الدكتاتور العربي/ جورج الهاشم

استيقظتْ مراهقتي وتفتَّح شبابي المبكر على خطب الزعيم الخالد جمال عبد الناصر. أيقظ في جيلنا الوعي والكرامة الوطنيتين. وحلمت أن نعيد معه أمجاد النهضة العربية المتمثلة بابن سينا وابن رشد وكل عباقرة الحضارة العربية التي كانت السبب الاساسي وراء نهوض اوربا والغرب بشكل عام. وسبب أساسي ايضاً وراء استمرار تفوقه.                        
في فترة زمنية قياسية نقل عبد الناصر مصر الى مصاف الدول المؤثرة في العالم. ونقل اقتصادها الى مستوى غير مسبوق وصل الى المساواة مع اقتصاد الكثير من الدول المتقدمة اليوم في العالم: مدارس، معاهد، جامعات، مصانع، مستشفيات، زراعة، تجارة، سدود، اصلاح زراعي ومشاريع كبرى، وبنى قطاعاً عاماً فعّالاً. وطبعاً في السياسة كان قائد الامة العربية دون منازع وأحد أهم قادة دول عدم الانحياز في العالم. دخل الحروب وتصدى للاستعمار الغربي ولأحلافه في المنطقة، وكان أحد أهم داعمي ثورات التحرر حول العالم. قاد عملية اعادة بناء الجيش كما قاد حرب استنزاف مشرّفة قبيل وفاته.                         
واستلهمه الثوريون حول العالم وأصبحت مصر الدولة النموذج بالنسبة لدول العالم الثالث والملهمة لدول كثيرة تحلم بالاستقلال والتحرر الوطني.                                        
فجأة رحل عبد الناصر وانهمرت دموع كثيرة ومنها دموعي.                                    
كل الدكتاتوريات العسكرية نبتت على جذعه. هذا لا يعني أن الدكتاتورية ابتدأت مع عبد الناصر. فالنظام العربي لم يعرف إلا الدكتاتورية. مع انفراجات وصحوات ديموقراطية هنا وهناك. ولكن دكتاتورية عبد الناصر كانت الاكثر وطنية، الأكثر التفاتاً الى الطبقات الدنيا، وكادت تبني دولة عملاقة. لهذه الاسباب أحبه حتى بعض الذين نكَّل بهم وأذاقهم مرَّ العذاب. عندما زارنا، في سدني، المفكِّر والاديب والناقد وأحد أكبر أقطاب الحركة اليسارية المصرية الدكتور محمود أمين العالم، لاستلام جائزة جبران التي منحته اياها رابطة احياء التراث العربي في نيسان 1997، كنا في جلسة حوارية معه فسألناه عن عهد عبد الناصر. سرد بعض ما تعرَّض له المعارضون في عهده، وهو منهم، إذ فُصِلَ من عمله ودخل السجن عدة مرات، وما أدراك ما سجن المخابرات المصرية، وأضاف ما معناه: رغم كل ذلك فنحن مع عهد عبد الناصر لأنه كان عهداً وطنياً بامتياز، وعهداً عمل باخلاص لتحرير المواطن المصري من خلال العمل على تأمين المدرسة والمسكن والدواء والعمل والارض لمن يزرعها. أخطأ نعم وأصاب. وبذلك كان محمود أمين العالم كبيراً كعادته عندما استطاع أن يفصل بين الخاص والعام.                                                                           
ورغم كل ذلك ماذا بقِيَ من انجازات عبد الناصر؟                                                   
لم يبقَ الكثير. أو بالاحرى لم يبقَ شيء في كل الانظمة الدكتاتورية المماثلة. أو عملياً نحن بحاجة لعشرات السنوات للعودة الى البدايات، إذا عدنا. ففي العراق اليوم يشرِّعون لزواج بنت العشر سنوات بعد أن كان العراق بلد الكفاءات والعلماء والضمانات ولكن تحت قبضة الدكتاتور.                                                                                                
الشيء نفسه يُقال عن سوريا كما عن معظم الانظمة العربية. القاسم المشترك بين كل هذه الانظمة هو القمع والرأي الواحد وأنا أبني البلد وحدي. وخطيئة هذه الانظمة المدمِّرة هي إلغاء المعارضة الوطنية. النظام القمعي العربي لاحق المثقفين، قمعهم، ثمَّ دجَّن معظمهم ووظّفهم للترويج لعبقريته. ألغى الاحزاب أو تركها دمى كرتونيّة تلهث وراءه. لم يترك "بخشاً" يدخل منه الهواء الا وسدَّه. إلا الجامع. ترك لهم مجالاً من الحرية في داخله. لا بل زايد على المتأسلمين أو وظَّف بعضهم أو قمع العصيين على التدجين. لم يترك في الساحة الا قواه الامنية الباطشة والمتأسلمين. خوَّفنا، وخوَّف الغرب بـِ "إمّا أنا أو المتأسلمين". واليوم كثيرون من المثقفين العرب اتخذوا قرارهم: أنت بالطبع.                                            
هذا لا يعني أني أقف بجانب المتأسلمين ضدّ الدكتاتور، أي دكتاتور. كلاهما رضع من "الببرونة" نفسها. كلاهما لا يعترف بي أو بالآخر. كلاهما لا يسمح لي أو لك أو لها بابداء الرأي بأي شأن عام مخالف لرأيه. الاوطان لا تبنى بالرأي الواحد. المجتمعات التي تقوم على الرأي الواحد يهدمها الرأي الواحد. بناء الاوطان وتحصينها عملية مشتركة بين جميع قواه الفاعلة. وغير ذلك ترقيع وهدنة الى انفجار آخر أكثر عنفاً وتدميراً.                            
استلم حافظ الاسد  سوريا منذ ما يقارب الخمسين سنة. حكمها منفرداً والبقية ديكور للصورة  فقط. حقق منجزات كثيرة لا شك بذلك. ولكن  سوريا اليوم، بقيادة ابنه، شبه مدمّرة، نازحة، نازفة، مهجَّرة،  يتصارع على أرضها كل من هبّ ودب. تقول لي: الغرب واسرائيل والمتأسلمين؟ نعم وأقول أكثر. ولكن لم تقل لي أبداً ما دور هذا النظام في الوصول الى ما وصلت اليه سوريا اليوم؟ وهل يعقل أن النظام الذي لم يحَصِّن الداخل، و الذي حكم البلد منفرداً، طوال نصف قرن، لا يتحمل مسؤولية ما آلت اليه الامور؟ وهل يُعقل أن يكون هذا النظام نفسه هو من سأأتمنه على ادارة المرحلة المقبلة؟                                        
عزيزي المثقَّف: التاريخ يحدد دور المثقف بوضوح وهو حتماً لا يصب في مصلحة الدكتاتور. راجعه لو سمحت. أما إذا كنت تخشى من مصير مشابه لمصير ابن المقفع والحلاج ومهدي عامل وحسين مروّة وفرج فودة ومئات الالوف غيرهم فأنت على حق. على الاقل توقَّف عن ايصال "طلبات الدكتاتور الى المنازل".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق