مع رحيل الاستعمار الإنكليزي والفرنسي عن غالبية دول العالم العربي في منتصف القرن الماضي، أو استعداده للرحيل عنها بالكامل من شمال أفريقيا وصولاً إلى الخليج العربي، بدا المجال مفتوحاً لقيام قوى إقليمية قادرة على سد الفراغ السياسي والأمني في هذه المنطقة الاستراتيجية. ناهيك عن بداية التغلغل الأميركي التدريجي بعد أن وجدت واشنطن في نفسها الإستطاعة على وراثة الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة.
تمثلت بوادر التنافس الإقليمي بالمطامح التي عبرت عنها كل من مصر الخديوية والسعودية العربية في ثلاثينات القرن العشرين بعد أن شغر منصب الخلافة الإسلامية التي ألغاها مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924. غير أن الأوضاع الداخلية في وادي النيل والجزيرة العربية، إلى جانب هيمنة بريطانيا وفرنسا المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، جعلت من الصعب على الملك فاروق والملك عبد العزيز آل سعود تحقيق تلك المطامح وتحويلها إلى واقع إقليمي مهيمن.
يمكننا أن نحدد سنة 1952 كخط نظري فاصل بين مرحلتين مختلفتين تماماً: مرحلة الاستعمار المباشر بعد الحرب العالمية الثانية، ومرحلة بروز حركات التحرر الوطني التي أتاحت الاستقلال لعدد من دول العالم العربي. ولا بد هنا من الإشارة إلى دول إقليمية "غير عربية" ظهرت في تلك الفترة لاعتبارات عديدة لن ندخل بتفاصيلها في هذه المقالة، وهي: إيران بعد الإطاحة بحكومة محمد مصدق سنة 1953، وإسرائيل التي قامت على حساب الشعب الفلسطيني في نكبة سنة 1948، وتركيا العضو في منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) سنة 1952. وهذه
الدول الثلاث ما تزال لاعباً إقليمياً محورياً في العالم العربي حتى اليوم، بغض النظر عن تبدلات السياسة الداخلية في كل منها.
تأهلت مصر، بحكم حجمها واقتصادها القوي وموقعها الاستراتيجي واستقلالها النسبي قبل ثورة تموز 1952، لتكون "القوة الإقليمية" الأساسية في العالم العربي. لكن كان عليها أن تنتظر حسم الصراع داخل مجلس قيادة الثورة، وهذا ما حدث بإجبار محمد نجيب على الاستقالة سنة 1954 وتولي جمال عبد الناصر مقاليد الحكم. وسرعان ما تهيأت لهذا الأخير الظروف المناسبة كي تصبح مصر "القوة الإقليمية العربية الأولى" في مواجهة إسرائيل وتركيا وإيران، خصوصاً بعد الصمود المصري المؤثر في مواجهة العدوان الثلاثي سنة 1956.
نجح عبد الناصر ببراعة في توظيف الالتفاف الشعبي الواسع في طول العالم العربي وعرضه، وتحويله إلى سياسات نقلت النفوذ المصري إلى مدى إقليمي بات يهدد مصالح الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية التي زاد انخراطها في قضايا المنطقة، وبالتحديد مع صدور مشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور سنة 1957. كل ذلك في سياق الحرب الباردة التي ازدادت حدة آنذاك بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.
حقق عبد الناصر نجاحات مبدأية في سوريا (إعلان الوحدة سنة 1958)، وفي لبنان (تسوية حوادث سنة 1958)، وفي اليمن (إسقاط المملكة المتوكلية سنة 1962)، وفي المغرب العربي الكبير (دعم ثورات الجزائر وتونس وليبيا)، وعلى المستوى الأفريقي والدولي (حركة عدم الانحياز). إلا أنه واجه في الوقت نفسه تحديين خطيرين: داخلي تمثل في صراعه مع "جماعة الإخوان المسلمين" من جهة، ومع المجموعات الشيوعية والماركسية من جهة أخرى. وخارجي قادته الولايات المتحدة الأميركية بالتحالف والتعاون مع بعض الدول العربية.
وعلى الرغم من التأييد الشعبي الكبير الذي تمتعت به سياسات عبد الناصر على المستوى العربي، إلا أن التحديين اللذين أشرنا إليهما أعلاه أخذا يقضمان شيئاً فشيئاً من قدرات مصر على تعزيز قبضتها الإقليمية. ثورة اليمن تحولت إلى حرب استنزاف لم تنتهِ إلا في سنة 1970، والوحدة مع سوريا انهارت بانقلاب إنفصالي سنة 1961... ثم جاءت الضربة القاضية بهزيمة حزيران سنة 1967
لتفقد مصر مصداقيتها ومعها آخر أوراقها الإقليمية. وهكذا دخلت في مرحلة من التراجع مستمرة حتى اليوم.
إستمر فراغ القيادة الإقليمية في العالم العربي حتى سنة 1973، وبالتحديد بعد حرب تشرين التحريرية، عندما تبين للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات مصمم على جرّ مصر إلى مسار مناقض للمصالح القومية السورية، بل وللمصالح العربية عموماً. لذلك نشأ التركيز السوري على أهمية قيام الجبهة الشرقية في مواجهة استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الجولان والضفة الغربية ومناطق واسعة من جنوب لبنان. وكان هذا يعني، من وجهة نظر الأسد الأب، ضرورة تحويل سوريا إلى قوة إقليمية فاعلة في المحيط المشرقي على الأقل.
من هنا نفهم المشاريع السورية للتدخل في الكيان اللبناني، ومحاولة الحد من جنوح قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نحو "سياسة مستقلة" تعزل المسألة الفلسطينية عن محيطها القومي. وفي هذا التوجه نُدخل أيضاً خطوات التنسيق مع الأردن (ظلت محدودة للغاية)، ثم مساعي التقارب (التي لم تثمر قط) مع نظام بعثي آخر في العراق... وأخيراً الوقوف بقوة إلى جانب إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية هناك، واندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية بين 1980 و1988. وقد وصل النفوذ الإقليمي السوري إلى ذروته سنة 1990 في ظل "التحالف الدولي" الذي شاركت فيه دمشق لطرد القوات العراقية من الكويت.
لكن الأسد الأب، كما عبد الناصر من قبله، كان يواجه تحديين داخلياً وخارجياً: الداخلي تمثل في أعمال عنف مسلحة خاضتها "جماعة الإخوان المسلمين"، وإلى حد أقل جماعات اليسار المتطرف، في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. والخارجي هو عبارة عن تحالفات دائمة أو ظرفية بين قوى دولية وإقليمية ومحلية، كان مجرد وجود من يعمل لقيام أية قوة مركزية في الهلال الخصيب يهدد مصالحها على المدى البعيد.
إن فشل الاجتماع الأخير بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الأميركي بيل كلينتون في جنيف بتاريخ 26 آذار سنة 2000 فجّر سلسلة من التداعيات المترابطة: إنسحاب إسرائيل من معظم المناطق المحتلة في جنوب لبنان بقرار
أحادي في أيار سنة 2000 بفعل إنجازات المقاومة الوطنية والإسلامية، الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق في آذار سنة 2003 وإدخال سوريا في "محور الشر" الأميركي، إقرار الكونغرس الأميركي لـ"قانون محاسبة سوريا" في تشرين الأول سنة 2003، مصرع رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في بيروت بتاريخ 14 شباط 2005 ما أدى إلى خروج القوات السورية من لبنان، ثم الغزو الإسرائيلي للبنان في تموز سنة 2006... كل هذه التطورات مهّدت لما يحدث في سوريا منذ سنة 2011. والنتيجة الآن هي أن الدور الإقليمي لسوريا بات في حكم المنتهي.
وبينما كان حافظ الأسد يعمل على مشروع الجبهة الشرقية، كان نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين يعزز وجوده في مفاصل السلطة تمهيداً لتولي القيادة بعد الرئيس أحمد حسن البكر. ومع أن "ميثاق العمل القومي" سنة 1978 بين بغداد ودمشق أوجد بصيص أمل بتدعيم الجبهة الشرقية، إلا أن الصراع داخل حزب البعث العراقي وأد هذه التجربة في مهدها. وانطلق الرئيس العراقي الجديد صدام حسين، بعد حسم الأمور لصالحه، في مشروع يهدف إلى إبراز العراق قوة إقليمية تنافس سوريا من جهة، ومن جهة أخرى تملأ الفراغ الذي تركته مصر بعد طردها من الجامعة العربية في أعقاب توقيع السادات اتفاقات كامب ديفيد.
أتيحت للعراق فرصة ذهبية عندما حصل على غطاء خليجي وعربي ودولي في حربه على إيران. وكان قد سبق للرئيس العراقي أن وسّع دائرة نفوذه من خلال تعزيز العلاقة التحالفية مع الأردن، ودعم تمرد "جماعة الإخوان المسلمين" في سوريا، وعرقلة مشاريع دمشق في لبنان عبر طريقين: دعم وتحريك بعض المنظمات الفلسطينية، وتمويل وتسليح "القوات اللبنانية" المعادية لسوريا. غير أنه، على غرار ما حصل لعبد الناصر والأسد الأب من قبل، واجه صدام التحديين المتوقعين: الداخلي كان أخطرهما، وتمثل في الأحزاب الدينية الشيعية والأكراد وما تبقى من أحزاب اليسار التي قضى عليها البعث واحداً بعد آخر.
أما التحدي الخارجي، فقد ظل كامناً طالما أن العراق يستنزف ذاته ويستنزف إيران في تلك الحرب العبثية. لكن ما أن توقف القتال، وحاول صدام قطف ثمار المعارك التي اعتقد بأنه خاضها نيابة عن "الآخرين" الإقليميين والدوليين، حتى تكشفت الحقائق وسقط الوهم الكبير في الرمال التي غرق بها الجيش العراقي في
طريقه إلى الكويت. فكانت تلك بداية نهاية الدور الإقليمي العراقي، الذي وصل إلى ذروته المأساوية بالاحتلال الأميركي ـ البريطاني سنة 2003.
خلال العقدين الماضيين لم تبرز أية دولة في العالم العربي، وإن امتلكت القدرات والإمكانات، لتعبئة ما شغر بغياب مصر وسوريا والعراق. لكن يبدو أننا نشهد الآن خطوات سعودية في هذا الاتجاه، مدعومة بطاقات بشرية واقتصادية وسياسية فاعلة. كانت الرياض في الماضي تفضل العمل الديبلوماسي من وراء الستار أو من خلال التعاون مع قوى مؤثرة مثل سوريا في المسألة اللبنانية والعراق في الحرب ضد إيران. هذا الأمر تغيّر في السنوات القليلة الماضية، حيث بدأنا نشهد سياسة سعودية أكثر تفاعلاً وانخراطاً في ما يجري على مستوى الإقليم: من لبنان إلى سوريا، ومن الأردن إلى العراق، ومن اليمن إلى البحرين... إضافة إلى الأبعاد الإسلامية بما يتجاوز العالم العربي.
غير أن ما انطبق على مصر وسوريا والعراق في مساعيها الإقليمية قد ينطبق على السعودية في ما يتعلق بالتحديين اللذين يواجهان كل قوة تسعى إلى دور إقليمي يدخل في دائرة نفوذها أو يتجاوز حدودها: التحدي الداخلي، والتحدي الخارجي. إذ لا يمكن لأية دولة أن تنطلق إلى الخارج إلا بحصول إجماع داخلي يؤمن قاعدة أمان لسياسة الدولة، خصوصاً إذا كان ذلك الدور يتطلب تضحيات اجتماعية واقتصادية صعبة. ثم هناك التحدي الخارجي، فمواقف الدول الكبرى المهيمنة لا يمكن الركون إليه بالمطلق لأن المصالح القومية لكل منها قد تتبدل بأسرع من لمح البصر. لأنه في السياسة الدولية لا توجد صداقات دائمة وعداوات دائمة... وإنما مصالح قومية دائمة.
السعودية الآن على مشارف دور إقليمي واسع، لكن الأيام وحدها هي التي ستكشف ما إذا كان بمقدورها تجنب ما وقعت فيه مصر وسوريا والعراق داخلياً وخارجيا و من يعيش يرى
الحزب السوري القومي الاجتماعي / مفوضية سيدني المستقلة
موسى مرعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق