كنا في طريقنا إلى مدينة بيت ساحور ذلك الضلع المتين من مثلث مدائن فلسطينية شهد ترابها فصولًا من عزة شعب جريح وولادة المسيحية.
مدينة من أشهر ما فيها "رعاة الحقول"، فلقد بشرهم، في زمن النجمة، وكما جاء في الكتب، صوت من السماء وبفرح عظيم بولادة "المخلص" فقدموا إلى جارتهم بيت- لحم ليروا الطفل مقمطًا في مذود فسمعوا الأصوات تملأ المكان مسبّحةً " المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".
من حينها امتلأت نفوسهم بلحاء كرامة سرمدية وقلوبهم إصرارًا على صونها والذود عن أرض تشربت عرق فاديهم الذي طرد اللصوص من هياكل الرب، لتبقى نقية طاهرة لا تقبل السماسرة ولا المفسدين ولا ترضى بصحبة الخونة والفاسدين.
في طريقنا من القدس لاحقتنا أخبار صفقات بيع العقارات التي يقوم بها رؤساء الكنيسة الأرثوذكسية ومعاونيهم. كانت الإذاعات الإسرائيلية تنقل مقتطفات من قرار المحكمة الإسرائيلية الصادر لتوه في ملف عقارات "باب الخليل" وفهمنا أن جمعيات الاستيطان اليهودية كسبت القضية.
كنا ثلاثة في السيارة. سمعنا ما يكفي لمقتنا ولاستفزاز مشاعرنا فامتلأنا نبضًا وحسرة، خاصة بعدما استذكرنا فصول تلك المأساة وكيف اعتبر معظم المسيحيين العرب ومعهم أكثر قيادات فلسطين أن استقدام ثيوفولس ليرأس البطركية خلفًا للبطرك المعزول يعتبر نصرًا فلسطينيًا مظفرًا، وأغفل هؤلاء تحذيرات البعض، وكنا بينهم، من أن ما حصل يعد مؤامرة واضحة وهزيمة نكراء ستدفع فلسطين ثمنها غاليًا؛ فالمسألة، كما كتبنا للمسؤولين المعنيين وللناس، لم ولن تكون نحن مع أي بطرك، بل يجب أن تكون وتبقى من منهم معنا ومع حقوقنا وأملاكنا، وأكدنا للجميع، بالبراهين والوثائق، أن ثيوفولس لم يستجلب لأنه "معنا" والأيام ستكون الفيصل والحكم.
قرأنا قرار القاضية ولم نفاجأ إطلاقًا فكل من راهن على أن تنقذ المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس عقارات باب الخليل ليعود فدنقا "الإمبريال" و"البترا" التاريخيان إلى ملكية البطركية الأرثوذكسية المقدسية، كان كسولًا أو ساذجًا، جاهلًا أو متجاهلًا للواقع وللحقائق ولما سبق تقديم تلك الدعوة من خطوات، قبل أكثر من ثمانية أعوام، ففي حينه امتلأت شوارع القدس وأزقتها برائحة المؤامرة التي حاكها من خطط واستهدف ابتلاع عقارات البطركية كلّها وليس فقط ذينك الفندقين .
والمصيبة أن الثقة التي أوليت لثيوفولس في البدايات ولرجالاته ومعاونيه ومحاميه من قبل مؤسسات مسيحية ووطنية وشخصيات فلسطينية قيادية لم تتزعزع على الرغم من نشر معلومات عن صفقات أتممها وعلى الرغم من استشعار مجموعة من القانونيين الفلسطينيين وشخصيات ومؤسسات مسيحية كانت تتابع ما يجري في أروقة البطركية ذلك التسونامي الناجز والذي سيقضي على معظم ما تملكه الكنيسة من عقارات وليس فقط ما اشتهر بعقارات "ساحة عمر" ومعها منطقة "المعظمية" التي تقعد على صدر "باب حطة" ذي الموقع الإستراتيجي الهام في البلدة القديمة.
وقد تكون مراجعة البيان الذي أصدره المرحوم الدكتور المقدسي إميل الجرجوعي في آب ٢٠٠٦ تذكارًا لخطورة التواطؤ مع ما كان يجري في الكنيسة، فلقد حذر من مواقعه الهامة كرئيس "اللجنة الفلسطينية الخاصة لتقصي حقائق ووقائع ما يسمى بصفقة باب الخليل وبطركية الروم الأرثوذكس" وكعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ونائب منتخب في المجلس التشريعي، قائلًا " لم يقم البطريرك الجديد بتنفيذ تعهداته والتزامه الموقع ..هذا وغيره يجعلنا نتخوف أن ما حدث وكان في الماضي هو ما سيحدث وسيكون في المستقبل .. ويزداد قلقنا على ضوء ما بلغنا عبر وسائل الإعلام ومن خلال معاينتنا لوثائق عديدة عن تسريب مجموعة جديدة من العقارات داخل وخارج أسوار القدس." ..
لم يسمع له الوطن فبكت عليه ومن أجله السماء.
واليوم ننصح، قبل إطلاق البيانات الآسفة والباكية والمستهجنة، جميع المعنيين أن يعيدوا قراءة ما كُتب لهم ويدرسوا بمهنية قرار القاضية كاملًا (٤٥ صفحة) وذلك كي يتيقنوا من صحة ما شرح في حينه ويتحققوا من أن مصير تلك القضية كان محتومًا منذ بدايتها وخسارتها، بسبب طريقة إدارتها المتعمدة من قبل البطركية، كانت مؤكدة ؛ فالبطركية تنازلت عن ادعاءات دفاعية هامة وقوية ( تأتي على ذكرها القاضية في أكثر من موقع في القرار) والبطركية لم تستدع شهودًا مركزيين لتدعيم مواقفها وتفنيد حجج المستوطنين/ المدّعين، مما جعل القاضية تشير مرارًا إلى ضعف إستراتيجية دفاعها التي قد تبدو للخبراء المتمعنين مقصودة، فتلك النواقص، كما ذكرت القاضية، تعتبر بشكل عام من بديهيات قواعد التقاضي وأصول المحاكمات، فما بالكم إذا كانت ضرورية أثناء "حرب" تخاض على مصير بابين من أبواب التاريخ وتتربص بهما الكواسر وتتحين فرص ابتلاعهما.
في الواقع جاء قرار المحكمة كرشة ملح على جرح شعب نازف، فبرأيي أن المأساة أكبر حجمًا مما تصوره البعض أو قامروا عليه، وقد تكون إسرائيل قد قطعت شوطًا كبيرًا وضمنت، في السنوات العشر الماضية، انتقال مواقع إستراتيجية عديدة إلى ملكية مؤسسات "تابعة ومريحة" لها أو إلى سيطرة شركات مملوكة لرؤوس أموال صهيونية ضخمة ( قد يكون بعض المتعاونين العرب شركاء في هذه الشركات لكنهم يبقون هامشيين) وهي تقترب بخطى واثقة من نسف موازين القوى الجغرافية والسياسية في القدس مستغلة وسيلتين رئيسيتين الأولى، اغتصاب الأرض الفلسطينية العربية وبناء المستوطنات عليها، والثانية، الحصول بصفقات كالتي نعرفها وسنعرف عنها، على أملاك الكنائس الخاصة وفي مقدمتها أملاك الكنيسة الأرثوذكسية بسبب حجمها ومواقعها الخطيرة في شطري القدس .
كنا على حافة الغضب حين وصلنا قاعة الكنيسة الأرثوذكسية في بيت ساحور. حركة نشطة تملأ الشوارع والباحات المحيطة بها. على وجوه الناس حكايات ليل وسمرة عذبة وبقايا تعب. يقابلوننا بترحاب يجيده فقط من كانوا أحفادًا لرعاة الأمل وقطافين للعزة والسواسن.
يستقبلنا جلال برهم، رئيس النادي الأرثوذكسي ويخبرنا عن وجود مأتمين في المكان لكنه يؤكد أن ذلك لم يمنع المواطنين من المشاركة في الندوة التي اختارت لها المؤسسات الأرثوذكسية الداعية عنوانًا لافتًا ومعبرًا " تسريب الوقف هو ضياع للكنيسة وقضية وجود وهوية ".
نعتلي منصة تتصدرها يافطتان. تشي الأولى بإصرار المكان وانتماء أهله " فالبطركية المقدسية مؤسسة كنسية وليست وكالة عقارات" ومن الثانية ينطق الواجب وتتجلى الهوية " فالدفاع عن أملاك الكنيسة من البحر إلى النهر واجب وطني وديني ".
أمامنا تنفرد قاعة رحبة ملأها أهل بيت ساحور وجيرانهم( بيت لحم، بيت جالا) بحضور مؤثر ومشرف. في الجو أشعر بتأهب ومن الوجوه يتطاير قلق مشوب ببشائر العزم، فأعرف أننا في أرض صان أهلها "عهد المغارة" ولن يهنوا.
قضينا قرابة الساعتين في حضرة الوجع والإرادة، وعندما تهافتت التساؤلات عرفنا أن حق التراب لن يضيع ووراءه مثل هذه الهمم، فأبو جريس، ساحوري تركت السنين في عينيه أثرًا للبرق، يسألنا "هل يحق لأي مواطن تقديم شكوى للنائب العام الفلسطيني؟" فهو على قناعة أن من باع أو ساعد أو ساهم في عملية البيع يعد خائنًا حسب القانون الفلسطيني وتجب محاسبته، ثم يتبعه مغتاظًا أبو الياس، كهل يملؤه الشك اندفاعًا نحو الريح، ويحتج على سكوت المؤسسات والمجالس الملية الأرثوذكسية وعلى غياب دور الكهنة العرب.
وتتوالى الأفكار وتنجلي السحب ويتهيأ الجمع ليوم البيادر .
كان رفض الناس في بيت ساحور واضحًا وموقفهم يجزم بأن تسريب العقارات قضية وطنية ومسألة وجود وهوية عليهم متابعتها بصبر وبوحدة ومنهجية واتفقوا أن يبدأوا مسيرتهم بخطوتين: تقديم عريضة موقعة من السكان تطالب النائب العام الفلسطيني بمحاسبة المسؤولين وفق القوانين الفلسطينية، والسعي من أجل مقابلة الرئيس محمود عباس كي يوصلوا له موقف المسيحيين العرب الحقيقي ويطلعوه على ما بين أيديهم من حقائق وبراهين.
لقد أجمعوا إنها البداية مستذكرين نداء الراحل د. إميل جرجوعي الذي دعا قبل رحيله " كل الغيورين المسؤولين من ذوي الصلة من أبناء شعبي ومؤسسات الرعية.. لنعيد النظر فيما جرى اتخاذه من مواقف وما تأتى عليها من نتائج لا يمكن أن نقبلها أو نتعايش معها..". فالحر يعاف الخوف ولا يعرف اليأس والمؤمنون يثقون بقدراتهم، " فكل شيء على المؤمن مستطاع".
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق