط إقليمية ودولية على "قوى المعارضة" لحزم أمرها في ما يتعلق بانخراطها في المسار السياسي، ما يعني ضرورة الفرز بينها وبين "الجماعات المسلحة" المصنفة إرهابية.
كان المبعوث الأممي المكلف ملف الأزمة الشامية ستيفان دي مستورا شديد الوضوح عندما وضع "المعارضة الشامية" أمام الاستحقاقات المطلوبة. فقد قرر تأجيل اجتماعات جنيف ـ 6 إلى ما بعد اجتماعات آستانة ـ 6 لأن "أطياف المعارضة تمر حالياً بمرحلة صعبة في مناقشاتها الداخلية، ولا داعي لإجبارهم إذا كانوا غير جاهزين حتى الآن"، حسب تعبيره حرفياً. غير أنه عمّق الجرح بقوله في المؤتمر الصحافي ذاته إن على المعارضة ان تتوحد حول "رؤية واضحة".
ويبدو أن رسالة "التهديد غير المباشر" هذه لم تستطع أن تردم الهوة بين "الإئتلاف" الذي يتخذ الرياض مقراً له من جهة وبين منصتي القاهرة وموسكو من جهة أخرى، على الرغم من المباحثات المكثفة التي استضافتها العاصمة السعودية قبل أيام. فقد فشلت مساعي التقريب بين الأطراف الثلاثة خصوصاً في مسألة مرحلة الحكم الانتقالي ودور الرئيس الشامي بشار الأسد فيها. وحتى لا يخرج المجتمعون بفشل ذريع، جاء الإعلان الخجول عن توافق مبدأي على تشكيل وفد موحد إلى جنيف ـ 6... من دون برنامج عمل موحد!
لكن وزارة الخارجية القازاخستانية التي تستضيف اجتماعات الآستانة أعلنت، بموازاة مفاوضات "المعارضة" في الرياض، أن الجولة السادسة المقررة في آخر آب ستتأجل إلى منتصف أيلول. وإذا تذكرنا أن دي مستورا قال في ذلك المؤتمر الصحافي إن جولة جنيف السادسة لن تعقد ما
لم يتحقق تقدم "جدّي" في آستانة، فهذا يعني أن مفاوضات جنيف مؤجلة حتى إشعار آخر، أو بكلام مباشر: حتى تتكون لدى الأطراف الشامية "رؤية واضحة".
أظهرت التسريبات المتسللة من أروقة اجتماعات الرياض أن بعض أطراف "المعارضة الشامية" ما زالت، إما متخبطة في حبائل المخططات المرتبطة بالخارج أو واقعة في أسر التفكير الإيديولوجي الجامد. ولذلك فهي تتعامى عن المتغيرات الجذرية التي شهدتها الأزمة الشامية خلال الأشهر القليلة الماضية، سواء على صعيد العمل الميداني الذي بات يميل بقوة لصالح الدولة الشامية، أو على مستوى التبدل الكبير في تعاطي القوى الإقليمية والدولية مع تلك الأزمة. ولذلك فهي غير جاهزة، بل وليست قادرة في بنيتها الراهنة على إنتاج "الرؤية الواضحة" المطلوبة لإعادة بناء سوريا على أسس تضمن سيادة الدولة ووحدة المجتمع.
وإذا كانت "أطياف المعارضة" غير جاهزة حتى الآن، وفق تعبير دي مستورا، فإن الدولة الشامية يجب أن تبادر لتحمل مسؤولية أساسية في تقديم تلك "الرؤية الواضحة". فالانتصار على الإرهاب في ساحة المعركة لن يكتمل إلا بالقضاء التام على جذوره الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ويجب الاعتراف أولاً وقبل كل شيء، أنه ما كان لـ "الحرب الكونية" على سوريا أن توقع هذا الدمار الهائل لولا وجود خلل داخلي سهّل التدخل الخارجي. وفي الوقت نفسه يجب الإقرار بأن شعبنا السوري الذي صمد وصبر ودفع الثمن الباهظ وانتصر يستحق أن يكون سيداً مكرماً، مالكاً زمام أمره بحرية كاملة.
إن انتصار "محور المقاومة" سيظل ناقصاً ومعرضاً لمخاطر الهجوم المضاد إذا تغيّرت الظروف، ما لم يجد الحماية والاحتضان من مواطن شريك في صياغة مستقبل وطن هو لكل أبنائه بعيداً عن المحاصصة الدينية أو المذهبية أو العرقية. وهنا يكمن دور الأحزاب القومية الديموقراطية العلمانية... لأن القوى المختلفة التي ساهمت في إدخال الشام إلى هذا النفق المظلم قد لا تملك الإرادة والجاهزية لصياغة "رؤية شاملة" تبعد عن السوريين مرارة الكأس التي يتجرعونها حتى الآن!
الحزب السوري القومي الاجتماعي / مفوضية سيدني المستقلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق