جدل العلاقة بين أنا الشاعرة و أنا الموضوعة الشعرية في قصائد المجموعة كتابة على الموج للشاعرة ليلى الداهوكي/ نزار حنا الديراني

تنحاز قصائد الشاعرة اللبنانية العراقية الأصل الى مايشبه الهاجس اليومي ، حيث يحضر الآخر / الرجل  في قصائدها بوصفه رمزا وتحضر الشاعرة بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندها الآخر عبر سيل من الصور الشعرية الجميلة التي تشبه لوحات رسم ،  وبقدر ما كانت قصائد المجموعة مسكونة بالهاجس الأنثوي ، تشتغل الشاعرة على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري  فتتفجر طاقتها في مجموعتها هذه عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس الأنثى، مكونة بذلك مجموعتين من القصائد الأولى تدخل ضمن السيرة الذاتية واخرى هي من نتاج صراعها مع الاخر ... الشاعرة في المجموعة الاولى تحاول ان تؤسس لنفسها عالما طفوليا جميلا  ذو جناحين كجناح الملاك  وفمها يمطر الأناشيد وقلبها يأوي العالم  .. طفولة تحلم بحب ابيض لا يزول حتى النهاية  وهي تحاول المساك بها كما تقول  في قصيدتها أرتعاش ص41
أتوحدُ بالغيمة العابرة ..
أطارد الريح َ..
أمسكها من خصلات شعرها 
وأغدو خلف اللقالق 
تبحث عن وطن بلا جليد ...
الشاعرة لا تحلم إلا بعالمٍ  مفرداته محبرة والوان وورق ، طفولة  تتزاوج  اصابعها والقلم لتنتج  صورا جميلة لارهاصاتها وهواجسها  ، تقول في قصيدتها ورقة في مهب الريح ص71
كنتُ صغيرةًً
كلُ العالمِ من حولي
لوحةُ بهاءِ
تلاحقني الفراشاتُ ...
أجاور العصافير في تحليقها
أصادف ُ الأشجار
والحقولَ تطلب اللجوء الى كفي
وهكذا في قصيدتها أحلام اليقضة ص77 
فراشة أنا أطيرُ بين الحقولِ
أجالس الآنهار
أسترق السمع الى تغريد العصافير ...  
إلا أنها لم تكن تدري أن الواقع سيغير حلمها الى صراع يومي فالمكان التي تعيش فيه  ليس مكانا للحالمين الطيبين كما تقول في قصيدتها متى تكبرين ص61
أيتها الصغيرة
ليس العالمُ مكاناً للطيبين
تسبقك الفراشات ُ
تتساقط دونك الأمطار
تهرب منك الحقول
كأنك زهرةُ في بستان شوكٍ
طفلُ غريب في أحشاء إمرأةِ
دمعةُ لا تزال معلقةً في سماءِ المقلتين
منذ أول قصيدة تقرأها ستجد نفسك امام هواجس أنثوية بريئة تحمل بين طياتها تراصف من الصور المتجسدة والمتراسلة  للأنا والآخر عبر الإيقاع الذاتي وسط صراع مشروع تنشغل به الذات الشاعرة بحثا عن النبع والمصير الذي تعكسه مرآتها بما تحوي من مشاهد حاضرة تعج بعناصر الخوف من الفعل اليومي للآخر لذا تراها تتحرك  كغيرها من الشاعرات اللبنانيات التي تعرفت على تجربتهن بقوة الرعب المتأصل في الذات المصابة بخوف مستديم  طفوليا بسبب ما حملته مسيرة المجتمعات الشرقية فيما يخص أنا / الرجل ، وأنت / المرأة  ، تلك الذات التي ما إن فتحت عيناها على الحياة إلا وهي تحلم بالولوج إلى الباطن الصافي الخالي من الشوائب  وكما تقول الشاعرة ليلى في قصيدتها  اللذة ص21:
اللذةُُ الأكيدةُ
أن ترى صداك في الآخرين ...
أن تشعر بقيمة ما تعطي ...
حين تجود بكل ما لديك بلا مقابل ...
حين تكتشف على وجوه الآخرين
بسمتك أنت
وإن لم يكن كذلك ما نفع أن تقف المرأة أمام المرآة لساعات لو لم تكن تنوي أن تحرك هواجسها لتعكس البسمة بشكلها الجميل والمثير لتطبع على عينا الآخر صورة مستقبلية للوجود الأنساني الخالد ، بدلا من ان تختفي فجأة وتتلاشى ويتلاشى معها التخيلات المتحفزة  في أعماق الذات الأنثوية لتتحول الى رؤى الأحلام والكوابيس , والمرئيات التي تتحسسها الأنثى بكاهلها من الهواجس التي تنتابها رعباً وخوفا وتتمركز في ذاتها لتشغل الفكر أو قد تعطلهُ مما يجعلها تثور على عمق مجتمعها ، ، هذا التحسس من الزوال أوجد لدى الأنسان ردة فعل تجاه الآخر خوفا من أن  يفقد التوازن فتتحول البسمة الى ثورة عارمة تدور في بؤرة الرعب على مسار التقاليد بهذا الأسلوب ترسم الشاعرة ليلى الداهوكي لوحاتها الجميلة في مجموعتها (  كتابة على الموج ) الصادرة عن (دار درغام للنشر  ) . حتى تبدو القصائد وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناها المنطوية ،القلقة، ولحدسها المشغول بالمراقبة، والبحث عن المُضمر والغائب وغير الآمن في المكان واللغة..
التأويل يقودنا إلى متابعة الحدث وما تفضي به العنونة ( الكتابة على الموج ) والموج مفردة بحالها تفضي بنا إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك أمامنا هذا ما دفعنا وأياها للبحث عن مديات بعيدة إفتعالاً - قصدياً ، لذا نراها توظف أفكارها فلسفياً بتعبيراتها الرومانسية المثيرة لتعكس كزميلاتها ردة فعل إحباطها بفعل التغييرات الحاصلة في ما يعكسه الآخر تجاه ما تقدمه له مما تراه أجمل ما لديها لذا ترها تتساءل في قصيدتها أي كائن أنت ص33
أي كائن أنت ؟
تأمل جيدا مرآة ذاتك ...
هل أنت حقا أنت  ؟ ...
إلا أنها في قصيدتها توق ص29 تعبر الشاعرة عن ما في قلب الإنسان من عاطفة وأحاسيس متتالية تميل الى العبثية  أحيانا من حيث لا تدري  :
أنت تقويني 
تخفف عني الألم
تراقبني ...
تحتضنني ... 
ومع ذلك 
تسمح لي بالبكاء حتى الأنفجار
الشاعرة تنسج من أحاسيسها قصائد غنائية تنبع من صميم قلبها لتصل إلى قلب المتلقي فيتحول الشعر الغنائي لديها من عاطفته الجياشة وغزله الصريح بمن تحب إلى فكرة ورؤية وأُنموذج . وبذلك اتسع مداه  ليكون قادرا على تجسيد كل ما يحمله الكون من تأمل واستبصار ، وشوق وحنين ، وألم وأمل ، وفرح وحزن، كما تقول في قصيدتها ( الكتابة ص 17)
لا أزال أحملُ وعي الطفولة ..
عشقها الكبير للأبيض والأزرق ..
لا أزال حتى اللحظة ...
أرى الورقة نهرا ..
والقلم .. 
شراعاً ... وزورقاً
وتعد الصورة الشعرية صورة الشاعرة ذاتها / الأنا أو  ذوات  الآخرات / الأنتم ؛ فهي تطرح هذه الذات من خلال نصوصها فتنبثق الذات من خلال الصورة ،  وتنبثق الصورة من خلال الذات الشاعرة. ، وتعد الصورة وسيلة حتمية لمعرفة الأجواء النفسية للشاعرة من خلال محاولتها لرسم صور مثيرة تعمل على إثارة الدهشة والتصادم والمفاجأة  لدى القارئ من خلال ما تجسده عن الاخر  وكما تقول في قصيدتها أحلام اليقظة  ص77 التي تصور نفسها فراشة تطير من حقل لاخر تلامس أشعة الشمس الذهبية وزرقة السماء الصافية :
فراشة أنا ..
كم وجدتُ في أتساع الفضاء 
وجهكَ الجديرَ بالتحليق ...
ولأن الشاعرة جزء من المنظومة الجمعية وهذا ما يجعلها أن تتحدث عن انا وأنتم .. وكيف لا تتحدث عن الأنتم إن كانت كغيرها من الشعراء مرآة مجتمعهم ، فهم دائما يعبرون عن الآخر من حيث يدرون أو لايدرون …
فالأسلوبية التي تعتمد بنية النص لدى الشاعرة تاتي من خلال رؤية شمولية للأشياء من منظور شعري حكائي بقالب غنائي إلا أنه ما يؤخذ عليه هو أقترابها في بعض أسطره من التحليل العلمي أو لنقل من الأسلوب الأنشائي  كونها مارست الصحافة ، لذا رغم حضور أناها الشديد وشدة أنفعالها لا تزال تحافظ على بنية البيت الشعري بدلا من أن تفجره وتعيد بناءه من جديد ، كأسلوبها في قصيدة  اللذة ص21 :  
ليست مجردَ شعور بالأنتشاء ...
هي أكثر عُمقا ..
وليست مجرد إحساسٍ بارتعاش الروح ..
اللذة الأكيدة 
أن ترى صداك في الآخرين
وهكذا في قصائدها ( أي كائن أنت ، تحولات ، برواز ..)  ولكن مع هذا يمكن تصنيف نصوصها ضمن نص القصيدة الغنائية الجميلة وذلك لأتحاد الزمان والمكان في نقطة واحدة وأستخدامها للافعال المضارعة وحيث تتحول هذه الأفعال لديها من الحركة إلى السكون أي من السرد الى الغنائية كما يزدحم مشهدها الشعري بضمير الأنا والآخر فتتحول البنية الشعرية للنص القريب جدا من روح الشاعرة والمربع الدائري الذي تشتغل في أعماقه من سرديته الى مبنى غنائي لا حكائي لانها تحاول ان تقبض على الحكاية لتحولها الى إيقاع النص الداخلي الذي يضخ شعريته من تراصف الصور الجميلة وإيقاع الفكرة الرؤيوية لتنساق مفرداتها وراء إيقاع الزمن الحاضر في مواقف دراماتيكية تتكرر يوميا بأشكال عدة بصرية أو حلمية ولدى كل واحدة من جنسها فتوَلِد المزاوجة بين هذا المبنى الواقعي والمبنى التخيلي في موشورات شعرية عبر مرآة الذات الشاعرة التي تعكس آلامها ومعاناتها وعذاباتها فضلا عما يلعبه الاحساس الدور الاول من حيث الزمن لديها في صياغة ما نطلق عليه اسم الشعر الغنائي "  كما تقول في قصيدتها نقيضان ص69 :
ترقصينَ من شدةِ الألمِ
يرقصُ مشحوناً بالتيهِ
تحلمينَ ...
تبتسمينَ ..
تغردينَ عاشقة للمرة الأولى
أشعلها الشوقُ ..
ثم فجأة تحدقينَ في عينيهِ
تتراجعين !...
القصيدة لديها تعيش فترة مخاضها إلى أن تحن الفرصة وتعلن ولادتها وبدون ارادتها ، لان الأنا هنا تجبرها على الولادة ... فالقصيدة الحقيقية تنفجر داخل الذات اولا ثم تخرج من أعماق الشاعر …كما ي قصيدتها الكتابة ص17 
لا أزالُ أحملُ وعي الطفولة ..
عشقها الكبيرَ للأبيض والأزرق ..
لا أزالُ حتى اللحظة ..
أرى الورقة نهراً ..
والقلمُ شراعاً .. وزورقا   
أو في قصيدتها أستقالة ص19 :
الحياةُ كتابانِ :
واقعُ مرُ
ووهمُ جميلُ
ليتني حرف في الكتاب الثاني
وليتني من الكتاب الأول أستقيلُ...
غير ان الانفعالية تعتبر مجرد اساس اولي لدى الشاعرة للتعبير الخاص عن شخصية الآخر الذي يجسد قدرتها على تطوير وصياغة الفكرة الفنية، من خلال ما تجسده على شكل صور لمعاناة مباشرة عندما تصبح " الشخصية " موضوعا لنفسها وعندما تدعو الى مراقبة الذات ... 
الشاعرة تملك مُخَيِّلة (القوة التي تخيِّل الأشياءَ وتصوِّرها  )  نشطة وثرية بعطاءاتها فحين تفجرها تنتج منها مفردات تبني بينها علاقات مكونة بذلك لوحة شعرية جميلة تنقلك الى مديات بعيدة في الحياة كما في قصيدتها جسد وروح ص31
نموتُ ...
بداية حسنةُ
إذاً نولد ُ من جديد ...
نعيشُ ...
نهايةُ بائسةُ ..
لموت أكيد ...
بما أن الشاعرة تحس بما يحمله الآخر من هواجس تحمل مفاهيم الجمال حيث تشتد وتتسامى لتصل الى الذروة حيث تصل كمية الاحساس الى درجة عالية من الشعور لذا ترى الشاعرة ما لا يراه غيرها .
إلا أن صراعها مع الآخر لا يكون بالتحدي المباشر بل يكون من خلال تجاهله لذا جاءت العنونة ( الكتابة على الموج ) موفقة مع صراعها ، لانها تعرف الأمواج في حركة مستمرة حيث تنطلق بالذكرى من الحلم لتوفر جدلية العلاقة بين صيغة النداء ولعبة المتخفي في تثبيت المتن وهكذا هي الحياة لذا عليها أن لا تتشبث بذكريات الاخر لذا تراها دونتها على أمواج البحر التي ربما تنقلها الى مديات بعيدة لتزول مع زوال هذه الأمواج ، كما تقول في قصيدتها سذاجة ص79 : 
ألم تدركي بعد ُ
أن العناقَ ينبعُ من داخلكِ ؟
إبحثي عن الحب في أعماقك
نصفك الآخر هناك
في الداخلِ
توقفي 
كي لا تكتشفي يوما أنكِ مجرد واهمة
شاعرتنا تمنحنا أقصى المتع الشعرية في اكتشافاتها القيم الجمالية للحياة إذ تتحرك المخيلّة الشخصية لديها في أعماق الإرث الكوني، الحسي والذهني ، فيتّجه الخطاب إلى الداخل الشخصي للقبض على جمرة الهيولى الشعرية البعيدة في الروح لترميم مناطق الخراب الأخرى وتدوين سيرتها الوجودية بأسرارها المدهشة و الغرائبية مرة تلاحق الماضي ومتدثرة به كما تقول في قصيدتها ورقة في مهب الريح ص71 :
كنت صغيرة ً
كلُ العالمِ من حولي
لوحةُ بهاءٍ
تلاحقني الفراشاتُ ..
 واخرى تصطدم بالحاضر المرير ونهايات شخوصه المبكرة فتكتشف قيم الاخر من خلال الصور الجزئية  التي تتوالد على شكل قذفات وهي تؤدي ادواراً مركبة ومرتدية عناصر الحياة وناموسها الابدي ، مكونة في ذات الشاعرة  الصورة الكلية للآخر كقولها في نفس قصيدتها  ( ورقة في مهب الريح) : 
حينَ أقتربتُ الى الضفةِ الأخرى
كم أضمحل الفرح !
عصافير الكبار ..
غربانُ سودُ
وتتسابق مُخَيلة الشاعرة مع الذاكرة من خلال جدل العلاقة بين الأنا الشاعرة وأنا الموضوعة الشعرية في أبعادها الرمزية الوجودية وتشكلّها الفكري والجمالي والإيحائي لرسم صورة جميلة للحياة في المخيال الشخصي للذات الشاعرة التي تعود من معركتها متعبة وهي تحن إلى حضن دافئ قوي كما تقول في قصيدتها مقعد ص67 :
أريد مقعداً واحداً
لا تهزه الرياحُ العاتيةُ
مقعداً لا تسقطهُ سهامُ الغدرِ والخيانةِ
مقعداً من ضوءٍ وكراماتٍ
عرشاً يظللهً الأمانُ
ويسكنهً الحب
وتنهي قصيدتها بـ :
أريد كل ذلكَ
لأحط رحالي 
وأخلد الى عمرٍ جديد ..  
وبسبب الصراع الناتج عن التوتر الذي يولّد من العلاقة الدراماتيكية بين أناها الحقيقي وشخصيتها لذا تراها تعود من جديد لتتقمط ذاتها وتكتب عن أرهاصاتها لتخلق طقوسها من أرضية معينة ومناخ عام وبطريقة شخصية من خلال استدعاء الماضي وكما تقول في قصيدتها جليد ص81 :
الصغيرة التي كنتها لم تغادرني بعدُ
لهذا يغشني الكبارُ
يتآمرون على قلبيَ الطفلِ
بذئاب أرواحهم
وأنا أرى الحملان في الوجوه
بهذه الصور الجميلة جداً ترسم الشاعرة من خلالها رحلة الحياة بطفولتها الجميلة  التي سرعان ما تتلاشى حين تكبر وتكبر معها المعانات ... لقد أبهرني شعرها لمقدرتها على نسج  من مفرداتتها البسيطة والشفافة صوراً شعرية وتعابير مكونة بذلك لوحة فنية جميلة متكاملة لتغدو العلاقات الأسلوبية بين الدال والمدلول ، علاقات بنائية تضادية تارة، وأخرى تجاورية  ... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق