السعودية، باعلامها الذكي، وممارسات سياسييها الاذكياء، تريد ايهام العالم أن سعد الحريري يعيش في الرياض بحرية تامة، يقوم بزيارات دولية، يستقبل سفراء أجانب، ويستقبله الملك سلمان. ولكنه في الوقت ذاته، وبحرية تامة أيضاً، لا يتصل برئيس الجمهورية اللبنانية، الذي كانت علاقته معه أكثر من ممتازة. وبحريّة مطلقة، لا يتصل بأركان حزبه ليبدد الكثير من علامات الاستفهام المتزايدة. تريد ايهامنا ان سعد الحريري يحتجز نفسه بملء ارادته، وانه اعتزل الجميع.
نحن نفهم أن يستاء الحريري من ايران وسوريا وحزب الله. ويقطع الخطّ معهم ولا يكلمهم. ولكن لماذا لا يكلم السنيورة، رئيس كتلته النيابية؟ لماذا لا يكلّم نادر أو أحمد أو بهية أوبعض أصدقائه الكثر في لبنان وحول العالم ويضعهم في جو ما يفكّر به؟
فلندع ما كتبه الصحافي البريطاني المشهور روبرت فيسك في جريدة الاندبندات، الجمعة في العاشر من نوفمبر الجاري، حيث أكَّد ان الحريري قيد الاقامة الجبرية في الرياض. ولنقبل الرواية السعودية التي أعدّها و كتبها ولي العهد محمد بن سلمان وأخرجها تامر السبهان ولنستعرض تفاصيل ما حدث:
الحريري العائد من زيارة رسمية للسعودية، وقبل أن يرتاح من عناء السفر، يتلقى مكالمة هاتفية تستدعيه الى السعودية على جناح السرعة للقاء المللك. فالملك، الذي زاره الحريري قبل يومين، أشتاق له جداً وأضناه الهجر فاستدعاه. وهذا طبيعي فللملك كامل الحق باستدعاء أي مواطن سعودي وما على المواطن الحريري، كما العادة، الا التنفيذ.
بعد ساعة واحدة من وصوله يقرأ بياناً يعلن فيه استقالته أمام عدسات الفضائية الرسمية السعودية. ويردد في البيان بعض العبارات التي أصبحت ماركة مسجلة لولي العهد السعودي. وهذا لا شك مجرد توارد خواطر. ويخلق من "التوارد" أربعين.
يستقبله الملك سلمان وولي العهد الاماراتي ويصدر عن القصرين بيانان متشابهان بأن المسؤولين في البلدَين قد بحثوا مع "رئيس الوزراء اللبناني المستقيل" الاوضاع في لبنان والمنطقة. وطالما أنه مستقيل فلماذا يبحثون معه؟ وطالما أن رئيس الجمهورية اللبنانية، ومجلس النواب اللبناني، لا يعتبرانه مستقيلاً فلماذا يصرّ البلدان على اعتباره مستقيلاً؟
زاره السفير الفرنسي في قصره في الرياض. وكتبت اللوموند ذلك وأنا اصدّقها. ولكنها أضافت أن السفير لم يستطع لقاء الحريري على انفراد. بل تواجد معهما ستة أشخاص مدنيين سعوديين يعرفون اللغات الاجنبية ربما لمساعدته بـ "التفاهم". ولما طلب السفير من الحريري أن يلتقي به على انفراد أجاب: هؤلاء أصدقاء ويمكننا الكلام أمامهم. وطبعاً لم يتكلموا. ولما دعاه السفير للقاء في السفارة الفرنسية في السعودية أجاب بأنه سيلبي الدعوة في أقرب فرصة ممكنة. فهل هذا تقييد حرية؟
ذكر الكثيرون من أركان المستقبل، المرتبكون حول مستقبل زعيمهم، أن الحريري سيعود قريباً. وأكَّدَ أحد القياديين أنه سيكون في لبنان حتماً يوم السبت الماضي. و"عدّى السبت بقفا السبهان" ولم يظهر الحريري. وإذا احتجّ أحدهم بأن المثل لا يذكر السبهان بل اليهودي أقول: على ذكر السبهان فهل من يذكّره أنه وزير الدولة لشؤون الخليج العربي. ولبنان ليس من دول الخليج. فليحل عن ظهرنا. لقد تدخَّل في كل شيء حتى دخَلَ في أمثالنا الشعبية.
وأخيراً في نهاية بيان الاستقالة الذي يدَّعي كثيرون، كذباً، أنه تلاه نيابة عن ابن سلمان قال: "أعدكم بأن يكون لبنان أقوى مستقلاً حراً لا سلطان عليه..." فلو كانت السعودية هي من أجبره على تلاوته لقال: لا سلمان عليه. على الاقل لابعاد الشبهات.
علَّقَ أحد مقدمي البرامج بلهجته البدوية بعد ان استعرض اخفاقات بن سلمان من اليمن الى قطر الى لبنان واخفاقه السياسي بما رمى اليه من احتجاز الحريري بقوله: "أخذوا خازوق... ويا كتر الخوازيق التي ياخدونها آل سعود هذه الايام".
القضية واضحة وضوح الشمس. فلا تقييد حريّة ولا من يحزنون. الحريري حر في السعودية. وهو من قرَّر بملء ارادته اعتزال العالم والاكتفاء بأصدقائه الستة الذين يحرصون على حضور كل لقاءاته. والصديق لوقت الضيق. وهل هناك أضيق من هذه الاوقات؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق