ساحتنا اللبنانية تغصّ بالحناجر المناضلة. كلّها حناجر موالية. للزعيم أو للبيك، للشيخ أو لمعاليه، للطائفة أو للمذهب. وتختبىء دائما وراء لبنان والوطنية. بعضها مدفوع الأجر كاملاً مع "اوفرتايم" إن اقتضى الامر. وبعضها متطوّع لا يبغي الا مراضاة الضمير الغائب في أغلب الاحيان بعد أن يمرّر الزعيم يده "الطاهرة" على ظهره. وبعضها يقبض على القطعة.
لم تتعلم هذه الحناجر شيئاً. أو بالاحرى تعلمت كل شيء. فهي تفيض بمعرفة الحق الذي هو الى جانب فريقها دائماً. كما تفيض بمعرفة الخطأ الذي هو من نصيب خصمها دائماً. فإذا كانت الحنجرة في خدمة الطائفة أو المذهب، فاضت في تقبيح المذهبيين الاعداء وبرعت في تعداد مساوئهم، وهي بالفعل مساوىء. وسكتت عن مساوىء فريقها التي تتشابه دائما مع مساوىء الفريق المعادي.
وإذا كانت الحنجرة في خدمة اقطاعي منطقتها خلعت عليه من الصفات الثورية ما يستحي تشي غيفارا أن ينسبها لنفسه. وفاضت في تعداد نقائص الاقطاعيين المناوئين وهي محقة تماما في ذلك. ونظَّرت لديمقراطيته وانفتاحه ووطنيته. وهاجمت قصر خصمه المبني بالمال العام الحرام ودافعت عن قصر سيدها المبني بالمال العام الحلال.
واذا كانت الحنجرة سياسية تناصر حزباً معيناً، وضعت كل البيض الطازج في سلته والبيض الفاسد في سلة الاحزاب الاخرى. حزبها وحده على حق. الوطنية في جيبها، والعمالة في جيب الاخرين.
وإذا كانت الحنجرة عائلية، فتعتقد أن عائلتها هي من ردَّت نابليون على أعقابه. ولولا مساعداتها اللوجستية لما انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وأنه لولا عبقرية زعيم العائلة لبقي الجهل والفقر والتعصب مسيطراً على المنطقة. وكأنّ في المنطقة غيرها.
وإذا كانت الحنجرة يسارية، وانحرفت مذهبياً، فعيارها لا يقل عن 240 فولتاً. وهي مفتوحة 24 على 24. فلولانا لكان اليسار بخبر كان. نحن من نبّه من هذه، وحذَّر من ذاك. وهذا عميل وذاك وطني. وغداً يصبح العميل وطنياً والوطني عميلاً. تهاجم دكتاتور الخصم، وتدافع عن دكتاتورها المقاوم، الممانع الذي سيحرر القدس وفلسطين في الذكرى الخمسين لتوليه العرش. والعجلة من الشيطان. وهي مستعدَّة للتنظير في كل الاتجاهات.
هذه الحناجر، منذ تعلمت الصياح، وهي تهتف بالروح بالدم نفديك يا فلان. وفلان هو من أكل الاخضر واليابس وشارك في القتل والسرقة والتهجير والتدمير... ولكن فلانها بسمن حموي أصيل، وفلان غيرها بزيت فاسد مغشوش.
وإذا قلت لهذه الحناجر: لو كان من تهتفون باسمه كما تدَّعون، فلماذا أصبح وطن الارز وطن الفساد والرشوة والنفايات؟ وطن المحسوبية والواسطة والارتزاق؟ ولماذا أصبح الوطن مفلساً، غارقاً بالديون وزعيمكم غنياً غارقاً في الاموال العامة حتى ما فوق اذنيه؟
فيجاوبون اجابة لا يمكنك النهوض من تحتها، اجابة علمية موثقة بالوقائع والارقام: أنت عميل مخرب خائن.
لهذه الحناجر أقول : كلكم بالنسبة لفريقكم على غلط. و كلكم بالنسبة لبقية الفرقاء محقون. وإلى أن تستطيعوا رؤية الحق أينما كان، ورؤية الغلط أينما كان، سنبقى على هذه الحال، ولن يعبر وطننا أبداً من زواريب العائلية والمناطقية والمذهبية والتخلف الى رحاب الوطن ودولة الانسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق