فريد وراجحة وبلقيس وسهام رفقي
ما كنتُ أعرفُ ( فريد الأطرش ) جيداً وما كنتُ أهوى أيا من أغانيه . كنتُ مولعاً بملاحقة وسماع أغاني ( سهام رفقي ) حتى كان يوم ... بدل مزاجي في الطرب وسماع الأغاني . حدثَ ذلك صيف عام 1951 إثر لقاء من لقاءات ذلك الصيف مع صديق بمثل عمري . تبادلنا ونحن نتمشى في بعض شوارع مدينتنا عصراً أحاديث الغناء والمغنين فدُهش إذ سمع مني أني أحب أغاني ( سهام رفقي ) ، أحببتها بعد أن شاهدتُ فيلماً سينمائياً لها عُرضَ صيف عام 1949 في إحدى دور السينما يحمل إسم
[ البريمو ] . إستسخف الصديق ذوقي وخياري وقال (( هذه أغاني زعاطيط )) !! وكان كلانا (( زعطوطاً )) يومذاك . غضبتُ منه مرتين : الأولى لإنه إستخف بمقام سهام رفقي ، ثم لأنه لم يحترم مشاعري واستهزأ بخياري وميلي . كدتُ أنْ أقاطعه وأتوقف عن التمشيات الصيفية الطويلة معه . ظلّ الموضوع يقلقني وجعلني أطيل التفكير فيه ومَن منا المصيب ومن الذي جانبه الصواب . مَن الأفضل ، سهام أم فريد . كانت أغاني سهام رفقي قليلة أصلاً ثم كانت قليلة التداول بالقياس مع سهولة وكثرة تداول أغاني فريد الأطرش . أي أن فُرصَ سماع أغاني فريد كانت أكبر وأكثر بما لا يُقاس من فُرص سهام . وضعني هذا الأمر وجهاً لوجه مع فريد فصرت أتسمع وأصغي سراً حيناً وعلانيةً أحيانا إلى أغانيه حتى وجدتُ نفسي واقعاً كصديقي تحت تأثير صوت والحان وكلمات أغانيه . كانت منافسة بين الأثنين غير متكافئة ، إنتصر أخيراُ فيها فريد على سهام رفقي . فما كانت أول أغنية أحببتها لفريد ؟ كانت يومذاك في بيوتنا أجهزة راديو وليس في بيوتنا أجهزة تلفزيون . إلتقطت يوماً من جهاز الراديو أغنية (( حبيبي فين فين إنتَ فين / يا نور العين ... )) ، أحببتها من أول سماع بدل أول نظرة . إرتبطت هذه الأغنية مع صبية في الصف السادس الإبتدائي كنتُ ألتقيها صباح كل يوم في ذهابنا لمدارسنا والعودة منها لبيوتنا منتصف النهار. تطورت بيننا النظرات يوماً إثرَ يومٍ وأخذ تعلقي بها ينمو مع كل أغنية جديدة علي َّ أسمعها لفريد الأطرش . مع نمو إعجابي بالصبية نما تعلقي بأغاني فريد . وكلما زاد إعجابي بهذا إزداد إعجابي بتلك . غريبة !! ما علاقة هذه بذاك ؟ لا أدري .
مرّت الأيام . إفترقنا إذ غادر والدها مدينتي كما هو شأن كل موظفي الدولة ... دائمي التنقل بين المدن . غابت [ راجحة ] عن عالمي . أهملتُ أغنية (( حبيبي فين فين إنتَ فين )) حين بدأتُ علاقة حب مع أغنية أخرى جديدة إرتبطت بفتاة جديدة كانت في مثل سني تماماً ، لم تكن صبية كتلك . مع هذه الأغنية كنتُ قد دشنتُ مرحلة دراسية هي الأخرى جديدة ، بداية المرحلة الثانوية / الصف الرابع العلمي . همتُ في حب الأغنية الجديدة لفريد التي يفتتحها قائلاً (( بتسأليني عن حالي وإنتِ السبب في اللي جرالي )) . كنتُ أتصيدها من جهاز الراديو في ساعات الدراسة الليلية إذْ أجلس وحيداً في الحجرة الأمامية أحضر دروسي وأستعد للإمتحانات الشهرية وغيرها من واجبات يومية كثيرة عادة ً . وكما كان أمري مع أغنية فريد الأولى ، إرتبطت هذه الأغنية بقوة بالفتاة الثانية
[ بلقيس ] . كانت هذه الأغنية نادرة التداول في محطات الإذاعة يومذاك . لذا كنتُ أكتب رسائل إلى مختلف المحطات أطلب سماعها ضمن برنامج واسع الإنشار يسمونه " طلبات المستمعين " . وفي هذه الفترة بالذات
( خريف عام 1951 ) طبّقتْ الآفا قَ أغنية ٌ خفيفة لفريد هي ( يا عواذل فلفلوا ) غناها في فيلم ( آخر كذبة ) مع الراقصة سامية جمال . أقام ملك مصر يومذاك ( فاروق ) الدنيا على رأس فريد إذ حسب أنَّه هو المقصود ب ( يا عواذل فلفلوا ) . أما في العراق فكان الوضع مع أغنية فريد هذه أشد سوءاً . مُنعت إذاعتها من راديو بغداد الحكومي وما كان في الساحة سواه.... وقيل في حينه أن َّ وليَ العهد والوصي على عرش العراق يومذاك < عبد الإله بن علي > هو الذي أمر بمنع تداول هذه الأغنية .
لذا كنا شباب ذلك الزمان نتصيد هذه الأغنية من محطات إذاعية كثيرة آخرى منها البريطانية بي. بي.سي
BBC
والشرق الأدنى في قبرص .
هل تركت ُ أو خنتُ صاحبتي المغنية الجميلة ( سهام رفقي ) ؟ كلا. كنتُ كذلك أتصيد أغانيها حتى إختفت فجأة ً. أشيع في حينه أنها تزوجت فاعتكفت في بيت الزوجية حسب رغبة زوجها الثري الذي سعى فنجح في سحب إسطوانات أغاني ( سهام ) من الأسواق ومن محطات الإذاعة . كانت أغاني ذلك الزمان تٌسجّل على إسطوانات وليس على أجهزة تسجيل أو أشرطة وكاسيتات كما هو الحال اليوم . أظن أن آخر أغنية غنتها
( سهام رفقي الأفيوني ... وكان هذا هو إسمها الحقيقي مع اللقب ) هي أغنية [[ جينا وجينالك جينالك / يا فلسطين جينالك / جينا لنشيل أحمالك ]]
لمناسبة الحرب في فلسطين عام 1948 ــ 1949 . وككل الأغاني السياسية والحماسية وأغاني المناسبات العجلى لم تكن هذه الأغنية بمستوى أغاني سهام القديمة الأخرى . أذكر ، على سبيل المثال ، أغنية
[ يا أم العباية ] و [ أه ياني وياني وياني / عللي راح وخلاّني / أسهر الليل بطولو / ولّع قلبي وما جاني ... ) ... غناها ( حسين نعمة ) بعد عقود ، ثم غنتها ( لميعة توفيق ) أو ( زهور حسين ) ... من مطربي ومطربات العراق . وأغنية [ لومك يا لايم ما يفيد / منو نار الشوق تزيد / سيب المجروح بهمو / لا تفتحلو جرح جديدْ ] ، ثم أغنية [ شوقي على الأحباب / نوحي على الأحباب / قلبي بهواهم ذاب / شوقي على الأحباب ] ...
وأخيراً أغنية [ يا أبو الزلف يا روح / لويشَ عني تروح ] ... يبدو أنها غنتها خصيصاً للعراقيين ، فلفظة ( لويش ) عراقية بغدادية صميمة . شاعت هذه الأغاني كثيراً في العراق بفضل فيلم { البريمو } الذي عُرض في العراق لفترات طويلة . ظلت أغنية [ يا أم العباية / حلوة عباتج / جمالك آية / زينة بصفاتج ] ... ظلت متداولة بين أوساط عريضة من النساء العراقيات بشكل خاص ، فكلماتها عراقية قحّة . أما خارج فيلم [البريمو ] فقد غنت سهام رفقي أغنية [ يا لاعباً بالسيف يا بو الفروسية ] وأغنية [ جلابيتو قلام قلام حرّمتني النوم أنام ] وأغنية [ حوّلْ يا ظريف القدْ / يابو جدايل شلح ورد ْ / لا تعذبْ قلب اليهواكْ / نور العين ونار الخدْ ] وأغنية [ لا لا يا بابا ما اريدو ... ما اريدو واللهِ ما اريدو / لو مفتاح الجنةْ بإيدو ] .
قلت قبل قليل إنَّ سهام رفقي تزوجت فتركت الفن لشديد الأسف . لو بقيت تغني لأتحفت عالم الطرب بأغانيها المتميزة وبصوتها الفريد الذي وجد له مساحة خالية عريضة وفراغاً كبيراً تركته ( أسمهان الأطرش ) بموتها المأساوي المبكر . لم أتخلَ عن سهام رفقي ، مغنية طفولتي وأوائل مراهقتي وإنَّ طبعي الوفاءُ ... لذا فإني أحتفظ اليوم لها بإحدى أغانيها الرائعة [ شوقي على الأحباب // نوحي على الأحباب ... ] أسمعها بين يوم ويوم وحين أمل ُّ من أغاني فريد أجعل ( سهام ) وصلة إستراحة بين فريد وفريد . شاطر ومشطور بينهما كامخ ...
أين إنتهينا في رحلتنا مع فريد ؟ غادرتْ ( راجحة ) مدينتي ولم أكن أعرف هل كانت تحب أغاني فريد أو لا ؟ ( بلقيس ) باقية ولكنها كانت فتاة نصف متعلمة ولا من جهاز راديو في بيت أبيها . ولعل أباها يعتبر الغناء حراماً ورجساً من عمل الشيطان !! غادرتْ الصبية ُ وبقيت الناضجة قليلاً . غابت ( سهام ) عن مسرح اللحن والغناء والطرب وبقي
( فريد ) حياً لا يموت . يجدد نفسه عَبرَ أفلامه التي كانت تترى ... فيلم يتلو فيلماً وفي كل فيلم مجموعة أغانٍ يفتعل فريد مناسباتها إفتعالاً يبدو أحياناً مضحكاً . وبقدر تعلق الأمر بي ، تزحزحتُ قليلاً عن هيامي بأغنيته [ بتسأليني عن حالي ] بعد أن شاهدتُ مع صديقين آخرَ فيلم لفريد وصل العراق أوائل عام 1952 يحمل إسم [ لحن الخلود ] مثله مع فاتن حمامة وماجدة ومديحة يسري . أحببت ُ ــ وما زلتُ ــ من بين أغاني هذا الفيلم آخر أغنية فيه تحمل إسم الفلم نفسه [ أغنية لحن الخلود أو : بنادي عليكِ ] أغنية طويلة ينتقل فريد فيها من جملة موسيقية لحنية إلى غيرها . الطريف في هذا الفيلم أن الممثلة مديحة يُسري كانت تحمل فيه إسم (( سهام )) ولي كانت بعد عامين ( عام 1954 ) مع فتاة تحمل هذا الإسم قصة إنتهت بمأساة ... كتبتها في سياحة رقم 6 . كانت ( سهام ) الحقيقية وليست مديحة يسري ، هي الأخرى من أشد المعجبات بأغاني فريد الأطرش . عبّرتْ يوماً عن إعجابها الكبير أمامي بألحان وغناء فريد فشعرتُ بحرج غير قليل . إعترضتُ بدافع الغيرة بتحفظ ٍ وأدب ٍ لكيلا أفضح أمري أمامها . قلت لها (( إنَّ فريدأ رجل ٌ كبير السن )) ... فهمتْ الدافع وراء هذا الذم فقالت بكل أدب وبعض حياء (( لكنه حلو )) . أصاب كلامها هذا مني مقتلاً لم أستطع لسنواتٍ طوالٍ نسيانه . أردتُ الحط من قدره في عينها فردت بالدفاع عنه من زاوية شديدة الحساسية ... جمال الوجه . لو قالت إنَّ صوته جميلٌ مثلاً لهان الأمر . لو قالت إنَّ تمثيله جيد لكان وقع ردها عليَّ خفيفاً محتملاً . كانت تقول لي (( إني أعبدك )) ... كيف تقول مثل هذا الكلام ، تعبدني ، لكنها معجبة بوجه رجل تصفه بأنه ( جميل ، حلو ) ؟! لم أستطع أن أفهمَ كيف تعبدُ فتاة ٌ شابة ٌ شاباً وتستحسن وجهَ رجل آخر ؟ شئ لا أفهمه ولا أستوعبه حتى هذه اللحظة . أفهم أن َّ الذي تستحسن وجهه تعبده أو قد تعبده أو تجده مرشحاً للعبادة . هذه حالة أغلب المراهقات من الصبايا في أوائل عهد المراهقة .
عُرضَ أواخر عام 1954 في بغداد فيلم (( رسالة غرام )) من تمثيل فريد و (( مريم فخر الدين )) . نال الفيلم النجاح الذي يستحق وغنى فريد كعادته عدة أغانٍ لمناسبات أغلبها مصطنعة ولأسباب باهتة لا علاقة قوية لها بسياق الفيلم وحوادثه العامة . بإستثناء الأغنية الأخيرة ، أغنية ( يا قلبي يا مجروح ) . كانت أغنية رائعة أداها فريد بكل ما في قلبه من أحزان حياته الخاصة وتجارب الرومانس الفاشلة . ثم قصته في الفيلم مع مريم فخر الدين المأساوية .تخلفُ طفلا ينكره أبوه ثم تموت . قبيل موتها أوصت فريدا ً أن يتبنى هذا الطفل فامتثل . يبكي فريد ويمسح دموعه عَلناً وهو يؤدي هذه الأغنية أمام حفل تم الإعداد له على أحد مسارح القاهرة . يقول فريد في هذه الأغنية :
يا قلبي يا مجروحْ / إصبرْ على المقسومْ
باب السما مفتوح / لدعوة المظلومْ
أيام تجري / بربيع عمري
وشكوى قلبي / إليكْ إليكْ يا ربي .
في القلب ِ نارْ وجراح / صابرْ عليها إزاي
أبكي على اللي راحْ / ولا على اللي جاي ؟
كنا الهوى / كنا الأحباب كنا الحياهْ
بعت الهنا بخداع كذاب ْ / وجريت ْ وراه ْ
تعالَ تعالَ / تعالَ نحيي أحلامنا
تعالَ إعطفْ على جروحي
ده لسه العمر قدامنا
تعالَ بتناديكْ روحي
يا دنيا ... يا دنيا
بدمع عيني َّ كتبتِ قسمتي فيكِ
يا دنيا ... يا دنيا
بدم قلبي الجريح الحنّة بإيديكِ
[[[ هنا يبكي فريد ويمسح دموعه ]]]
يا دنيا ...
يا دنيا إيهْ لسه عندكْ كمانْ
هاتي اللي يرضيكِ يا دنيا
تعالَ يا حياةْ قلبي
نجددْ حبنا الغالي
ما هوش ذنبك ْ ولا ذنبي
جرى لك ْ زي ما جرا لي
ودموع سالتْ
وجراحْ طالتْ
وشكوى قلبي
إليكْ إليكْ يا ربي .
لماذا وقفتُ طويلاً عند هذه الأغنية ؟ سؤال وجيه . جوابه أني كنت معجباً وما زلتُ بهذه الأغنية . حتى أني ــ وقد خلتْ مجموعة مقتنياتي من أغاني فريد من هذه الإغنية وأغنية ثانية ــ تجرأتُ فسألت العديد من معارفي ممن يعملون في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وبعض الفضائيات وحتى بعض المسافرين لزيارة دمشق أو عمان أو القاهرة ... سألتهم ورجوتهم تدبير أغنية ( يا قلبي يا مجروح وأغنية بتبكي يا عين على الغايبين ودمعك على الخدود سطرين ... ) وأعربتُ لهم عن إستعدادي لدفع أي مبلغ يطلبون مقابل هاتين الأغنيتين أو إحديهما . ضاعت جهودي جميعاً سُدىً . أضحكني صديق في لندن وقد سألته المساعدة في هذا الشأن إذ أجاب : زرْ القاهرة ، زيارة وتسيارة ، كما نقول في العراق ...هناك لا شك َّ ستجد هاتين الأغنيتين مسجلتين على كاسيت أو كفيلم فيديو . { عرب وين طنبورة وين } ... لا يعرف هذا الصديق أني جبتُ الدنيا أسأل عنهما ولا من مجيب ولا مِن مُغيث .
أحببت هذه الأغنية ساعة َ أن شاهدتُ الأطرش يغنيها في فيلم ( رسالة غرام ) في إحدى دور السينما في بغداد أواخر عام 1954 ... فإرتبطت مع ( سهام ) المعجبة بوجه فريد ثم بأغانيه جميعاً . كسابقتها راجحة ، رحلت سهام ، ولكنها غادرت دنيانا وظل فريد بعدها حياً يُرزق ويغني ويسهر ويلعب القمار ويفشل في قصصه الغرامية حتى وافته المنية في يوم 26 من شهر ديسمبر ( كانون الأول ) عام 1974 . الفاتحة للإثنين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق