أبو العلاء المعري ( 363 - 449 للهجرة )
أما أبو العلاء المعري - رهين المحبسين وفيلسوف معرة النعمان - فأنه هو الآخر قد نكب بعد المتنبي بوفاة والدته. فكيف يكون حزن الرجل الأعمى الذي زهد في الدنيا فعافها وما فيها. وكيف تكون وحدته وعلى أية درجة من القتامة اذ يمسي وحيدا بلا زوجة ولا أهل ولا ولد ولا من يرعى شؤونه الحياتية اليومية الرتيبة البسيطة حد تحريم أكل اللحوم :
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيت على أحد
ثم :
تعب كلها الحياة فما أع
جب الا من راغب في ازديادِ
إنَّ حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلادِ
سألت متى اللقاء (10)
هذا هو عنوان مرثية أبي العلاء لأمه حيث قال فيها فأبدع صياغة العاطفة بقوالب الشعر
العربي وتفعيلات الفراهيدي فعالجها في غاية المرونة وطوع عصيها كما الحداد الماهر يعالج
بارد الحديد بمنفاخ النار مع الفارق. فنار الشاعر منصهر روحه العلوية التي تتسامى لهبا ونورا ونارا يخالطها الألم المكتوم الذي لا يكاد يبين... فلا يزيد من ناره الا أوارا فيحيل
" سقط زنده " جحيما ولا جحيم الشاعر الأيطالي ( دانتي ) :
سمعت نعيها صما صمام
وإن قال العواذل لا همام
وأمتني الى الأجداث أم
يعز علي أن سارت امامي
اجل, فلقد عز عليه كثيرا أن تموت قبله, وكأنما كان يريد أن تتخذ الأقدار مسارا آخر مغايرا ,
ولكن هيهات. فلقد سبقه أبو الطيب اذ قال :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السَفَنُ
إن حسرة الشاعر على فقده والدته لفجيعة حقا. ولقد عبر عن هذه الفاجعة بأقصى آيات الصراحة والبراءة والبلاغة اذ تخيل نفسه, وقد رجعت به السنون القهقرى طفلا رضيعا, فما أمس حاجته لأم تغذيه اللبن مع الحنان, والحنان يأتي من الصدر الذي يعطي اللبن. وهل في الدنيا من يقوم مقام الأم بالنسبة لرضيع ؟ فلنسمعه يقول :
مضت وقد اكتهلت فخلت إني
رضيع ما بلغت مدى الفطام
فيا ركب المنون أما رسول
يبلغ روحها أرج السلام
سألت متى اللقاء؟ فقيل حتى
يقوم الهامدون من الرجام
فصرفني فغيرني زمان
سيعقبني بحذف وادغام
ثم يشرق الشاعر ومن ثم يغرب متهربا من موضوع قصيدته الأصل هنا وهناك تهيبا من المصاب الجلل تارة وأشفاقا على نفسه التي ناءت بحمل لا يطاق تارة أخرى, حتى ينهي القصيدة بالأوبة التي لا مناص منها لمناجاة حبيبته الوالدة التي لا ثاني يضاهيها في الحياة. وهل تتكرر والدة ؟
كفاني ريها من كل ري
الى أن كدت أحسب في النعام
سقتك الغاديات فما جهام
أظل على محلك بالجهام
وقطر كالبحار فلست أرضى
بقطر صاب من خلل الغمام
وبعد ألف عام أختار الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري كما سنرى لاحقا ذات البحر وعين الروي والقافية لقصيدته التي رثى بها أمه . فأي تأثير قوي عجيب مارسه ولما يزل هذا العبقري الأعمى على المحدثين من ذوي البصيرة والبصائر من الشعراء ! لقد رد الجواهري له الجميل في قصيدته التي القاها في مهرجان ذكرى ألفية ابي العلاء المعري الذي أقامه المجمع العلمي العربي في دمشق (11) ومطلعها :
قف بالمعرة وامسح خدها التربا
واستوح من طوق الدنيا بما وهبا
واستوح من طبب الدنيا بحكمته
ومن على جرحها من روحه سكبا
حرف الميم مرة أخرى
أعود ثانية لحرف الميم اياه. ففي البيت الثاني من قصيدة المعري ورد حرف الميم مرات
أربع في ثلاث كلمات أدت معاني مختلفة وان كانت ترجع أساسا الى أصل واحد. والمعري بارع في هذا الفن (12) وأشعاره تزخر بهذه النماذج وأضرابها من الجناس والطباق والتورية وباقي المحسنات البديعية. يقول في هذا البيت :
وأمتني الى الأجداث أم
يعزعلي أن سارت أمامي
لقد تكرر حرف الميم هنا أربع مرات. والذي يؤم الصلاة هو الأمام. وأمام الصلاة هوالذي يتقدم صفوف المصلين, أي أنه يقف أمام الجميع. فأي خشوع يعانيه هذا الأبن الأبر اذ يلفظ كلمة " أم" ؟ حتى أنه لكأنه يروم أن يقول أن الموت فرض آخر يحتاج بدوره الى امام يقود الناس اليه وانهم يمارسونه كواحد من الشعائر المقدسة المفروضةعلى بني الأنسان. فالموت , كالصلاة, لا بد له من أمام ينسق ويوجه الناس اليه في سفرهم الأخير .
ان قصيدة " سألت متى اللقاء " واحدة من اصعب قصائد ابي العلاء, لا من حيث تعقيد تراكيب
الجمل فحسب, بل ومن حيث غرابة معانيها وغرابة ما أختار من مفرداتها الأمر الذي قد لا نجده في باقي أشعاره الا فيما ندر ( واقصد أشعار ديوان سقط الزند فقط ) .
ورد في قصيدة رثاء الشاعر لأمه - وهي في أربعة وستين بيتا - ذكرأسماء عشرة حيوانات هي حسب تسلسلها في القصيدة : الحمامة والنسر والأسد والفراشة والحية والناقة( تلميحا وتضمينا) والحرباء والجنادب والضب والنعام. فعلام يدل هذا ان كان له ثمة من دلالة ؟ هنالك تفسيرات لهذا الأمر متداخلة لدرجة يصعب معها أو يستحيل الفصل فيما بينها ما دام الشاعر موضوع البحث شخصا كأبي العلاء المعري :
1- الأسراف في ذكر الحيوان ينم أو حتى يفضح حاجة المرء لأكل اللحوم التي حرمها على
نفسه طوعا.
2- التعويض عما يحسه في قرارة نفسه من نواقص وعلل في الشائع والمعروف من صفات
هذه المخلوقات. فالوداعة في الحمامة هي وداعة الشاعر الضرير الملازم داره. وكتمانها الصوت المغرد دون القدرة على فتح المنقار فيه الكثير مما نجده في طبع وفي ظروف الشاعر من ميل للتكتم والأعتزال ثم استحالة الحركة الحرة بالنسبة لرجل أعمى. لقد أستأثر الحمام بأهتمام خاص من لدن الشاعر خاصة في بعض مراثيه وحيثما يتطلب الأمر بث الشكوى والتعبير عن الأحزان, كما فعل في قصيدة " ضجعة الموت رقدة " التي رثى فيها أبا حمزة ومطلعها أشهر من أن يعرف:
غيرُ مجدٍ في ملّتي وإعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادِ
أبكتْ تلكم الحمامة أم غ
نت على فرع غصنها الميادِ
أبناتِ الهديل أسعدن أو عد
ن قليل العزاء بالإسعادِ
إيهِ لله دركن فأنتن أل
لواتي تحسن حفظ الودادِ
ثم لاحظ قوله في القصيدة موضوعة البحث :
وحماء العلاط يضيق فوها
بما في الصدر من صفة الغرام
تداعى مصعدا في الجيد وجدٌ
فغال الطوق منها بأنفصام
اي ان الوجد المتصاعد كاد أن يشق طوق الحمامة الأسود الذي يطوق رقبتها. فأن هذا الطوق لا يصمد أمام جيشان الوجد المنغم المشدو هديلا. فالوجد عات لكن سبيل التعبير عنه في غاية
الضيق. ورهين المحبسين يعرف كيف يداري شجونه ويدري كيف يصرفها وهوالكاظم الأعظم للنزعات البشرية وكابح دواعيها. ومن يتغلب على دنياه لا يشق عليه قهر نداءاتها وأن ألحت.
هذا المنهج ليس طارئا على الشعر العربي كما نعلم. فلقد سبق أبو فراس الحمداني ابا العلاء
المعري في هذا المضمار اذ خاطب الحمامة وهو في سجنه أرق خطاب :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا لو تشعرين بحالي
ايا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلةً
ولكن دمعي في الحوادث غالي
والمقابلة هنا جد واضحة بين الأسر الروحي والبدني وبين الحرية التي تنعم بها الحمامة .
هذا عن الحمامة اما النسر فله رموزه ومغازيه ولعل أبرزها- فضلا عن حرية الانطلاق-
الشموخ والطيران على ذرى الجبال والقمم العوالي. ثم حدة البصر الذي يفتقده الشاعر المسكين اصلا. وفي الأسد البأس والجبروت واحتقار الرمم والجيفة والميتة ثم أنه مليك الغاب بلا منازع.
ومن ذا الذي أستطاع أن ينافس أبا العلاء في زمانه شعرا وفكرا وفلسفة وألتزاما ؟
أما الضب والنعام فأنها تحاكيه في جلده وفي تمنعها عن الماء وصبر النعام على العطش :
كفاني ريها من كل ري
الى أن كدت أحسب في النعام
أما تعلق المعري بالناقة فلا مثيل له, ولا يلام. فالناقة واسطة نقله من بغداد الى بلاد الشام :
طربن لضوء البارق المتعالي
ببغداد وهنا ما لهن ومالي
وإبله يطربها فرح التوجه نحو مسقط الرأس بعد أن برم ببغداد :
وكم همَّ نضوٌ أن يطير مع الصبا
الى الشام لولا حبسه بعقالِ
ولولا حفاظي قلت للمرء صاحبي
بسيفك قيدها فلست أبالي
ثم أن الناقة مصدر لبن الشاعر وصنوه في مكابدة العطش وأحتمال الأذى والمشاق.
لقد خص الشاعر الحمامة بخمسة أبيات في قصيدة " متى اللقاء " وخص الأسد( وأسماه الورد)
بعشرة أبيات والأفعى بتسعة. وهذا الأمر يبدوفي غاية الغرابة. اذ ما الذي يستهوي المعري في الأفاعي؟ لقد توارد في هذه الأبيات التسعة ذكر ألفاظ عميقة الدلالة, الا أن تحليل مراميها في غاية اليسر. فالدروع( وله قصائد خاصة بها) وسم الأفعى الذي يحيل الجبل كثيبا من الرمال, وجلدها الذي تبدله مرارا كل عام هي في الحق تعبيرات ظاهرية تخفي في طياتها رموزا بعيدة الغور في بحور هذا الرجل المنطوي القاصر المتشائم الكثير الحذر.
لا بد من طرح السؤال الأتي : ما دخل رثاء والدته بهذا الحشد الغريب المنوع من البهائم ؟ وفيها الوديع وفيها الصبور القانع كما أن فيها اللئيم والمفترس.
الحمامة : أحسب أن الحمامة في هذه المرثية هي أم المعري بعينها, وأن الأسد الورد والده. وعلى هذا فلقد أخطأ مفسرو القصيدة - وقد هرب منها طه حسين كما سنرى هروبا مطلقا - في تعليقاتهم على حمامة المعري. فلنسمعه ماذا قال :
أشاعت قيلها وبكت أخاها
فأضحت وهي خنساء الحمام
أما مفسرو القصيدة(4) فقد ذهبوا الى أن هذه الحمامة قد جهرت بصداحها !! وماذا في الأمرهذا من غريب ؟ وهل يستوي هذا التفسير السطحي , وهوليس بتفسير أصلا, مع الغموض والأيهام وفلسفة التورية التي شهر بها المعري(12) ؟؟ الصحيح كما أراه أنا, أن أم الشاعر (وهي موضوع الرثاء) كانت قد فقدت زوجها أو سيدها ( قيلها ) فشيعته الى قبره ( أشاعت قيلها ) . وهذا التفسير متطابق مع حقائق الأمور المعروفة عن تأريخ عائلة المعري. أما الخنساء فخطبها مع أخيها صخر غني عن التعريف :
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمسِ
ألا يا صخر لا أنساك حتى
أفارق مهجتي ويشق رمسي
الأسد : اما الأسد الورد ( أي الأشقر اللون ) فلست اعدوالحقيقة اذ أقرر أنه لا يمكن الا أن يكون والد الشاعر نفسه. قال في وصفه وفيما حوله وجمر عينيه الذي يجتذب الفراش اليه ليلا وهي تتقد شررا وتتوهج نارا. لقد وصف فأبدع في وصفه لدرجة يحسده عليها الكثير من المبصرين سواء أكانوا شعراء أو رسامين :
بدا فدعا الفراش بناظريه
كما تدعوه موقدتا ظلامِ
بناري قادحين قد استظلا
الى صرحين أو قدحي مدام
كأن اللحظ يصدرعن سهيل
وآخر مثله ذاكي الضرام
تطوف بأرضه الأسد العوادي
طواف الجيش بالملك الهمام
وقال لعرسه بيني ثلاثا
فما لك في العرينة من مقام
فهل رأيت أجمل أو أكمل من هذه اللوحة التي رسمها فنان كفيف البصر؟ الصدق والدقة في
محاكاة الطبيعة من شدة لمعان عيني الأسد وحمرة سهيل النجم وتوقان الفراش للضوء ليلا . ثم يؤوب بعاطفته منكفئا بعد كل هذا التطواف المكثف والشديد الرمزية الى عالمه الخاص والمغرق في الخصوصية. ففي لحظة موت الأم من هو الأحرى بالتذكر غير الأب الذي فارق الحياة وقتما كان الشاعر في الرابعة عشرة من عمره. فهذا الملك هو والده بعينه وكل البرية طرا هي هذا الجيش اللجب الباقي على قيد الحياة حيث يلتمس الشاعر فيه بعض العزاء وبعض القوة يستعين بهما في مغالبة ضعفه المركب : اليتم المزدوج والعمى.
اما البيت الآخير فإنه من الوضوح بحيث لا يترك زيادة لمستزيد : " وقال لعرسه بيني ثلاثا "
لقد فارق الوالد زوجه الفراق الأبدي الذي لا من رجعة بعده, عبر عنه بالبينونة الثلاثية الكبرى
في الشرع الأسلامي.
الحية : أما الحية ( الحباب ) , وقد خصها بتسعة أبيات كاملة, فأنها في نظري التعبير الرمزي
اللاشعوري عن الخوف وتوقع الدسائس ومكائد الحساد والخصوم. فالأفعى سامة في شعر أبي
العلاء , والأفعى تغير جلدها بشكل دوري دلالة على قلق الرجل وانعدام الثبات في الحياة, والأفعى رقطاء وكل رقطاء سامة :
على أرجائها نقط المنايا
ملمعة بها تلميع شامِ
لاحظ روعة الجمع بين صفات الحيوان ( الأفعى ) وبعض ما نعرفه عن طبيعة البشر(الشامة)
والدلالات التي يحملها مثل هذا التشبيه والمقابلة. نقط الأفعى ( وهي سامة قاتلة )على جلدها
تقابلها شامة جلود بني البشر. فهل أراد المسكين أن يقول أن لا فرق بين البشر والأفاعي : الكل سام وغادر فتاك ؟ قال المعري هذه القصيدة بعد رجوعه الى المعرة تاركا بغداد حيث أبلغ بخبر وفاة والدته وهو في الطريق. يقرر طه حسين (4) أن المعري لم يسلم في بغداد , وقد أقام فيها سنة وسبعة أشهر, من حسد الحساد ومن كيد الكائدين. ولقد أهانه أثنان من رجالات بغداد يومذاك. أولهما الشريف المرتضى الذي استفزه المعري ببيت المتنبيء الشهير (( وأذا أتتك مذمتي من ناقص ...)) وثانيهما هو النحوي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي. فكيف ينسى هذا العبقري الضرير المسالم والعاجز اساءة من أساء اليه ؟ سيما وأن أدبه الجم وتربيته ووضعه العام كلها لا تمكنه من أن يرد أو أن يقابل الأساءة بمثلها. فكل من أساء وكل من يزمع أن يسيء لهذا الطفل- الرجل الوديع انما يتشكل أفعى بنابين في شعوره الباطن بلغة ( فرويد ) أولا وفي شعره فيما بعد ثانيا. ثم أن الأفعى اللعينة هي التي أغوت أبانا آدم وزينت له طريق المعصية بالأكل من شجرة الخلد المحرمة فأستحق بذلك العقاب ومن ثم الطرد من الجنة :
أبوكم آدمٌ سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنانِ
كما قال المتنبيء في القصيدة التي مدح بها (عضد الدولة البويهي) ويذكر في طريقه اليه
(( شعب بوان )) (3) .
طه حسين ومرثية المعري
رغم اعجاب الدكتور طه حسين بالمعري فكرا وفنا وشخصا, ورغم أنه كتب فيه أكثر من
خمسمائة صفحة من مجلده الثالث ( من تأريخ الأدب العربي ) لكن لا نرى الا ذكرا عابرا
للقصيدتين اللتين رثى بهما المعري أمه. ذكرهما في ثلاثة مواضع حسب, مجرد ذكر عابر
مقتضب حتى أنه لم يكلف نفسه ذكر اسمي القصيدتين. هذا الأمر يدعو حقا للدهشة. كما أنه لم
يكن مقتنعا بأن هاتين القصيدتين من الرثاء, بل وعدهما من الوصف (4) . وعلى الضد من هذا نراه يسهب في شرح القصيدة التي رثى المعري فيها الفقيه الحنفي أبا حمزة والتي مطلعها
غير مجد في ملتي وأعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
حتى أنه قال فيها (4) : (( نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم واسلامهم , ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء )). فهل يا ترى كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعل الرجل يعزف عن تذوق أو شرح أو تقويم القصيدة الرائعة موضوعة البحث؟ أم أن هناك أسبابا أخرى جعلته يتجنب الخوض في نقد شعر صعب متشعب عويص التركيب والعمارة, وفيه ما يحتمل أكثر من وجه ويقبل أكثر من تفسير ؟ فأذا كان هذا حال هذه القصيدة " سألت متى اللقاء " فالرجل معذور, لأن الأمر يتطلب جهدا مضاعفا لا يقصر عنه عميد الأدب طه حسين لولا علة عينيه وأضطراره أن يستعين بالأخرين قراءة وكتابة وأستعادة وأستزادة. وهذه أمور يكرهها وأن قبلها مكرها. اذا وجدنا العذر للرجل , فبأي عذر يقنعنا المبصرون من النقاد والكتاب ومحبي المعري, قديمهم وحديثهم, وهم عن أمثال هذه القصيدة معرضون؟ اذ لم أجد فيما قرأت تقويما أو شرحا حقيقيا لشعر الرثاء هذا وهو الذي يستحق الكثير من ذوي الذوق والأختصاص. ان هذه القصيدة لعالم قائم بذاته وبنيان مرصوص مرصوف عظيم الهيبة كثير الجمال وشديد التنوع ولا يخلو من آيات الغرابة والسحر والأسطورة.
ثمة أمر آخر يسترعي انتباه قراء أدب طه حسين : اعجابه بمرثية المتنبيء لجدته حد وصف
القصيدة بأنها خالدة. علما أنه لم يكن معنيا الا بتقصي الغريب فيها والشاذ مما يمكن أن يستشف منه دليلا على غموض أصل المتنبيء وأسرته وتشأته الأولى في الكوفة, بل وحتى وضاعة نسب الشاعر (4) .
بالحاج والمعري
لقد ذكر الأستاذ محمد مصطفى بالحاج ثلاثة أبيات من مرثية المعري " سألت متى اللقاء "
(12) . ذكرها اقتباسا من سواه من النقاد كأمثلة للتدليل على الإغراب كما في البيت :
وأذنت الجنادب في ضحاها
أذانا غير منتظر الإمامِ
ولا اعرف - حد علمي - أن شاعرا سواه من معاصريه او ممن سبقه من شعراء العربية قد
وظف حيوان " الجندب " في اشعاره . ثم كيف تؤذن الجنادب ؟
أو البيت التالي :
وصرّفني فغيرني زمانٌ
سيعقبني بحذف وادغام
أجل, ذكر الناقد هذين البيتين وبيتا ثالثا آخر كأمثلة على مدى ولع وتمكن المعري من فن الألغاز والتورية والأبهام والأيهام. ولذا فقد كانت اما موضع انكار وأستهجان كما هي حالة البيت الأول او أنها كانت موضع أستحسان ورضى وأعجاب ومديح كما هي حالة البيت الثاني. على إني لا أعتبر تناول مثل هذه الأبيات بالنقد الجمالي الصرف وبالأحتكام الى علم الهيئة والبديع والبيان وقواعد الصرف والنحو وما سواها , لا أعتبره نقدا نوعيا للقصيدة موضوعة البحث, وهي أساسا قصيدة رثاء كما نعرف. ويظل رأيي السابق على ما هو عليه من أن القصيدة هذه قصيدة مظلومة اذ لم يلتفت اليها - الى حد علمي - احد من النقاد وأنها لحرية بكل اهتمام لفرادتها وما أشاعت من أجواء وما بثت من مشاعر تتصل ضعفا وقوة بأدق أحاسيس الأنسان وهويتملى شؤون الحياة والموت ويحيا مأساة موت أعز انسان لديه, اذ ليس للشاعر من أحد بعد موت أبيه سوى أمه. لا تخلو القصيدة بوجه عام من الغموض. ومن قال أن العالم واضح بالنسبة لضرير؟ والمسألة كذلك صحيحة بالنسبة للعالم الآخر. فالدنيا والآخرة عالمان غامضان للمبصروبدرجة أشد للكفيف .ثم هل يستطيع رجل متزن حصيف الأعراب عن مشاعره بشكل صريح سيما اذا أتصل الأمر بعواطف الحزن وتابعه البكاء؟ وهل من المعقول والمقبول أن يبكي رجل بلغ أشده أو انه قد بلغ مبلغ الرجال؟ اذن فالهروب الى الرموز والأستعارات والتورية وما اليها اجدى وأكثر قبولا من أشهار دموع الحزن التي قد يلومه فيها أكثر من لائم. فمن ذا يلوم الشاعر اذا تذكر أباه الراحل وهو يرثي والدته؟ ومن ذا الذي يلومه اذا ما ذكر خاله المتوفى وكان شقيقا لأمه ( وبكت أخاها ) ثم وهو في أشد حالات الضعف والحزن, ما الذي يمنع استرساله مع أحاسيس الشجن والمحن التي لاقاها من الخصوم والحساد وخاصة أولئك الذين أمتحن بهم في بغداد قبيل وفاة أمه مباشرة. يدعى الى مجلس أحد ادباء وأشراف بغداد ومن ثم يستفز أو يطرد أو يهان. وفي هذا المكان من مؤلم الذكريات ومشجيها لا يشخص امام بصيرته من المخلوقات الا الأفعى الرقطاء , فأنها تقتل وهي تتبدل بتغييرها لجلدها . القصيدة كثيفة بمشاعر الحزن والخوف ووميض العتاب وشرارات الحنق والملل والسأم صاغها الشاعر الكفيف فأبدع الصياغة ما سمحت له حالته الجسمانية والنفسانية وقساوة ظرف عماه. والعجيب أن المعري لم يكن يتذكر الا اللون الأحمر من بين سائر الألوان المعروفة.
خلاصة القول : طالما أن القصيدة محددة الغرض - وهي هنا رثاء - فيجب أن ينصب النقد
العام على موضوع القصيدة الخاص. وتقويم بضعة أبيات منها من وجهات نظر اخرى لا تمت
لموضوع القصيدة بصلة, مهما بدا هذا التقويم ضروريا من وجهة نظر علم الجمال, فأنه لا يغني بأية حال عن النقد المنصب على مجمل القصيدة كبناء موحد متكامل. والجزء لا يلغي الكل, بل وحتى لا يعوض عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق