شاكر فريد حسن في اربعة مقالات جديدة

احمد حسين .. مبدع لم ينصفه النقد في حياته، فهل ينصفه التاريخ في موته؟

الشاعر والقاص والأديب والمفكر الفلسطيني احمد حسين ، ابن قرية مصمص ، الذي فقدناه بالأمس القريب ، وصاحب النشيد الهجري والهوية الكنعانية ، يعد احد الأسماء المهمة ذات الخصوصية المتفردة على لوحة الابداع الادبي الفلسطيني العام ، وفي التاريخ الأدبي الشعري والثقافي والوطني الملتزم ، الذي امسك بخيوط القصيدة الجمالية الرائعة المغايرة الرافضة الحادة الى حد السكين .
فهو صوت فكري شجاع خصب متوقد متميز بنقائه الثوري الخالص من الافتعال والجبن والتأرجح بين الموقف واللاموقف ، بين الالتزامات والمواقف الضبابية الغامضة على ساحة الفعل النضالي المقاوم، وعلى ساحة قضية عادلة وواضحة وضوح الألم والجرح النازف .
عرفنا احمد حسين بمواقفه الحادة الصلبة الشجاعة الجريئة ،العروبية القومية الفلسطينية الاستثنائية المخالفة والمعارضة لكل المواقف والطروحات السياسية والثقافات السائدة ، وهو صاحب مشروع فكري فلسطيني خاص ، له منطلقاته وتوجهاته وابعاده المستقبلية .
فكم كان احمد حسين يجيد السباحة والعوم والتغريد خارج السرب ، والوقوف بشدة ضد طروحات ومشاريع وتخريجات كل التيارات المشتغلة على ساحة العمل السياسي الفلسطيني في الداخل ، ولم يتنازل قط عن صيغه وقيمه الوطنية التي يؤمن بها ويذود عنها .
احمد حسين ، هذا الأديب الاريب السديد والمثقف الصلب المشاكس المشتبك ، والمبدع الأصيل  الجميل ، والمفكر الفلسطيني الحر المتوقد المتوهج المشتعل غضباً وحدة ورفضاً ، بثقافته العميقة الواسعة ، التوراتية القرآنية ، لم يكن متصالحاً مع احد حتى مع نفسه وذاته ، رفض التقوقع والتأطير  الحزبي والسياسي والأدبي ، وبقي في دائرة الظل باختياره وقناعاته ، رغم موهبته الشعرية التي تتفوق على الكثير من المواهب والكواكب الفلسطينية الكبيرة التي لمع نجمها محلياً وفلسطينياً وعربياً وكونياً ، ورغم غزازة وثراء ما قدمه لثقافتنا الفلسطينية الملتزمة الرافضة للتطبيع والمساومة على الحقوق الثابتة ، وللفكر القومي الفلسطيني المقاوم .
لم يأخذ حقه من الانتشار والشهرة ، وعانى من الحصار الاعلامي والتغييب ، لأنهم خافوه ، خافوا كلمته المتفردة المميزة ذات النكهة الفلسطينية الكنعانية ، وخافوا موقفه النقدي من التطبيع واللهاث وراء المشاريع التفاوضية الاستسلامية الامبريالية الصهيونية ، وخافوا فكره الثوري المقاوم وابداعه الملتزم وطنياً وفلسطينياً وكنعانياً ، وفزعوا طروحاته ومداخلاته التي لا تقبل المساومة على حق العودة والحقوق الثابتة الراسخة ، وترفض التوجهات التنازلية المجانية على الساحة الفلسطينية .
لم يكتب عن احمد حسين الكثير في حياته سوى بعض شذرات هنا وهناك ، من صديقه ورفيق دربه ومجايله المرحوم نواف عبد حسن ، الذي خصه بكتابة مقدمات منجزاته الشعرية والقصصية والفكرية ، وتناول ديوانه " زمن الخوف " حين صدوره ، حيث كتب دراسة وافية ومراجعة استعراضية نقدية نشرت آنذاك في مجلة " البيادر الأدبي " وفي مجلة " مشاوير " منوها فيهاالى ان احمد حسين يعاني الشعر لحد " مرض القلب " ولهذا نحس بانفعال ، بعنف الانفعال وحرارة العاطفة ، فالكلمة جارحة وحادة ، تقفز بين الاسطر لتصفعنا في وجوهنا لانها تجد طقساً وتنبعث شعوراً ، وتستحضر تاريخاً .
ولعلني اسمح لنفسي باقتطاف هذه السطور من باقة المرحوم نواف عبد حسن النقدية  ، ومن الاستهلال الذي افتتح به دراسته عن زمن الخوف ، حيث قال : " لعلها المصادفة أن تأتي النغمة الاولى في صورة الحضور الواعي والادراك الواضح للمأساة ، ومن ثم الانطلاق في تحديد هذا الوعي صافياً من البله والغباء ، معرياً وكاسراً لمرايا الكفاح المزيف ، والنضال المقنن ...الذي جعل من القضية التي يستشهد الشجعان من اجلها مهرجاناً على لسان كل من جمجم ببعض الكلمات عن الوفاء والتضحية ، فهنا تكون المواجهة مع هذا الجو الموبوء امراً محتوماً ... وهل هناك ابشع من هذا في وقت يصل فيه الزنى الحضاري ، والعهر السياسي الى حد تصفية شعب فلسطين وطنياً وجسدياً ؟!..وفي كل بقاع الارض ؟حتى صار الطفل الفلسطيني " يحلم الا يقتل " ، والمرأة الفلسطينية "حبلى بالدبابات " ، عندها تكون مهمة الشاعر الموهوب ، أن يتجسد رمزاً لهذا الشعب ، يكشف بالرؤى النبوئية معسكرات الليل المرعبة ، وبالصوت الثائر والكافر بكل القيم والمثل الحضارية والسياسية ، و" بعواء الذئاب " في الكتب المقدسة ، وجميع الادعاءات البطولية ما عدا معانقة المعشوقة ( الارض) في الزمان ، وفي المكان ( تاريخياً وجغرافياً ) ".
واذا كان هذا الكلام قيل في اواخر السبعينات من القرن الماضي ، فانه استشرف وتنبأ بالمرحلة الحالكة التي نعيشها ، وعبر عنها ايما تعبير ، حيث تغتال القضية الفلسطينية ويذبح شعبنا وتهان كرامته ويعيش انقساماً جغرافياً وحدودياً وشعبياً ووطنياً ومواقفاً ، وتصفى حقوقه ..!!
وما اشبه اليوم بالبارحة ، في زمن الخوف والعهر الفكري والسياسي والسقوط الأخلاقي ..!!!
وبالاضافة الى ما كتبه ونشره نواف ، فكاتب هذه السطور شاكر فريد حسن وثق سيرته الادبية والشعرية والنضالية ، وراجع بعض كتبه ، واحتفى بعودته الى ربة الشعر وملكة الابداع بعد صمت طويل ، فكان يطيل فترات الانقطاع عن الكتابة والنشر لعدم توفر المنابر الحرة الشريفة النظيفة التي لا تشرب ولا ترتشف من ابار المال النفطي الخليجي ، ولا ترتهن للبترودولار ،  وسلط الضوء على قصيدته عن مخيم جنين الموسومة " نشيد الزمن الهجري " التي نحس فيها بالذات والروح الانسانية التي تحاول ان تحلق وتطلق روحها لنتلمس بشفافية مكامن المذبحة في المخيم التي استهدفت الانسان الفلسطيني ، ارضاً وشعباً ووجوداً وثقافة ومقاومة ومستقبلاً ، والتي انتهت بالتأكيد على مواصلة السير بخطى حثيثة ثابتة وواثقة وسط دياجير الظلام والقهر الانساني ، الى جانب عربة بائع التفاح ابن المخيم ، مروراً بماء بدر وصولاً الى سفوح كنعان ..!
في حين كتب الدكتور محمود رجب غنايم عن الانتماء والعدمية في ديوانه " زمن الخوف " صمن مقال نشره في حينه على صفحات مجلة " مشاوير " ، مؤكداً على انه بهذا الخوف والسوداوية تتجسد قصائد احمد حسين كلها ، فيتحول هذا كله الى جداول تعب في نهر كفر ورفض ..!
بينما ا. د فاروق مواسي فيقرأ قصيدته " عن المخيم والقبيلة " مشيراً الى ان " ثمة مواصفات غامضة غريبة في القصيدة ، وهي عجيبة تهز المشاعر وتثيرها في رعشة ... تصحو بعدها ، ونسأل : من هم هؤلاء الرجال الذين تهرب منهم الأيام وتتمرد عليهم الثواني ؟! هل هم الشعراء الآخرون ( حساسين البغايا ) ؟ هل هم البائعون الذين عندهم ما ليس عندك ؟ هل هم القبائل ...ممثلة بسياسة الدول العربية ؟
اما الشاعر سامي ادريس من الطيبة فكتب عن زناطم احمد حسين ، الذي زامله في مدرسة مصمص الابتدائية وعرفه عن كثب ، فقال : " احمد حسين لا يأبه للتعتيم الاعلامي المفروض عليه وعلى زمرة من شعرائنا الأحرار ، ويؤمن أن البقاء للكلمة الصادقة ، وان سفهاء الكلام وأدباء السلطان الذين يتلاعبون بالالفاظ الوطنية تلاعباً شكلياً ليكسبهم الشهرة الممجوجة ، سيظلون على هامش التاريخ ، فظل احمد حسين في الظل في قريته الجبلية الشامخة بينما هم ينهشون جثة الأدب باظفارهم واسنانهم ."
لقد صدق صديقي الشاعر سامي مهنا في قوله غداة رحيله :" احمد حسين ستكشفه الأجيال اللاحقة بعد ان يغربل الزمن شوائبه وسيعود هذا الابداع الاستثنائي الى مركز الاهتمام العميق الضيق البعيد عن حالات الفوضى التي تصبغ الحقائق في زحام الوسطية وثقافة الزيف ".
احمد حسين مبدع حقيقي واستثنائي لم ينصفه النقد في حياته ، ولا حملة الشهادات الاكاديمية واصحاب الالقاب الذين يعيشون في ابراجهم العاجية ، الذين هابوه وارتعدت عجائزهم من قلمه ومداده وحبره وحدة لسانه ، فهل ينصفه التاريخ يا ترى في موته ..؟!!
**
 صوت المثقف العراقي الغائب 
من نافلة القول ، أنه بعد مرور اكثر من اربعة عشر عاماً على العملية السياسية في العراق ، أنها اتسمت بالفشل والاخفاق التام ، ورافقتها أزمة ثقة بين مكوناتها تتعمق يوماً بعد يوم ، ولم تقد الى نظام سياسي ديمقراطي كما كان يأمل ويطمح اليه الشعب العراقي بكل اطيافه وتشكيلاته ومكوناته الطائفية والقومية بعد عقود من الحكم الشمولي ، بل انها رسخت وعمقت نظام المحاصصة الطائفية والقومية .
ولذلك فان العراق يعيش ويعاني أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية ، وفي ظل هذا الواقع الصعب المزري نجد نكوصاً في دور الثقافة في المجتمع العراقي ، وغياب بل ولا اغالي اذا قلت تلاشي صوت المثقف العراقي الذي كان يوماً فاعلاً ، مجلجلاً ، صارخاً ، غاضباً ، رافضاً ، ومقاتلاً بالقلم والسلاح ، ما يدل على انهيار البنية التحتية للثقافة العراقية في حياة الناس والمجتمع .
ان المثقفين العراقيين ليس لهم اي دور فاعل في الازمة الحالية التي يعيشها العراق ، بلد النخيل والرافدين ، على عكس رجالات العشائر رالقبائل ورجال الدين والسياسيين الذين يقودون الانسان العاراقي كالرياح الى اي وجهة يريدون ..!
وللاسف أن صوت القبيلة والعشيرة والمؤسسة واحزاب السلطة اكثر ارتفاعاً من صوت المثقف العراقي والثقافة العراقية ، مما يشكل عاراً ومثلبة في جبين الوعي الثقافي والثقافة والحضارة العراقية التي كانت تصدر العقول المفكرة والمثقفين والمبدعين الى العالم الغربي .
ان ازمة المثقف العراقي تتأتى من أزمة المثقف نفسه ، والتي تنسحب بالتالي على أزمة المجتمع العربي على كل الصعد والمجالات .
يعود انكفاء المثقف العراقي الى الممارسات القمعية للمؤسسة السياسبة الحاكمة واحزابها التي تعمل وتسعى الى بسط سيادتها ونفوذها وسطوتها ، ومواجهة المثقفين الذين لا ينضوون تحت حرابها وخيمتها ورايتها .
لقد ضاع وخفت وغاب صوت المثقف العراقي وسط جعجعة الخطب السياسية والشعارات الزائفة للاحزاب المتسلطة ، وهناك الكثير من المثقفين غادروا الوطن بعد أن تركوا القمام الايديولوجية والتابوات الفكرية والأغلال الحزبية والاعلامية ، ووجدوا متنفساً لهم في المنافي خارج الحدود والاسوار ، وبات وهج الحرية اقوى بالتالي ..!
ان دور المثقف العراقي ينحصر بطبيعة الحال في نقد الاحزاب السياسية والمؤسسة الحاكمة وسياسيتهما ، التي مارست الدكتاتورية ، وتعرية مكائدها السياسية والفكرية ، فضلاً عن نقد الحركات والتنظيمات والقوى المشبوهة التي ترتبط بجهات أجنبية أو خليجية أو عربية رجعية .
لا يخفى على احد ان الثقافة العراقية تعيش واقعاً مزرياً للغاية ، وأن الثقافة غدت بضاعة كاسدة في المجتمع العراقي كباقي المجتمعات العربية قاطبة ، وأن المثقف العراقي بات واقفاً على الهامش والرصيف متفرجاً دون أن يتحرك او يفعل شيئاً من أجل التغيير والتحول الجذري الديمقراطي ، ولم يبادر الى ارساء أسس جديدة لثقافة وطنية جذرية عصرية مكافحة ومقاتلة تلعب دوراً ايجابياً مهماً في صنع غد جميل وأفضل للعراق الجريح .
الثقافة ليست شأناً عابراً ، وانما هي أساس البناء الفكري والحضاري ودعامة للدولة المدنية العراقية المستقبلية التي يرنو اليها كل الناس المتنورين والعقلانيين المحبين للحياة والحرية والديمقراطية من أبناء الشعب العراقي ، المتطلعين لمستقبل افضل أكثر اشراقاً وزهواً واخضراراً .
وعليه فان معركة المثقف العراقي مع الكائنات والزواحف المؤسساتية لا تحسم بالقلم والمحبرة ، وانما يتوجب عليه استخدام رفع " الحذاء " وقذفه بوجوه القوى السلطوية ، التي تعمل على الاساءة للمثقف العراقي ، وتلجأ الى آليات وأدوات المافيات لاسكات واخراس صوته وكل الاصوات المغايرة والمضادة .
ان المثقفين العراقيين يتحملون المسؤولية عن عدم المواجهة والتحدي والتصدي لقوى البطش والظلام والنزول الى الشوارع والميادين والساحات العامة ، ومواجهة كل الطحالب والزعانف التي تفرض سيطرتها وسطوتها وتسلطها على الواقع العراقي .
لذا فان المثقف العراقي يتوجب عليه ، وباستطاعته ، اذا اراد ، ان يقدم الكثير في نطاق ومساق دور الثقافة في الحياة الاجتماعية العراقية ، والسعي الى توحيد كل القوى الثقافية في وعاء ثقافي واسع ووحدوي ، يستنذ الى وعي عميق ودقيق يجعل من الثقافة جزءاً من الواقع والحياة ، وأداة للوحدة وليس للتفرقة والتشتت والتشرذم .
وكم يحتاج العراق الى المثقف المشتبك الذي يطلق صرخته بكل قوة ويتحدى بشجاعة وجرأة ، ويقف بوجه المؤسسة واحزابها السلطوية ، ويشتبك في حوارات وجدالات فكرية وسياسية وثقافية هادفة بغية ترصين وتوطيد اسس وحدة الثقافة العراقية ، والدفاع عن تنوعها وتراثها الحضاري الغزير ، الذي سيبقى نبراساً ومصباحاً يضيء دروب السائرين نحو الانعتاق والحرية والانتصار والخلاص .
**
نظرة نقدية في ثقافتنا العربية المعاصرة ..! 
لا يخفى على احد أن ثقافتنا العربية المعاصرة بعامة تعاني أزمة كبرى ، تتجلى في عدم قدرتها على المنافسة مع الثقافات الكونية الأخرى ، ولا يوجد منهج نقدي عربي ، ولا فلسفة عربية نقدية في راهننا .
وتتجسد الأزمة الثقافية العربية في وجود عدة ثقافات عربية تتصادم ولا تتحاور في ما بينها ، فهنالك ثقافة نخبوية منعزلة ، وثقافة اصولية تكفيرية وسلفية متحجرة ضد أي تغيير نوعي وجذري في المجتمع ، وثقافة شعبية تميل للخرافة والايمان بالشعوذات والاساطير .
وللأزمة الثقافية العربية الحالية جذور تاريخية اجتماعية معرفية سلوكية ومنهجية ، وهي تعبير وتجسيد وانعكاس حقيقي للأزمة العامة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، في ظل الفساد السياسي وغياب الحريات والديمقراطية ، ونتاج لمجموعة من السياسات المعادية للمصالح الشعبية وللحريات العامة .
انها أخلاق سعار الثقافة الاستهلاكية التجارية السطحية التي سيطرت على الساحة العامة ، ودفعت بالثقافة النقدية الديمقراطية الى الهامش ، وبالتالي دفعت ما تبقى من مثقفين عرب نقديين وعقلانيين ومستنيرين ، بعد رحيل الغالبية منهم ، وخيانة عدد منهم لمبادئهم وفكرهم ، الى العزلة او النخبوية ، انطلاقا
 من مقولة الراحل احمد حسين " انزواء الشرفاء" .
لا بد من ان نحسم القضايا المصيرية ، وأولها قضية التنوير في مواجهة الخرافة واللامعقول وثقافة التقليد والانبهار بالثقافة السائدة المسيطرة ، ثقافة الزيف والدجل والاستهلاك والمظاهر البراقة ..!
ان الثقافة العربية الكبرى التي شهدتها عصور النهضة الحديثة هي موئل ثقافات شتى ، وملتقى ألوان مدنية وحضرية ، ومصهر ابداعات .
وهذا المصهر الابداعي شكل بصورة وأخرى اداءً انسانياً ، تهذيبياً ، تحضيرياً ، ومعرفياً للانسان العربي في القرن الأخير .
لا يمكن للثقافة العربية أن تتطور وتزدهر وتبسق وتخضر من جديد بدون توفر الحرية العقلية ، أساس كل الحريات القائمة ، وبدون تفتح وانفتاح العقل العربي على النقد والتجاوب التعارفي التثاقفي مع التراث الانساني والثقافات الأخرى ، وبدون الاسئلة الأنجع التي تخترق الممنوعات والمحرمات والجزر المغلقة وكل التابوات ، وبدون تطوير المنظور والمنهج النقدي المادي لكل تراثنا العربي الاسلامي .
وفي نظري ، ان ثقافتنا أمام خيارين لا ثالث لهما ، اما ان تخدم الثقافة والحضارة والمعاصرة وفكر التجديد والنهضة ، فتسمو بهم الى فضاء المعرفة ، واما ان تستخدمهم لاغراض آنية فتهبط معهم الى ما دون العصر وآفاقه الرحبة .
وبين هذا الخيار وذاك تتحدد السياسة الثقافية الراهنة ، فاما أن تكون متنورة عقلانية ونقدية حقاً ، أو ظلامية ولو من وراء " حجاب الأنوار " تقودنا الى الظلام والجحيم .
**
  الذكرى الستين لمجزرة صندلة ..!
تحل في هذه الأيام الذكرى الستين لمجزرة صندلة الواقعة في مرج ابن عامر ، التي حدثت في السابع عشر من ايلول الأسود عام ١٩٥٧، ابان الحكم العسكري البغيض ، وبعد انتهاء wالدوام المدرسي الأخير في حياة خمسة عشر طفلاً في عمر الورود ، حيث اصطدم التلاميذ الاطفال بجسم غريب على قارعة الطريق الترابي الذي مروا فيه مرات ومرات ، فتحول الى جحيم ، بعد أن تمرقت اجسادهم ارباً ارباً ، وتطايرت الأشلاء ة وتبعثرت ، واختلطت الدماء بتراب مرج ابن عامر ليزيد قدسية في قدسية .
وكانت مجزرة رهيبة ودامية اقشعرت لها الابدان ، وهزت مشاعر أهالي صندلة والجماهير العربية الفلسطينية في البلاد وذوي الشهداء الذين راحوا يرقصون بصورة هستيرية من هول ما شاهدوا من اشلاء متطايرة ، ومن شدة التأثر .
ورغم مرور ٦ عقود على هذه المجزرة الأليمة الا أن الضمير العالمي في نوم عميق كأهل الكهف ، وكأنه لم يحدث شيئاً ، ولم تشكل لجنة تحقيق آنذاك لبحث ظروف وملابسات المجزرة ، ولكن أهالي صندلة لم ولن ينسوا ولن يغفروا للمسؤولين عن الجريمة النكراء وهي حكومة العدوان والاحتلال ، ولا تزال الدماء التي تخضبت بالثرى الفلسطيني الطاهر لم بجف بعد ، وما زال هول المأساة والكارثة الانسانية ، ومنظر اشلاء جثث الاطفال عالقة في وجدانهم وذاكرتهم ، وهم حتى الآن يطالبون السلطات باقامة لجنة تحقيق نزيهة ومحايدة في ملابسات هذه المجزرة التي ستظل تلاحق المسؤولين عنها الى الأبد  ، الذين اكتفوا في حينه باصدار بيان قالوا فيه انه القضاء والقدر .
وغداة هذه المجزرة المؤلمة فاضت روح شاعرنا الفلسطيني الشهيد راشد حسين برائعته " الغلة الحمراء " ، فابدع في تصوير هذه الفاجعة والكارثة وهول المجزرة ، وفي وصف الضحايا ، وتجسيم المأساة ، واشاعة الحزن والمرارة واللوعة والاسى على البراعم الطاهرة التي راحت ضحية تلك القنابل الغاشمة الغادرة ، وتجلت  فيها انسانيته ، فيقول :
مرج ابن عامر هل لديك سنابل ؟
                 أم فيك من زرع الحروب قنابل ؟
أم حينما عز النبات صنعت من
                 لحم الطفولة غلة تتمايل ؟
يا مرج قل لي هل ترابك سامع ؟
               أم انت عن صوت الملامة ذاهل ؟
مرج ابن عامر انت ما عودتنا
               جهلاً فما لك بعد حلمك جاهل ؟
بالأمس أبكيت الجباه فدمعها
            عرق الى أضلاع صدرك سائل
واليوم أبكيت القلوب فما عصى
            دمع ولكن القلوب تسائل :
هل بعد أن كنا نلم غمورنا
          وعلى الشفاه تبسم وتفاؤل
نأتي نلملم عن ثراك لحومنا
          وكأننا كنا عليك تقاتل ؟
أبناؤنا من طين صدرك لحمهم
          فالوجه مثلك إسمر متفائل
الى أن يقول مختتماً قصيدته المؤثرة :
يا اخوتي حضن الامومة بيتكم
           واليوم أحضان التراب منازل
يا غلة حمراء كنت براعماً
            خضراء ... فيها للشباب دلائل
يا قصة ما أكملت فكأنما
            مات المؤلف قبلما تتكامل
إيجيد هذا الشعر حق رثائكم
            أم أن قول الشعر وهم باطل ؟
بينما سيد القصيدة الشاعر الراحل محمود درويش فكرم واستحضر شهداء المجزرة في قصيدته " لاعب النرد " التي كتبها قبيل وفاته ، ويقول فيها :
لو أن خمسة عشر شهيدا
أعادوا بناء المتاريس
لو أن ذاك المكان الزراعي لم ينكسر
ربما صرت زيتونة
أو معلم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى
وتبقى هاتان القصيدتان شاهدتان على الجرح الفلسطيني الذي نزف ولا يزال برصاص المحتل ، وعلى آثار هذه المجزرة البشعة ، التي ستظل وصمة عار في جبين حكومة العدوان والعنصرية ، وستبقى ذكراها  في صدورنا وقلوبنا ، وفي سفر الكفاح الفلسطيني الطويل ،وتاريخ المجازر التي اقترفت بحق شعبنا ، وما أكثرها .
**

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق