بعد سقطة حرّة ومباشرة على الوجه منذ عام، وذهابي في إغماءة تقارب الثلاث ساعات يداهمني من حين لآخر التساؤل بعفويةٍ ساذجة : "وماذا لو لم أستعد نبضي؟" وبتلقائية أجيب : "ما هَمَّ! لئن قُـدِّرَ لي أن أكمل في إغماتي الدائمة كنت سألتقي بأحبّاءٍ رحلوا قبلي، ولكن ، طالما أني عدت إلى الحياة سأكملها كما يكمل القطار مسيرته على سكته."
الوجع اليومي في يديّ حتى اللحظة يُذكِّرني، وبعد عام بالتمام والكمال بما حدث لي، كما لو أني وقعت بالأمس فحسب، أكاد أرى مشهد جسدي الهاوي يمر كصور ملونة تحت جلد أصابع يدي، مكثت يومها ككسيح داهمه إعصار، يداه مكبلاتان بقيد لا يحس به ولا يراه.
وقع ذلك الحدث في السابع عشر من أيلول من العام الماضي، عندما اصطحبني سيدنا عزرائيل لحوالي ثلاث ساعات ثم أطلق سراحي، بدأ ذلك عند الساعة الخامسة إلا الربع من صباح يوم السبت، حين كنت أهم بالنزول من سكني لإحضار وجبة فطور. توقفت عند الباب وأنا خارج ثم انعطفت عائداً إلى الداخل كي أحْضِرَ محفظة نقودي، في طريق عودتي فقدت وعيي على درجة قريبة من العتبة داخل السكن، وهويت ، لا أعرف ما حدث بعدها. .. وإلى أن استعدت وعيي بعد ساعات.
حين أفقتُ من إغماءتي بحدود الثامنة صباحاً وجدت نفسي ممدداً على بلاط الغرفة، وجهي يلامس البلاط، صورة المشهد ضبابية غائمة، رأسي بين قائمة طاولة ومقعد، حاولت النهوض فلم تستجب قواي أبداً، استسلمت لقدري، استدعيت رحلة الإنسان بين المهد واللحد، يتبرعم زهره، منه ما يثمر إلى حين قطافه المحتوم بعد ساعات أو أيام أو سنين، ومنه ما يكمل إلى أن يهوي كالشجر المعمر العتيق، ثم انشغلت باستكشاف وأستدعاء ما حدث لي، جلت بنظري فرأيت بقعة دم تقارب الرغيف بقطرها، مقاربة ذكرتني بجدلية العلاقة بين الدم والرغيف.
حاولت النهوض مرة أخرى فلم أتمكن من الحركة أبداً، حاولت تحريك أصابعي كي أتأكد من خلوِّ يدي من الكسور، فما أفلحت، انفلت من عمق الصدمة وخزائن اللاوعي سؤال غريب : "لست أنا من يقع عن السرير، لم يسبق لي أن وقعت عن السرير! ما الذي حدث إذاً ؟" .
في تلك اللحظات القاتمة كانت جحافل كائنات صغيرة تتلبس كوابيس الشلل والخدر والموت تتكاثر وتتراقص في فضاء الغرفة، أسفتُ على من كان يوماً جواداً صاهلاَ فصار في واقعه أقرب إلى حلزون ضرير عالق في بقعة وحل، وحيداً بعيداً في عالم مجهول دامس لا يعرف به أحد، ولا يحس بشلل يديه كي يأخذ بهما وينتشله من وهدته.
خلت بأني ضحكت من نكتة الموت وحيداً في الغربة، لقنتني خطورة الخطب بيتَ شعرٍ عامي فابتهلت:
وَيْـنَـكْ يَـا عَـمِّـي الـمَـوتْ شُـو اللي صَارْ
خَــدْرانْ جِــسْــمِـي مْــرَمّـدي الــهِـــمِّـه
يَــا الْـيَـــوم رَجِّـعـنِـي بْـكَـفَــنْ عَــالــدَّار
يَــا بْـمـعْـجْـزِه رَجِّـــع نَـبَــضْ دَمِّــــي
بعد حوالي الربع ساعة من الشلل المؤقت والتنفس العميق استطعت تحريك سبابتي اليسرى، وتابعت مسيرة محاولة التشبث بالحياة إلى أن تمكنت من تحريك يديّ، التقطت نظارتي اللتين سقطتا بفعل شدة صدمة وجهي على الأرض من على بعد ذراع.
بجهد جهيد استقمت وجلست على المقعد، استرحت لدقائق ثم اتجهت نحو المغسلة كي أغسل يديَّ من الدم، هالتني صورة "الرجل الآخر" التي رأيتها على سطح المرآة، الفم مصبوغ بالدماء، الشفتان المتورِّمتان ليستا لي، الأنف والعينان والمنطقة المحيطة مُلوَّنة بالنيلي الغامق، بصقت في المغسلة فخرجت أجزاء من سِـنَّـيـنِ مكسورين، ثم اتصلت بقريب لي كي يصطحبني إلى قسم الطوارىء في المستشفى.
بعد أن تلقيت الإسعافات الأولية أحالني الطبيب المناوب إلى قسم الأشعة للتحقق من سلامة الرأس والقلب والعظام، جاءت النتائج طبيعية باستثناء كسر في الأنف، إضافة إلى السـنَّـين المكسورين المذكورين آنفاً، ثم بدأ الطبيب "التحقيق" معي كي يكتشف سبب الإغماءة، ويبدو بأنه ركز على مقطع مما أخبرته به حول سهري في الليلة السابقة للحادث لغاية الثانية والنصف بعد منتصف الليل كي أنهي برنامج كومبيوتر كان لا بد من إنجازه قبل صباح اليوم التالي، وبأني لم أتمكن من النوم إلا بعد وقت طويل كوني معتاد على الذهاب إلى الفراش يومياً بحدود الساعة العاشرة مساءً، والنهوض في الخامسة صباحاً ، حتى ولو نمت في الرابعة صباحاً. بدا لي بأنه اقتنع بأن سبب الإغماءة يعود إلى الإجهاد، أو كما قالها لي بالإنكليزية : "Stress". (وذلك ما أكده لي أطباء آخرون لاحقاً) وسُمح لي بالخروج من المستشفى حوالي الساعة الثالثة عصراً.
حتى مساء وقوع ذلك الحدث بتاريخ 17/09/2016 كانت يداي خدرتان كلياً ودون إحساس بالألم، ولكني بدأت أشعر بألم شديد بالمرفقين ورسغ اليد اليسرى وأصابع اليدين حين ذهبت إلى الفراش مساءً، أتألم بشدة عند اضطراري لتحريكهما.
عدت إلى قسم الطوارئ صباح اليوم التالي مشتكياً من ألم مبرح في المواضع المذكورة سابقاً، أعاد طبيب الطوارئ فحصي ثم طمأنني مجدداً، ولكني في الحقيقة لا أزال بعد سنة بالتمام والكمال أعاني من ألمٍ في المرفق الأيمن ورسغ اليد اليسرى وأصابع اليدين، ومن المضحك المبكي أني عند استخدامي للوحة مفاتيح الكومبيوتر أضطر آسفاً للضغط بالإصبعين الأوسطين، ما حرمني من نعمة الكتابة بالقدر الذي أشتهي، ولغاية الآن.
الخبر في 16/09/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق