قلّما تنسى أمّي ضغط زرّ إنهاء المحادثة عندما نتحدّث على الهاتف معاً، لكنّها عندما تفعل تكون قد أهدتني دون أنْ تدري رحلة قصيرة إلى عالم أفتقده، وزيارة سرّية إلى بيت الأهل والصور والذكريات. أتلصّص بلهفة بريئة إلى كلامها مع أبي. أدخل عالمهما فأرى أبي جالساً في مكانه المعتاد وهو يشرب الشاي في كأس زجاجيّ صغير لا يكاد يخلو منه بيت دمشقي، وأمامه على طاولة خشبيّة صغيرة منفضة سجائر. يطلب من أمّي الجلوس بجانبه، يسألها عن أخباري فتردّ عليه بسرد موجز لما تحدّثنا عنه، وتطمئنه عن صحة بناتي واحدة واحدة، وعن حال زوجي وحالي، ويبدأ بعد ذلك جزئي المفضّل، وهما يناقشان خطة اليوم ابتداءً مما سيتناولونه على الغداء، وانتهاء بجمع الغسيل الجاف على الحبال في شرفتنا الصغيرة. وكلّما غاب صوت أمّي عاد أبي و ناداها لتجلس إلى جانبه مرّة اخرى، فتجيب عن أسئلته الكثيرة، وعاد توقي وفضولي.
أشمّ رائحة طَبْخَة اليوم بعد أنْ عدّدت له أمّي خياراتها واستقر رأيهما على واحد منها، ثم أسمع صوت رشفة شاي وأبي يقول باعتزاز: "مثل شايات أبو أنس مافي." لطعم شاي أبي مَرار محبّب لطيف، وهو دليل على أنّ الشاي قد تخمّر جيّداً.
تراني أرهف السمع إذا انخفض الصوت لعلّي أسمع خطى أمّي عائدة من غرفة ما، أو أسمع ما لا يقولانه لي عادة كيلا أخاف، أو ما يخفيانه عني كيلا أحزن.
لا أدري لماذا أصدّق هاتيك الدقائق القليلة أكثر من ساعات الحديث الطويلة التي أقضيها مع أمّي، فإجابات أمّي المتجمّلة المطمْئِنة في كلّ مرّة أكلّمها، تبعث في نفسي الشكّ أحياناً. لربّما تخفي شيئاً، لربّما تكذب كجميع الأمهات، على بناتهن الغائبات، فيردّدن دائماً الإجابة ذاتها: "الحمد لله، نحن بألف نعمة، لا ينقصنا شيء سوى رؤيتكم!"
يخيّم الصمت لبرهة فأنتظر قليلاً. وعندما أيأس من سماع أيّ جديد، أضغط ذلك الزر الأحمر على هاتفي معلنة بابتسامة انتهاء زيارتي.
برلين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق