نحن من يرسم معالم صفقة القرن/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

رغم النفى المتكرر لكل التسريبات الإسرائيلية لما بات يعرف بصفقة القرن المبهمة ظاهرياً، إلا أن وقائع الأحداث على الأرض تعطينا مؤشرات عملية واضحة عن الخطوط العريضة  لتلك الصفقة، والتى من الواضح أن التسريبات الإسرائيلية التى تلوح بين الفينة والأخرى ليست إلا بالونات اختبار تمهيدية لما سيؤول له العمل الحثيث الجارى فعلياً لتنفيذ مسلسل تلك الصفقة على الأرض ضمن خطوات مدروسة بدقة؛ والتى كان إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن أهم حلقاته .
والملاحظ أن قضايا الحل النهائى تحسم اليوم عملياً على أرض الواقع، فقضية المستوطنات وحدود الدولة الفلسطينية الأمنية لا السياسية ترسم آخر فصولها جرافات الاستيطان، وذلك بعد أن حدد جُلها الجدار العازل، ومن الواضح أن صفقة ترامب لن تزيل حجر من مستوطنة خلف الجدار، علاوة عن تلك التى  بداخله، وقضية الحدود الشرقية  فى غور نهر الأردن  ليست بتلك العقبة الصعبة، أما قضية القدس فمن الواضح أن إسرائيل قد حسمت أمرها عبر إخراج الأحياء ذات الكثافة السكانية من حيز بلديتها بعد أن أحاطتها بسوار معالى أدوميم من الشرق وطرد سكان منطقة ((E1 الواقعة شمالها استعدادا لعزل المدينة نهائياً عن الضفة الغربية. وما تبقى من قضية القدس والحرم القدسي تحت الإدارة الهاشمية ضمن الإستاتيسكو القائم، وباعتقادى لن تمانع إسرائيل فى أن يشارك الفلسطينيين هذا المقترح فى الإدارة؛ والباب مفتوح لأى دولة أخرى محبة للسلام فى أن تشارك فى الادارة الروحية للمكان تحت السيادة الفعلية السياسية والعسكرية الإسرائيلية على بلدية مدينة القدس الموحدة .
ولعل أهم حلقات مسلسل صفقة القرن والتى تمثلث فى إغلاق مكتب منظمة التحرير فى واشنطن، فهى إجراء عملى أمريكى صريح بأن الدولة الفلسطينية المقترحة لا تمثل إلا سكان الضفة والقطاع؛ بمعنى أن منظمة التحرير الفلسطينية لن يكون لها أى محل من الاعراب فيما هو قادم طبقاً لرؤية الإدارة الأمريكية، وهى خطوة متقدمة جداً لمعالجة قضية اللاجئين الفلسطينيين بعيداً عن  صفقة القرن، وهو ما يعنى إخراج قضية اللاجئين من قضايا مفاوضات الحل النهائى بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ وذلك على الأقل فى المرحلة الراهنة من التسوية، ومن الواضح  أنها ستحل  بعيداً عن إسرائيل ضمن مساهمة إقليمية فى حل الصراع، إضافة إلى ذلك فإن مبررات الخطوة الأمريكية ترسم  خط أحمر عريض على صلاحيات الدولة الفلسطينية المقترحة ضمن سياساتها الخارجية مستقبلاً، والتى ستكون ضمن سقف محدد.
إن أسلوب الإدارة الأمريكية  فى حل الصراع هو أسلوب جديد ومبتكر، فهى تفرض الواقع على الأرض وترى ردة الفعل على كل المستويات، وهو ما يمكنها من تحديد مستوى الضغط أنياً ولاحقاً فى كل قضية على حدا من قضايا الصراع.  والمتابع لأسلوب إدارة ترامب فى تعامله مع القيادة السياسية الفلسطينية فى أيامها الأولى فى البيت الأبيض، وفى قضية  بوابات الحرم والاستيطان الذى اشتعلت عطاءاته مع قدوم إدارته؛ فإنه يدرك حقيقة أن الادارة الأمريكية بزعامة ترامب ترسم الخطوط العريضة لصفقة القرن بالأفعال على الأرض؛ وطبقا لردود الأفعال على أحداث مفتعلة فى كل قضية من قضايا الحل  النهائى للصراع، وهو ما يعنى أننا سنرى مع الوقت المزيد من تلك الأحداث الاستراتيجية المفتعلة؛ والتى سيحدد ردة فعل  المستوى السياسى والشارع  الفلسطينى عليها مدى إمكانية تقبل الطرف الفلسطينى لتنازل أو تمرير الغايات الاستراتيجية لتلك الأحداث لاحقاً.
وهو ما يعنى أن على الكل الفلسطينى وخاصة القيادة الفلسطينية إدراك أن مفاوضات التسوية الحقيقية والعملية تدور الآن على الأرض، وأن ما سيعرض فى نهاية المطاف على الورق سيكون خلاصة ما يفرض على الأرض، وأننا بردود أفعالنا على ما يجرى نحدد معالم صفقة ترامب، وأن ترامب كان صادقاً عندما قال أنه لن يجبر أى طرف على أى شئ؛ فالرجل ينتظر ردود الأفعال الفلسطينية مقابل ما تفرضه سياسة الأمر الواقع التى تتبعها إسرائيل تجاه قضايا الحل النهائى .
لكن أخطر ما يجرى اليوم فى حل الصراع هو التصور الجديد لطبيعة الدولة الفلسطينية وإسرائيل؛ والتى استحوذت بالقوة  المسلحة على أراضى الغير طبقاً لمفاهيم عقائدية توراتية مزعومة ضاربة بعرض الحائط  كل قرارات الأمم المتحدة مقابل دولة فلسطينية من الواضح أنها ستكون كيان بحدود أمنية لا سياسية يطلق عليها مسمى دولة، وما يجرى لن تكون عواقبه وخيمةً على الفلسطينيين فحسب بل سيتعداهم ليصل لكل دول العالم الذى سيسمح لهذه المهزلة أن تمر دون ضجيج، فهو بصمته سيخلق سابقة سيحتذى بها لحل صراعات إثنية وقومية ومذهبية مستعرة فى الاقليم والعالم، وسيفتح الباب واسعا أمام  لهيب التطرف الدينى فى العالم ومنطقة  الشرق الأوسط  تحديداً التى لعب فيها الدين دوراً أساسياً فى حركة تاريخها  .
المؤكد أن حل الصراع الفلسطينى الاسرائيلى بهذه الصورة التوراتية لن يمنح إسرائيل الأمن لمدة طويلة، والقارئ لتاريخ الشرق الأوسط  يكتشف كم كان مأساويا نهاية تجارب مماثلة للتجربة الصهيونية على هذه الأرض .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق