من تغيير الطرابييش وحكاية المكابشة/ موسى مرعي

أنجزت اجتماعات الآستانة الروسية ـ الإيرانية ـ التركية، في لقاءاتها الستة، المرحلة الأولى التي أسميناها "التفكيك"، لحل الأزمة السورية. والمقصود بذلك تقسيم ميادين المواجهة إلى مناطق وجبهات منفصلة يتم التعامل معها وفق معطيين: داخلي يتعلق بطبيعة الجماعات المسلحة المسيطرة على هذه المنطقة أو تلك، وخارجي يشمل الدول المجاورة المنخرطة بشكل أو بآخر في الحرب على سوريا. من دون أن نتجاهل طبعاً العلاقات العضوية الوظيفية بين القوى الإقليمية وجماعاتها المقاتلة على الأرض.
وقد نجحت تفاهمات الآستانة، وما رافقها من اتصالات أميركية ـ روسية على المستويين السري والعلني، في الإعلان عن أربع مناطق "خفض التصعيد" في الجنوب الغربي (حول درعا)، وغوطة دمشق الشرقية، وبعض أرياف حمص وحماه... وأخيراً مدينة إدلب ومحيطها. وبالفعل تحقق نجاح جزئي في معظم هذه المناطق، خصوصاً بعد أن رفعت دول إقليمية متورطة في الحرب على سوريا التغطية التي كانت تؤمنها للجماعات المسلحة.
الخطوة الطبيعية الثانية بعد "التفكيك" تمثلت في عملية "الفرز"، إي منح الفصائل المسلحة خيار الإبتعاد عن الجماعات المصنفة إرهابية، وبالتحديد "داعش" و"النصرة". وهكذا رأينا عدة تنظيمات في درعا والغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماه تعلن "تحييد" نفسها عن الإرهابيين، وفي بعض الأحيان تقدم على مواجهتهم بالقوة المسلحة في محاولة أخيرة لتجنيب تلك المناطق الضربات الجوية السورية والروسية الحاسمة. وهنا أيضاً تحقق نجاح جزئي، فتمتعت مناطق "خفض التصعيد" بالهدوء النسبي.
ظلت محافظة إدلب خارج التفاهمات الروسية ـ الإيرانية ـ التركية إلى أن عُقدت لقاءات على مستوى القمة بين قيادات ثالوث الآستانة. وبسبب عدم حصول التفاهم التام في كيفية تطبيق نظام "خفض التصعيد" في هذه المحافظ المترامية الأطراف، تمكنت "النصرة" (التي غيّرت اسمها إلى "هيئة تحرير الشام") من إحكام سيطرتها على مدينة إدلب والمناطق المجاورة لها. وكان ذلك مقابل تراجع الجماعات المسلحة الأخرى أمثال "حركة أحرار الشام الإسلامية" و"ألوية صقور الشام" وغيرهما. في حين
كانت قوات "درع الفرات" تحت القيادة التركية المباشرة تنتظر خلف الكواليس إلى أن تحين ساعة الصفر.
عملية "الفرز" في إدلب كانت تتطلب توجيه ضربات موجعة للمتشددين في "النصرة"، خصوصاً القيادات الرافضة لشروط التسوية كما يراها ثالوث الآستانة. وتؤكد معلوماتنا الخاصة أن الضربات الجوية الروسية على مقرات قيادات "النصرة" واجتماعاتها إنما تمت بناء على معلومات استخبارية قدمتها تركيا وقطر إلى القيادة العسكرية لروسية. أما الثمن الذي حصلت عليه أنقرة فيتمثل في تكليفها قيادة عملية تثبيت "خفض التصعيد" في إدلب بتدخل عسكري مباشر، وبالتعاون مع الجماعات المسلحة الأخرى التي سبق وأن وافقت على "فرز" نفسها عن الإرهابيين!
يبدو أن عمليتي "التفكيك" و"الفرز" وصلتا إلى المدى الأقصى الذي بات يتطلب مرحلة جديدة نقترح تسميتها "عملية تغيير الطرابيش". إن "داعش" و"النصرة" وغيرهما من الجماعات الإسلامية التكفيرية هي نتاج تركي ـ خليجي منذ بداية الحرب على سوريا، وقد أنجزت كلها حتى الآن ما قامت لأجله... فبات من الطبيعي في هذه المرحلة الجديدة تغيير الطرابيش كما تتطلب الأطماع التركية. لكن هذه المرة بتغطية روسية ـ إيرانية تحت مظلة تفاهمات الآستانة.
الذي يحدث الآن، تحت ستار حملة إعلامية عنوانها القضاء على قيادات "النصرة" في إدلب، هو إعادة استيعاب أكبر عدد ممكن من عناصر هذه الجماعات الإسلامية بعد أن يكونوا قد حفوا لحاهم وغيّروا عباءاتهم وبدلوا عمائمهم بالطرابيش التركية... وهكذا يتم تأهيلهم تمهيداً للجلوس إلى طاولة المفاوضات في جنيف حيث سيتقرر مصير سوريا ومستقبلها.
لكن ماذا عن الدور السوري، الدولة والمعارضة على حد سواء؟
كم كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقحاً وصفيقاً عندما أجاب على سؤال لأحد الصحافيين عما إذا كان هناك تواصل مع دمشق، إذ قال: "إننا نتحدث مع موسكو , انها الوقاحة الحقيقية المؤلمة

بينما يُطلق سيناتور جمهوري أميركي تحذيراً من أن رئيس بلاده يقود العالم نحو حرب عالمية ثالثة ذات نتائج وجودية على البشرية برمتها،
وبينما تتصاعد التهديدات في شبه الجزيرة الكورية منذرة بمجزرة نووية، ستبدو قنبلتا هيروشيما وناكازاكي أمامها مجرد مشاكسات أطفال صغار،
وبينما يتمدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) نحو الحدود الروسية في البحر الأسود وأوروبا الشرقية، معيداً أجواء "الحرب الباردة" التي قد تتحول في أية لحظة إلى "حروب ساخنة"،
وبينما تستعيد إدارة ترامب خطابها العدواني تجاه المصالح القومية لشعوب العالمين العربي والإسلامي،
وبينما نشهد تشكل تحالف أميركي ـ إسرائيلي ـ عربي يستهدف "محور المقاومة" الذي واجه معركة المصير القومي على امتداد ساحات الأمة، خصوصاً خلال السنوات القليلة الماضية،
وبينما مدننا السورية تتعرض لتدمير منهجي، ونسيجنا الاجتماعي ينوء تحت أثقال الفكر الديني التكفيري، وشعبنا يتناثر في أصقاع الأرض مضطهداً ذليلاً مقهوراً،
وبينما النزعات العرقية والمذهبية الإنفصالية تهدد جغرافية الوطن، والأطماع الإقليمية تقضم أطرافنا الحدودية من دون حسيب ولا رقيب، والمشروع الصهيوني في فلسطين السليبة يفرّخ مشاريع مماثلة على مدى أفقنا القومي،
وبينما مخططات "المحور المعادي" تعيد تركيز جهدها على ساحة الكيان اللبناني للطعن في ظهر "محور المقاومة"، مسترجعة التحالفات المشبوهة بين جماعات محلية مكشوفة التمويل والأهواء...
في هذه الظروف الاستثنائية، وفي ليل الأمة المدلهم حيث مصيرنا القومي تتلاعب به رياح السموم، نفتقد الحزب السوري القومي الاجتماعي، نفتقد حزب سعاده!
حزب النهضة. حزب الرؤى الاستراتيجية الدقيقة. حزب الخطط النظامية. حزب دولة الأمة المصغرة. حزب الوضوح واليقين والشفافية. الحزب الذي سيغيّر مجرى التاريخ. الحزب الذي لا يرضى للأمة أن يكون القبر مكاناً
لها تحت الشمس. حزب الحق والخير والجمال. حزب الطغاة على المفاسد بكل صورها وأشكالها. الحزب الذي سيلاقي أعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ.
هذا الحزب تتلهى قياداته التشريعية والتنفيذية بأتفه التوافه، بينما يستمر نزيف الأمة ونزيف القوميين. مَنْ يستقيل أولاً: رئيس الحزب الذي خرق الأعراف الدستورية أم رئيس المجلس الأعلى الذي يتحمل جزءاً أساسياً مما وصلت إليه أزمة الحزب؟
أولاد صغار يتلاعبون بحزب النهضة: أنت تستقيل، أبداً أنت تستقيل، فشرت أنت تستقيل، واحد مثلك يستقيل، أنت لا تستقيل فأنا لا أستقيل... وهكذا دواليك بمماحكاتهم البهلوانية. وبين هذا وذاك أمناء وعمد ومنفذون عامون وشخصيات تاريخية "يحزكون ويمزكون" جيئة وذهاباً للتوسط بين "قيادات" النهضة. والأشاوس في السلطتين التشريعية والتنفيذية على عنادهم الصبياني!
الأمة تنسّل من بين أيدينا، والنهضة نفسها تكاد تصبح أضغاث أحلام. بينما رئيسا الحزب والمجلس الأعلى يتناحران على مَنْ يستقيل أولاً.
أإلى هذا الحد وصلت الفردية الانحطاطية، فما عادت القيادة ترى إلا ظلها على الأرض؟
هل بات رحم الحزب مجدباً إلى حد أن يبقى القوميون الاجتماعيون كتماثيل شمع، وهم يتفرجون على هذه الملهاة السخيفة؟
ألم يحن الوقت لرفع بطاقة حمراء تصفع أوجه الصغار الذين انحدروا بحزب النهضة إلى مستواهم الهابط؟
أقرأ ما تنشره وسائل الإعلام عن "صعوبة" المساعي والوساطات والمفاوضات بين "قيادات" الحزب السوري القومي الاجتماعي، فلا يتبادر إلى ذهني سوى مثل شعبي معبّر: "الولد ولد... ولو حكم بلد"!
                              الحزب السوري القومي الاجتماعي : مفوضية سيدني المستقلة                                                     
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق