مصر، أم الدنيا، أعادت لنا الأمل سنة 2011 عندما تدفقت جماهيرها بالملايين الى الساحات رافضين التوريث ومطالبين بما طالبت به جماهير كل الثورات في التاريخ: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. قبلها وَصَلَ الوطنيون، على امتداد العالم العربي، الى حدود القناعة باستحالة تحريك المياه الراكدة تحت قبضة الانظمة القمعية الحديدية. وانطلقت الشرارة من تونس. احرق البوعزيزي نفسه فولع الشارع العربي وتهاوت انظمة، واعتقدنا أن الربيع سيأتي لا محالة. وما أسرع ما وقعت الثورة المصرية في أحضان النظام الذي حاولت التخلص منه.
مصر محكومة منذ بداية الخمسينات بالعسكر. لم يبق مرفق مهم من مرافق الدولة الا وأصبح تحت ادارة العسكر. أصبح العسكر هم الدولة. حكموها بالقمع وخنق الحريّات والاعتقالات والسجون. من عبد الناصر الى السادات ثم مبارك. ورغم تميّز حكم عبد الناصر بانجازات وطنية واجتماعية واقتصادية هائلة وضعت مصر، سنة 1970 عندما غادرها ناصر، على قدم المساواة مع كوريا الجنوبية. اليوم كوريا الجنوبية عضو مجموعة العشرين لأن اقتصادها من بين أقوى اقتصادات العالم بينما الاقتصاد المصري لا يكاد يُرى على الخارطة. أهم مساوىء نظام عبد الناصر، تفرّده بادارة شؤون مصر. بثَّ العيون والضبّاط في كل موقع. نكَّل بالمعارضين من كل الاتجاهات وحكم مصر بالحديد والنار.
ذهبَ عبد الناصر وذهب معه معظم انجازاته. ولم يبق من حكمه الا المساوىء التي توارثها السادات ومبارك. وحكما مصر بالعسكر اضافة الى فتاوى فقهاء النظام. وكان لا بدَّ للشعب أن يثور. وثار. رفع شعارات حريّة، عَيش، وعدالة اجتماعية. ولكن غياب القيادة المنظمة، المتمثلة أعظمها، بالناشطين الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، سهَّلَ ركوب الثورة من المُنَظَّمين على الارض أي الحركات الدينية والعسكر.
تصدَّر المشهد المجلس العسكري الذي دفع الاخوان الى الواجهة بهدف اصطدامهم بالشعب المصري. وسرعان ما وقع الاخوان، لغبائهم السياسي، في الفخ. اقتضى الامر حوالي سنتين، اختبأ فيها العسكر، أولاً، وراء الرئيس المؤقت عدلي منصور، ووراء تشريعات وقوانين مكَّنت الاسلاميين من ركوب المركز الاول ورؤوسهم. فعاثوا في البلاد فساداً. وما هي الا سنة أخرى من الأخوَنة حتى انقلب فيها معظم المصريين ضدّ حكمهم المجحف جدّاً. وطلَّ البطل المنقذ! أتى باسم الجيش. الجيش الذي كان دائما في الصورة. والذي كان هو الحاكم الفعلي لمصر. ادَّعى ان الجيش هو المدافع الاول عن الشعب. وهذا صحيح في معظم تاريخ الجيش المصري. وادّعى أن المجلس العسكري، وممثله في الحكومة، المشير عبد الفتاح السيسي، هما المدافعان عن مطالب الشعب والثورة، وهذا خطأ. وتداخل الدور الوطني للجيش المصري، وهذه حقيقة تاريخية، مع دور قيادته التي كان هدفها قمع الثورة باسم الثورة، واعادة بسط سيطرة الجيش على كل المواقع وترسيخها.
اليوم، بعد أكثر من ست سنوات غلى الثورة ماذا تحقَّق من المطالب؟
بالنسبة للمطلب الاول عيش يمكننا القول: أن الحال أسوأ بكثيرأو كما قال أحد الغلابة "زفت": انهيار الجنيه، ارتفاع نسبة الذين تحت خط الفقر، ارتفاع نسبة البطالة، ارتفاع أسعار الوقود ومعظم المواد الاساسية، ارتفاع نسبة التضخّم، ارتفاع العجز في الميزان التجاري، ارتفاع معدّل الدين العام.
بالنسبة لمطلب الثورة الثاني: حريّة. يمكننا الاختصار بـِ "آخ يا بلدنا". أما بقليل من التوسع فنقول: بناء 16 سجناً جديداً. 41 ألف معتقل في سنة واحدة. أبرز شباب الثورة موجودون خلف القضبان ولسنوات طويلة قادمة. قيود على حريّة التجمع. التضييق على الجمعيات الاهلية. قمع الصحافيين. مصر اليوم ثالث أكثر دولة تحبس الصحفيين في العالم. بين أسوأ عشر دول عالمياً بالنسبة لحقوق المرأة. مصادرة الفكر وسجن المفكرين بقانون ازدراء الاديان. قيود على السفر وعلى دخول البلاد أمام المفكرين التنويريين.
أما المطلب الثالث للثورة: عدالة اجتماعية فلا أمل بتحقيقه في المدى المنظور. الامتيازات للأغنياء والنواب والوزراء وقيادات الجيش والشرطة والقضاء. اعفاءات ضريبية للقادرين وتحميل الاعباء للفقراء.
ماذا بقي؟ العسكر والسيسي. العسكر الذي لم يغب أبداً منذ 1952، والسيسي الذي يأمل بفترة رئاسية ثانية وربما ثالثة ورابعة الى أن يحين موعد الثورة القادمة.
في الثورة القادمة لا محالة، يجب على الثوّار أخذ الامر بيدهم وعدم تسليم قيادتهم "لمخلّص" جديد يأتي من قيادة الجيش ليعيدهم الى السجن باسم مكافحة الارهاب والتخويف من البديل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق