الزنديق، إمام الملاحدة يجب أن يُعدم. هكذا طالب علماؤنا الاجلاء الذين عاصروه، أطال الله لحاهم. لم يُعدم ابن سينا ولكنه دخل السجن بقانون "ازدراء الاديان" المطبَّق في مصر السيسي اليوم وفي الكثير من دولنا "العصرية المتقدمة". على امتداد أكثر من ألف عام، اندثر ذكر من كفَّروه وسجنوه، وبقي اسمه علامة مضيئة في سجلّ الانسانية الخالد. لم تنفعهم لحاهم الطويلة في تغطية انجازاته في حقول الطب والعلوم والفلسفة، أو في الحدِّ من انتشار نتاجه الغزير المكتوب باللغتين العربية والفارسية، والذي تُرجم الى معظم لغّات العالم. وبقِيَ كتابه "القانون في الطب" يدرَّس في كل الجامعات الاوروبية المحترمة لسبعة قرون متتالية.
أما لماذا هو والخوارزمي "كافران خبيثان لا تجوز مقارنتهما بالبخاري وابن تيمية"؟ فلأنه لم يعتمد على النقل بل على العقل والقياس والمنطق. وهل من جريمة، برأي الملتحين، أكبر من جريمة التفكير؟ ورغم ذلك انتشر اسم ابن سينا في الغرب ولقَّبوه بأبي الطب الحديث وبأمير الاطباء. واستفادوا من انجازاته العلمية لخدمة الانسانية. حتى في شرقنا، حافظ الشيخ الرئيس على مكانة رفيعة وأطلق اسمه على الكثير من المدارس والمعاهد والمستشفيات والمؤسسات. مما أثار حفيظة التكفيريين الحاليين، فانبرى مفتي الديار السعودية السابق، ابن باز، وجابهها بفتوى "عدم جواز اطلاق اسم ابن سينا (قبَّحه الله) على أي محل..." وقبَّحه الله هذه لأبن باز وليست لي.
ولن أستغرب أبداً لو سمعنا غداً أن أحد الغيارى على الدين قدَّم بلاغاً ضدّ ابن سينا بتهمة ازدراء الأديان في احدى محاكم القاهرة. ولن أستغرب أن ينظر القاضي بالدعوى على أساس ان القانون الذي أدخل ابن سينا الى السجن منذ أكثر من ألف عام لا زال مطبّقاً في مصر السيسي بعد ثورتين مختطفتين. ولن أستغرب بعد غد أن يُصدر السيسي عفواً خاصاً عن بعض الشباب المسجونين، ومن ضمنهم ابن سينا. ولن أستغرب أبداً ان يطبّل الاعلام لهذه البادرة الابوية من قبل الرئيس. أما أنا فأقول للرئيس السيسي: شباب مصر، ومفكروها ليسوا بحاجة لعفوِك. مصر بحاجة بعد ثورتين الى تحديث قوانينها ومنها قانون التظاهر وقانون ازدراء الاديان. فلو تمَّ إلغاء هذين القانونين لانتفى السجن ولانتفت الضرورة للعفو.
قال نيتشه: "يجب أن نحمي العباقرة من التافهين". ولكن في عالمنا العربي يستمر تنكيل التافهين بالعباقرة ولا من يحميهم أو ينصفهم الا التاريخ والانسانية. وسيستمر التنكيل طالما أن التافهين يحتلون معظم المواقع. انشغل التافهون بسجن ابن سينا، وانشغل هو في سجنه بحياة الناس وصحتهم وتقدمهم فوضع الاسس لبعض اهم كتبه مثل القانون في الطب وقصة "حي بن يقظان" التي أعاد تأليفها كبار مثل السهروردي وابن طفَيل وابن النفيس. قصة حي بن يقظان ألهمت الكثير من فلاسفة الغرب وادبائه وكانت الاساس لروائع خالدة في الفكر والادب العالميَين.
ابن سينا الذي فكّر وطوَّر وجدد وألهم، ليس مجرماً ليدخل السجن. المجرمون هم من وضعوا القيود على فكر هذه الامة وجرّوها الى هذا الحضيض بقوانين مثل قانون ازدراء الاديان.
ما أوحش تاريخنا لو لم يزيِّن صفحاته بعض "الكافرين" أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد والكندي وابن الهيثم والرازي و...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق