الكُنفدرالية تبدو اليوم المصطلح الأكثر رواجاً داخل أروقة صانع القرار فى المنطقة؛ ومن المرجح أن نرى هذا المصطلح حاضراً وبقوة فى المستقبل القريب ضمن الترتيبات السياسية لمنطقة الشرق الأوسط لعقود قادمة خاصة فى تسوية النزاعات المزمنة، ورغم أن التجارب الكُنفدرالية فى معظمها عبر التاريخ كانت تجارب توافقية بين دول غير متنازعة إلا أن الجديد هنا فى الشرق الأوسط والذى يأتى منه الجديد دائما أن تكون الكنفدرالية بين كيانات سياسية متصارعة فى انعكاس واضح لطبيعة تكوين الكُنفدراليات، ولكن من منطلق الغاية تبرر الوسيلة وضمن السياسة يحدث كل شئ والغاية هنا هى إصلاح أخطاء الخرائط التى خطها كلاً من مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو دون المساس بتلك الحدود على الأقل ضمن المستقبل المنظور؛ ونظراً لأن الكثير من الاستراتيجيات الدولية للقوى العظمى رسمت طبقاً للحدود القائمة حالياً رغم إدراك الجميع أن تلك الحدود التى رُسمت قبل قرن من الزمن لم تعد تتناسب مع الواقع السياسى المتغير بسرعة وعشوائية فى الإقليم خاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربى الذى أظهر هشاشة وضعف تلك الحدود؛ والتى لم تعد قائمة بشكل عملى إلا على الخرائط؛ وهو ما يستدعى إعادة رسمها طبقا للمعطيات القائمة اليوم على الأرض عقب ثورات الربيع العربى التى حولت العديد من الدول العربية إلى دول كُنفدرالية بشكل عملى غير معلن؛ فليبيا اليوم هى عملياً دولة كُنفدرالية بحكومتين وجيشين حتى كلا الكيانين فى الشرق والغرب هما من الداخل أشبه ما يكون بالكيان الفدرالى الذى تديره القبائل ضمن مناطق نفوذها المسلح؛ والحال لا يختلف كثيراً فى سوريا التى تتوزع فيها المناطق بين سيطرة للمعارضات السنية والكردية والحكومة السورية التى تمثل تحالف الأقليات العلوية والدرزية المتحالفة مع التيار الشيعى، ورغم أن التدخل الروسى قد حسم كثيراً من المناطق لصالح النظام خاصة تلك الساحلية إلا أنه من الواضح أن الترتيبات الدولية ستُبقى الكثير من المناطق داخل حدود سوريا ضمن لاعبين جدد كالجيش الحر وقوات حماية الشعب الكردى، أما فى العراق فتبدو الخارطة الكُنفدرالية أكثر وضوح بعد حسم قوات الحشد الشعبى للمناطق المتنازع عليها مع الأكراد فى محافظة كركوك وتحديد حدود الإقليم كما كانت عام 2003وضمن الخريطة سنجد الاقليم الشيعى الممتد من البصرة إلى بغداد والاقليم السنى فى الأنبار وصولاً إلى مناطق الأكراد شمالاً، والوضع لا يختلف فى اليمن الذى كان تاريخياً ولعقود عدة دولتين جنوبية شبه سنية وشمالية شيعية زيدية .
كل تلك الدول مرشحة بقوة أن تكون دولا كونفدرالية مستقبلاً، ومن المستبعد أن تنجح أى صيغة فدرالية فى حل الصراعات الدموية التى أحدثها الربيع العربى والتجربة الفدرالية الفاشلة بين بغداد وأربيل فى العراق خير دليل، وتبدو الكنفدرالية البديل العملى عن التقسيم والانفصال الذى من الواضح أنه لم يحن بعد وقته طبقاً للمعطيات الدولية والإقليمية خاصة فى العراق وسوريا نظراً لحساسية القضية الكردية لكلاً من إيران وتركيا وكلاهما قوى إقليمية فاعلة ولها كلمتها المسموعة فى الاقليم بموجب تأثيرها القادر على إفشال أى ترتيبات لا تراعى مصالحهما .
وقد تحمل حلول الصراع الفلسطينى الاسرائيلى سيناريو مشابه ففلسطين اليوم والتى تخضع لاحتلال وهيمنة اسرائيلية عليها والتى تفقدها سيادتها على أرضها والتى تمثل دولة معترف بها وتملك صفة مراقب فى الأمم المتحدة ولديها تمثيل دبلوماسى فى كثير من دول العالم قد لا نتفاجأ بطرح حلول يترتب من خلالها ترسيم الحدود مع إسرائيل والإعتراف بها وباقى قضايا الصراع تتكفل اتفاقية الاتحاد الكنفدرالى بحلها وتبقى مدينة القدس بشطريها العاصمة الكنفدرالية للاتحاد وتخضع الأمكان المقدسة فيها لإدارة روحية دولية للأديان الابراهيمية الثلاث تحافظ على وضع الستاتيسكو القائم حالياً، وأما الترتيبات الأمنية فمن الطبيعى أن تخضع لاتفاق أمنى يضمن حفظ أمن الدولتين ضمن الاتفاقات الفدرالية بجوانبه العسكرية والأمنية القصيرة والطويلة الأمد، وهذا الحل الكنفدرالى سيوفر لاسرائيل حدوداً آمنة ضمن أغلبية يهودية وسيوفر للفلسطينيين حق تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ( الشطر الشرقى من العاصمة الكنفدرالية الموحدة)، وما يجرى اليوم فى الأروقة الأمريكية والاقليمية لحل الصراع قد لا يكون بعيداً بخطوطه العريضة عن هذا السيناريو، لكن من الواضح أن الاستراتيجية الأمريكية للتنفيذ تنطلق بشكل تصاعدى بمعنى أننا لن نشهد توقيع اتفاقات ثم يشرع فى تنفيذها بل العكس هو ما يحدث، وقد يكون دعم الولايات المتحدة الأمريكية لاتفاق المصالحة ضمن هذا السياق وهو ما يفسر كذلك حركة الاستيطان المحمومة التى ازدادت وتيرتها منذ قدوم إدارة الرئيس ترامب فى أماكن بعينها فى الضفة كالخليل وشرق القدس وأخرها ما جرى بالأمس فى جبل المكبر، فاسرائيل معنية بالتواجد اليهودى هناك ضمن أى تسوية قادمة سيتم تنفيذها على الأرض خطوة بخطوة وصولاً للإعلان عن الاتفاق النهائى لإنهاء الصراع ضمن التصور الكنفدرالى .
فى المقابل لن يكون الحل الكنفدرالى لانهاء الصراع الفلسطينى الاسرائيلى إلا نوعاً من المسكنات طويلة الأمد أو قصيرة الأمد إن لم يكن منصف للطرف الفلسطينى بالحدود الدنيا، لكنه سيوفر هدنة للطرف الفلسطينى قد تسمح له بالتقاط أنفاسه وأنسنة واقعه الذى أحالته سنوات الاحتلال لجحيم، وفى المقابل سيفتح الاتفاق أبواب العالم العربى والاسلامى أمام الاقتصاد الاسرائيلى خاصة دول الخليج العربى وسيوفر للولايات المتحدة الأمريكية حلفا ذهبيا استراتيجيا سياسيا واقتصاديا سيطيل عمر الهيمنة الامبراطورية الأمريكية على الاقتصاد العالمى.
إنه الحلم الذهبى الذى حلمت به كل الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض ولم تستطع تحقيقه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق