قرأت الديوان ( 95 صفحة وخمس عشرة قصيدة ) فسحرتني هذه الشاعرة التي أتعرف عليها لأول مرة. نعم، سحرتني بشخصيتها الحقيقية ثم الشعرية. سحرني خطابها وأسكرتني لغتها العربية علماً إنها سليلة حبيبنا الشعب الكردي. إستطاعت الشاعرة ( خلات ) أن توحي لي أنَّ شخصيتها الحقيقية هي غير شخصيتها الشعرية. أي الشخصيتين أقوى ؟ متساويتان في القوة. تتباريان في ماراثون فني وتأريخي يُذكّرني بهيبة وأُبّهة ماراثون الإغريق القديمة. نجحت الشاعرة في مخاطبة الآخر دون أن تنفصل كليةً عنها وعن ذاتها. عالمان متوازيان يتحدى أحدهما الآخر في مباراة ودية لا رابح فيها ولا خاسر. حيرني عالم هذه الشاعرة وأنا أساساً شديد الحذر في تعاملي مع الشواعر، بل وكثير الخوف. لا لأني أخشى محاذير عبور خطوط التابو الحُمْر حسبُ، ولكن لمحدودية قدرتي على فهم عالمهن. الخوض في هذا العالم ـ كما قلت لها في رسالة قصيرة بالبريد الألكتروني ـ مغامرة غير محسوبة العواقب. ولستُ في وضع يسمح لي بالقيام بمغامرات. أقرأ قصائد الديوان، ومع كل خطوة أخطوها يزداد تهيّبي لعوالمه الساحرة فأزداد تعثراً فأُصاب بنوع من الشلل وأكف عن مواصلة القراءة.
شكراً للصبر وشكراً للصدف. حين أعدتُ قراءة آخر قصائد الديوان تفتحت السبل أمامي وجاءني [ وحيٌ ] لا أعرف مصدره سوى تذكّري لقصيدة نزار قباني ( القصيدة الشريرة ). أعانني هذا الخاطر لأنْ أضعَ أمامي قصيدة نزار بإزاء القصيدة التي تحمل عنوان الديوان (( أوشحة الفجر / الترياق )).
مطرٌ مطرٌ وصديقتها
معها ولتشرينَ نواحُ
والبابُ تئنُّ مفاصلهُ
ويعرّبِدُ فيه المفتاحُ
الذئبةُ تُرضِعُ ذئبتها
ويدٌ تجتاحُ وتجتاحُ
وحوارُ نهودٍ أربعةٍ
تتهامسُ والهمسُ مُباحُ
كطيورٍ بيضٍ في روضٍ
تتناقرُ والريشُ سلاحُ
أشذوذٌ أُختاهُ إذا ما
لثمَ التفاحَ التفاحُ ؟؟
( القصيدة الشريرة / ديوان قصائد ).
نزار أيها القباني توارَ أو إنتفض !! النساء أمامك والشواعر من خلفك فأين المفر ؟؟ كانت أزمة أو محنة طارق بن زياد وقد أفلح في عبور المضيق أخف من محنتك. إنتهى زمنك وزمن شعرك فتعلّمْ في عالمك الآخر فنون الشعر الجديد ولا سيّما شعر الشواعر الصبيات والشابات اللواتي أجبرهن القهر والعسف السياسي على مغادرة الأهل والأوطان منفياتٍ لاجئاتٍ مشرّداتٍ في شتى عواصم العالم.
الترياق
أخطأتُ في قراءتي الأولى لهذه القصيدة حين حسبتُ أنَّ الشاعرة تحاول الأخذ أو تقليد بعض ما جاء في ( نشيد الإنشاد ) لسليمان ظاناً، وإنَّ بعض الظنِ إثمٌ، إنها تخاطب رجلاً ( ذَكَراً ) وأن أخطاء مطبعية قد وقعت من قبيل ( إليكِ ) بدل ( إليكَ ). خابت ظنوني وخذلني حدسي حين أعدتُ قراءة القصيدة. أَفقتُ كما يفيق الغائب عن وعيه بالصدمة أو الرجة الكهربائية. خضّتني القصيدة خضاً لا يتحمله وَهَنُ عظامي. إكتشفتُ أن قصيدة " الترياق " عالم، عالمٌ لا تسعه كل ما أعرف من عوالم. عالم جريء غير مألوف. أقرأ الجملة والسطر فأتوارى خجلاً وضعفاً وإنكساراً وأنا أمام إمرأة تتحداني وتتحدى تراثي وتستهين برجولتي، رجولة شرقيٍّ عريق. تتحدى رجلاً ما زال يتهيب رؤية أفلام البورنو Porno على شاشة التلفزيون. ليتها توقفت عند تحديها، ليتها !! أقرأ القصيدة وباقي قصائد الديوان فأنكمش محاصَراً بثِقَل ذّنْبٍ لم أُقارفه أبداً. ذنب يشاركني فيه كل الرجال، إقترفوه أو لم يقترفوه، سواء : لِمَ تعشق المرأةُ المرأةَ والدنيا ملأى بالرجال ؟! العسف والكبت الشرقي وفصل الجنسين نعرفه في الشرق، فما باله يلاحقنا في العالم المتحضِر ؟ إذن لا علاقة لآيروس العشق المِثلي بين النساء والرجال بالإتجاهين… بالثَقَلين… الشرق والغرب. إنها الطبيعة لا حدود لها ولا إتجاهات.
أعرف شواعرَ أُخريات جريئات كشفن وأفصحن لكنَّ ( خلات أحمد ) قررت أن تنهج نهجاً آخرَ مُغايراً. قررت النزول إلى الساحة وتحدّي كلا الجنسين رجالاً ونساءً، شعراءَ وشواعرَ بأسلحة جديدة غير تلك التي إستخدمتها الشاعرات السوابق مثل ( جُمانة حدّاد ) على سبيل المثال. وجدتُ، وكنتُ أتوقع أن أجدَ، أن عدداً من الشواعر الأصغر سناً من ( جمانة حداد ) إتخذن منها قدوةً ومثالاً وصرن يكتبن شعراً قريباً من أشعارها ولكنْ بعيداً عن جرأتها أو جراءَتها. أقرأ أشعارهن فأشعر بحاجز أو حجاب الشرق منتصباً أمام ناظري شاهقاً مخيفاً كجدار الصين. لا أجد هذا الجدار وهذا الحجاب في شعر ( جمانة حداد ) وليس له وجود في ديوان ( خلات أحمد ).
تعالوا نقرأ قصيدة " الترياق" ونتفحص مستوياتها ومدارجها ومسالكها وآفاق تحديها للمألوف في عالم الشعر والشعراء.
نقرأ بعض ما جاء في المقطع الأول من هذه القصيدة :
شَبِقةٌ إلى دمي
تسبلينَ يديكِ لمرورِ الغرباء
يطبعون أختامهم على
نهديكِ، حيثُ أضعُ شفتيَّ في
شوقي الأزلي لإرتخائكِ لي
هادرةً تحتَ صدري بعمامات
…
تعالي أسقيك الخمرَ من فمي ولننسَ
خيامنا المنصوبةَ في العراء
إغمسي وجهكِ في صدري المُستَعِر لكِ
…
سأُحكِمُ ساقيَّ على خاصرتكِ، وأنتِ
تختضين لاهثةً تحت أسمالي.
لا نحتاج إلى قواميس ومعاجم لفهم لغة هذا النص. ثورة على المألوف والمعروف الشرقي من خلال إشارات قليلة رامزة للشرق الذي تركته وراءها من قبيل ذكرها ل ( عمامات ) والخيام المنصوبة في العراء… أي الدين والبداوة. أعترف أني أشعر بالخجل وأنا أقرأ هذه النصوص فأجد نفسي أردد بعض أبيات نزار
(( أشذوذٌ أٌختاهُ إذا ما // لثمَ التفاحَ التفاحُ )). لم يذهب الراحل نزار بعيداً وهو يخوض هذا العالم من الحب المِثلي بين بنات حوّاء. فاقته الشاعرة خلات أحمد حين إخترقت كافة الحواجز ولكن بأسلوب فني رائع يُلهب الخيال ويبعث في القاريء دفقاتٍ من الإعجاب والتقدير، بل وحتى إستثارة بعض المجسات السرية القابعة في أعماق الرجال. نجحت الشاعرة إذن على كافة المستويات والصُعُد. نجحت في اللغة التي إستخدمت، ونجحت في إخراج ما في داخلها إلى العَلَن، ونجحت في أسلوب هذا الإخراج وفي إختيار وسائله وأدواته. نجحت في تحريك القاريء وحثه إلى التمعن بما فيه وما لديه وعونه في الرجوع إلى أعماق ذاته القصية وأحواله المتغيرة. لقد أرجعتني الشاعرة إلى صباي. جددت عمري وربما ستطيله بعد أن فقدنا الأدوات والوسائل ولم نفقد الأمل !!
نقرأ بعض ما جاء في القسم الثاني :
إرشقيهم بالزيت يا إمرأة فاتنة، وتعالي
دفّئي
يديكِ المزرّقتين تحت إبطي
دسّي أنفكَ المزكومَ بالخردل في صدري
تنشّقي لهفتي إلى التمرّغِ فيكِ
تعالي نفردْ جناحينا لسقوطٍ طويلٍ
إسترّخي
دعيني أمسح عن ساقيكِ
أُزيحُ أوحالَ هجراتكِ الوعرة
وبقايا رائحةِ الثلج
تتبعُ دفءَ دمائكِ، سقطت في عشقها
الجارف
أتجرّعُ أصابعكِ واحدةً واحدةً
أتلقى عينكِ الحلوة طلقةً في عُنُقي
إرشفيني، وإزهري يا جميلتي في الربيع
لم تنسَ الشاعرةُ وهي مخدّرة كالماشي في الحلم، لم تنسَ كارثة حلبجة وباقي مناطق كردستان العراق إذ قصفها مجرم العصور والدهور صدام حسين بغاز الخردل وباقي الأسلحة المحظورة دولياً. [[ دسّي أنفكِ المزكومَ بالخردل ]]. لا الحب اللاهب المتقد ولا الهيام قادران أن يلهيا الشاعرة عن محنة الشعب الكردي، والكُرْد شعب واحد سواءً كان في العراق أو بلدها سوريا أو تركيا أو إيران. تذكّرت الشاعرة محنةَ جيل من شعبها وهي في الأوج من التطواف والهيمان في عالم ساحر خلقته فأبدعت الخلقة. الحب بقاء والموت فناء. وتبقى روعة البقاء مشوبةً أبداً بطعم ومذاق الموت.
وماذا في المقطع الثالث ؟
…
طويلاً سأدورُ بكِ قبلَ أن أُصدِّقَ
طهارةَ فخذيكِ من بُدعة العُهر، وإستلقائكِ
على أبواب السلاطين.
أيتها المسبيةُ من قلبي، الموزَّعةُ
على راياتٍ لا تخفق
ليس على نهديكِ إلاّ صكوكُ سبيكِ
خيولُ تأديب تمرُّ من تحت
ساقيكِ، تتقاسمُ قطركِ وتتركني
في عَطَشي
أنا المنتظرةُ تدللكِ اللجوج.
القصيدة ليست قصيدة حب مِثلي حسبُ، إنها صرخة عالية داوية تلطم وجوه رجال الشرق الباحثين عن طهارة ما بين فخذي المرأة وليس غير ذلك.كأنها لم تُخلقْ إنساناً سوياً برأس ونفْسٍ وروح وفيها ما فيهم من كبرياء وبناء إنساني شامخ ولها ما لهم من حقوق في ممارسة حياتها بالأسلوب الذي تريد وتهوى. يُقَطِّعون الأنثى كما يُقطِّعُ القصّابُ ( الجزّار ) ذبيحته ويلصق على كل قطعة منها سعراً خاصاً. سعرٌ للفخذ وسعرٌ للكتف وآخرُ للصدر والأضلاع ورابعُ لشحم الإلية. المرأة إنسان والإنسان كائن غير قابلٍ للتجزئة والتقطيع. كما نجد في هذا المقطع المزيد من الإشارات والأسماء والمُسميّات الدالة على سيماء الشرق الذي عانت المرأة منه قرونَ عصور الجواري والسراري والحريم والمحظيات والمسبيات والمخصيين وربما المخصيات تجنباً للحمل … عانت ولمّا تزلْ تعاني. عصور الخلفاء وأُمراء الموُ ( مِنين ) ثم السلا( طين ) ثم عهد حكم حزب البعث الذي أحرق الأخضرَ واليابس وأحال العراق إلى خرابٍ ونيران ودمار.
تعود الشاعرة بنا في المقطع الثامن القهقرى لعهد أبينا آدم وأمنا حواء… عفواً..
أقصد لعهد أُمِّنا حواء وأبينا آدم…فتشير إلى قطف وقضم تفاحة الخطيئة التي أنزلت أبوينا من عليائهما في جنات الخُلد إلى الأرض التي قبلناها أُمّاً تُطعمنا مما ينبتُ فوق أديمها وما نرعى، وتوفِّر لنا رقعةً صغيرةً تحت أديمها مناماً أبدياً. يا لها من أُمٍ رؤوم. تُطعِم وتؤوي (( ومن خفّت موازينُهُ فأُمّه هاوية )). تفاحة خلات تفاحة مشاكسة ليست كتلك. تلك أنزلتنا إلى الحضيض لكنَّ تفاحةَ الشاعرة تُدخِلُ آكلها إلى صميم الجنة. تأخذه إلى أعلى. تسبح ضد التيار وتعاكس إحداثيات الفضاء. لا تعرف أو لا تعترف بقانون الجذب الأرضي لإسحق نيوتن. يعرجُ قاضمها إلى مجرّات الملكوت الأعلى حتى يصل الجنان. يا لها من تفاحة !! أين أجدها يا عزيزتي الشاعرة،أين ؟؟ لنستمع :
لائقةٌ بكِ هذا الصباح
منتشيةٌ بصباحي الخالي
أرشفُ قهوتي
أتلمسُ بهدوءٍ سريانكِ الجميل في دمي
أَيقظَ هَمسُكِ الرَجِفُ ملامحي
لما دردشات الأمس عالقة بأصابعي
يفيض الصباحُ بنا بهجةً
نوسِعُ المساءَ، قُبَل
فلا أجدُ من تدللكِ بُدّاً
أسدليهِ على كتفي جَذِلةً
صوغي من جسدي المتمنِّعِ رغبةً
تنحو إليكِ
إغويني بتفاحةٍ
تدخلني الجنّة.
نقرأُ في المقطع الثاني عشر بوحاً آخر جميلاً صريحاً مُفعَماً بالرغبة الصادقة الجريئة التي قلّما نقرأ مثيلاً لها في أشعار الشواعر :
…
أميرتي
مُضرَّجةٌ بالولهِ، أَصوغكِ نأمةً نأمة
وأُقبِّلُ رفرفةَ نهديكِ الفاختين على وجهي
هاتِ، أتلَمَّسُكِ في تمنُّعكِ المجنون
وأتصوّفُ لنقصانكِ مني.
[[ وأتصوّف لنقصانكِ منّي ]]. أفلا يوحي هذا الكلام بما قد قال شاعر المتصوفة الحلاّج [[ نحنُ روحانِ أحلاّ بَدنا ]] ؟ لا يتم الحلول إلاّ بالتصوّف. لذا ستُضطَرُ الشاعرةُ خلات أحمد إلى أن تنهجَ نهج الصوفيين لكيما تلتحم ثانيةً بشقها الآخر إذا ما غادر نصفه. فكرٌ والله وفلسفةٌ ومقدرة وثقافة وشجاعة قلَّ نظيرها بين النساء. لعلها فاتحة خير يأتي بعدها ما يماثلها أو يتفوّق عليها. لكنَّ الزمان لا يجود بالرائع الجديد الخلاّق إلاّ بعد ولادة عَسِرة تأتي على فترات متباعدة. يحضرني هنا قول المرحوم فريد الأطرش عن صوت شقيقته أسمهان [[ إنه صوتٌ لا يجود به الزمانُ إلاّ مرةً كلَّ ألف عام ]]. بهذا القول أغضب فريد وأهاجَ أم كلثوم فوقعتْ بينهما القطيعة المعروفة.
في المقطع الثالث عشر كشفٌ أكثر جرأةً وأكثر قُرباً من بعض فقرات ( نشيد الإنشاد لسليمان ) :
أعصرُ لكِ كلَّ أصفر البابونّج
لينضحَ جلدي بكِ
أَدخلُ شفتيكِ بفمي
لشفتيكِ الرقيقتين نُولِمُ للنحلِ
يتوثّبُ كلُّ ما فينا
أسقيكِ برياحين أصابعي
لأتجشّمَ أُنوثتكِ
لأرغبكِ حتّى الحُمّى
ممتَشِقةً نبضي اللاهث
تُغريني نضارَتُكِ
أتذوَّقُ منتشيةً بأقراص الزبيب
مزهوّةً بكِ في شغفِ التماس
أدخلُ طراوتكِ
كما يدخلُ الحبيبُ الحبيبَ تياهاً
تبثينني فيوضَ إشراقكِ
في إنسلالِ الغلالات.
[[ كما يدخلُ الحبيبُ الحبيبَ ]]. أليس في هذا رجوع لشعر الحلاّج [[ نحنُ روحان أحلاّ بَدَنا ]] وما سبق وأنْ قالت آنفاً [[ وأتصوّف لنقصانك مني ]] ؟؟
هل قرأت الشاعرةُ أشعار الحلاّج وباقي شعراء المتصوفة ؟ أحسب ذلك. وماذا عن ( نشيد الإنشاد ) ؟ لا أحسبُ ذلك. سأقتطع منه بعض الجمل والفقرات مع الفارق الكبير : هنا لا تخاطب الفتاةُ فتاةً إنما تخاطب رجلاً هو سليمان بعينه. نقرأ في الإصحاح الثاني من سِفْرِ نشيد الإنشاد :
[[ كالتفاحِ بين أشجارِ الوَعر كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظلّه إشتهيتُ أنْ أجلسَ وثمَرَتهُ حُلوةٌ لحلقي. أَدخَلَني إلى بيتِ الخمرِ وَعَلمُهُ فوقي محبّةٌ. أَسنِدوني بأقراص الزبيبِ أنعشوني بالتفّاح فإني مريضةٌ حُبّاً. شِمالهُ تحت رأسي ويمينهُ تُعانقني…]].
لا أجد شَبَهاً بين نصوص نشيد الإنشاد ونصوص الشاعرة المتميزة والمتفجرة أصالةً من أعماق أعماقها. أقرأ هذه النصوص فإخالني أرى الشاعرة وأُصغي لما تقول بل وأكاد ألمس يدها وهي تكتب نصوصها وأرى الإنفعالات محفورةً على قَسَماتِ وجهها تتباين حسب مقتضيات الحالة الشعرية ودقّة المجسات اللاقطة والمترجمة للمشاعر والصراع الرهيب مع جبروت اللغة.
المقطع السادس عشر ـ
أتلمّسُ في المقطع السادس عشر شيئاً من آثار القرآن الكريم في شعر خلات أحمد. أو ذاك وهمٌ أتخيله لأنني أتمناه وأبتغيه ولا عجب : يختلط فينا حين نكتب ما هو واقعي ملموس محسوس بالخيالي غير المحسوس. الكتابة سياحة وبعضها أحلام. هل أتمنى أن تعتبر الشاعرة القرآن واحداً من مصادر شعرها الكثيرة ؟ نعم. أتمنى ذلك. في القرآن شعر وصور ومجاز ولغة. ما كتبت السيدة خلات أحمد في المقطع السادس عشر ؟
مستمتِعةٌ بتوددي اللحوحِ إلى عليائكِ العصيّ
يا أمرأةٌ من نورٍ
تتخلليني أنّى شئتِ
وتتركينني في إلتفاتة جيدكِ
ليورقَ الحزنُ داخلي خفيفاً
رقيقاً كالبنفسج
حتى إنبلاجِ الفجيعة من تملّصكِ المعاند
لتدمى قروحي حتى التقيّح.
أية أخيلة يثير في دواخل نفسي مثل هذا الكلام الجديد كل الجدّة ؟ يخلقني من جديد. يجبلني من طينة أخرى تختلف عن طينة باقي البشر من بني جنسي. يجعلني أنتفض وأرفض " الحمأ المسنون ". أشعر إني أكثر رفعةً وأكثر إرتفاعاً مما أنا.
[[ واقفاً تحت أَخمصيْ قَدرِ نفسي ـ واقفاً تحت أخمصيَّ الأنامُ // المتنبي ]]. أستنكف أن أحمل خلقتي معي. وهذه ميزة أخرى من مزايا الشعر الرائع وليد الإبداع : الإرتفاع بالطبيعة البشرية إلى آفاق غير مألوفة. التحليق والإسراء نحو سماوات جديدة غير مألوفة وغير مأهولة. [[ تتخللينني أنّى شئتِ ]]… أفلمْ نقرأ في قرآننا [[ نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكمْ أنّى شئتم ]] ؟ ثم [[ هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ ]] ؟ بأية قدرة خارقة تستطيع شاعرتنا إعادة خلق التراث، وأية لغة سليمة تستجيب لقلمها وتُصغي لنأمات روحها العميقة وتصوّر ذبذبات الموج الطامي الذي يتشكل فيها خلال زمن كتابة القصيدة ؟؟ [[ تتخللينني أنّى شئتِ ]]. الحلول الصوفي. معجزة الإتحاد بالتصوف. الكشف والخَرْق. أتمنى أن يكون هذا الكلام موجهاً لي، وأكون أنا من تخاطب السيدة الشاعرة.
المقطع الحادي والعشرون
نرى في المقطع الحادي والعشرين تحوّلاً في الموقف. تستقبلُ الشاعرةُ ( عشاقها )
الذين لا وجودَ لهم. تهيّء لهم بيتها بما يليق بضيوف أعزّة. تستقبلهم ولكن بدهاء يوحي لنا أنَّ ربةَّ هذا البيت غير مسرورة بزورة هؤلاء العشاق [[ أستقبل عشاقي بكل قدرتي على المداورة وإضرام الشموع على نوافذي المغلقة ]]. تعتذر منهم بدهاء الدبلوماسيين. تضع فوق رؤوسهم ضوءاً كاشفاً لتفضحهم وتكشف هوياتهم والقصد من زيارتهم المشبوهة. تضيء المكان كيما تبدد شكوك الرقباء والمتطفلين ومن في قلوبهم مرض. [[ أشعلوا النارَ حولنا فغدونا لها دُخان // الأخطل الصغير ]]. بعد كل هذه الجهود المضنية والصراع مع المجتمع الفضولي والدفاع عن النفس والحرية تنقلنا الشاعرة إلى هدفها الذي أخفته حتى اللحظة عنّا. وضعته وجهاً لوجه أمامنا بشجاعة أسود بابلَ وآشور وميديا وقوة مطرقة
( كاوة الحدّاد ) ونيرانه المتّقدة. هدفها الأعز، حبيبتها التي عدلت بها عدداً من الرجال العشاق. حبيبة واحدة أنثى تتفوق على العديد من الذكور:
لن أكونَ أكثرَ مما أنتِ
لن أكونَ أقلَّ مما أنتِ
سأبدّلُ أغطيةَ سريري
وأستقبلُ عشّاقي
بكل قدرتي على المداورة
وأضرم الشموعَ على نوافذي المغلقة
سأنتظرُ أنْ تطرقي بابي
وتدعينني إلى مطارحتك الغرام.
كشفت الشاعرة سبب تفضيلها لبنات جنسها على الرجال : المساواة المطلقة التي لا وجود لها في علاقة المرأة بالرجل الشرقي. [[ لن أكون أكثر مما أنتِ ـ لن أكون أقل مما أنتِ ]]. نصفان متساويان متطابقان يكمل أحدهما الآخر. في إختيار الشاعرة لهذا الطريق فلسفة أخلاقية مدنية يراها البعضُ شذوذاً. تتحرر المرأة فيه من أصفاد الذل والتبعية للجنس الآخر. ثورة هادئة من أجل حريتها وإنعتاقها الوجودي المطلق. الشاعرة إمامُ بناتِ جنسها، والمبشِّر. تريهنَّ طريقاً آخر للتحرر ولا تفرضه عليهن. تضرب من نفسها مثلاً كذاك العالم الذي جرّبَ ما حضّر من عقار طبي على نفسه فقتلها. [[ نحنُ روحانِ أحلاّ بدنا ]].
هل قرأنا تغزّلاً وهياماً بصفاء وتفرّد ما جاء في المقطع الثاني والعشرين ؟
…
سأسعى بكِ إلى كامل الأزهار
لا زالَ فيَّ من ريق العذوبةِ ما يكفي
لأكونَ هادئةً على صدركِ
ضعي مهاميزكِ جانباً
فإنَّ بي من العشق ما يكفي
لأتَّبعَ تموجات شعركِ بلا إنتظام.
تكلمت كعادتها ونهجها في ديوانها بلغة المجاز العالية. نفهمها بإحساساتنا ومجسّات أرواحنا المدفونة عميقاً فينا. [[ ضعي مهاميزك جانباً ]]. قالت هذا الكلام بدلَ أن تقول [[ ضعي ملابسك جانباً ]]. تحتمل الجملة عدة تفسيرات. وقد أحسنت الشاعرة إذ إستعملت لفظة [[ مهاميز ]]، وهي أدوات مدببة من الحديد عادة يستخدمها الفارس لحث فرسه على المسير. في هذه اللفظة معنى الشراسة، شراسة العشق المِثلي. وفيها إشارة للتذكير بالإناث عموماً. وفيها إشارة واضحة لحركة إحتكاكية، إحتكاك شيء بشيء. حك بطن الفَرَس بالمهماز. فيها أكثر من حركةٍ ومغزى. حركة وصورة، أو صورة متحركة. [[ البابُ تئنُّ مفاصلُه ويعرّبدُ فيه المفتاحُ / نزار قباني ]].
أختتم دراستي لديوان خلات أحمد بعرض أسطرٍ من المقطع الخامس والعشرين :
لم أتعلّمْ الإهتزاز الأنيق لرأسكِ في الرفض المحاذِر
ولا غمزةَ عينكِ في الرفض المشاكس
لا إختزنتُ تعابيرَ وجهكِ في الغضبِ المفاجيء
لا جانبتِ أظافري الطويلة تخطُّ ظهركِ
ولا حاذرتِ حافةَ السرير حيثُ أهرقكِ برغبةٍ جارفة
ولا أرى من عينيكِ سوى نصف إغماضةٍ
عميقاً نتلمسُ مكامنكِ
وجواربكِ السوداءُ الرقيقة في مكانٍ ما من الغرفة
تراقبنا
نجتازُ التفّاحَ
وثمرةَ تينٍ ناضجةٍ.
تفاحة سقوط أبوينا وورقة التين لستر العوَرة.
فذلكة في سؤال : هل كانت الشاعرة خلات أحمد تناجي وتحاور نفسها في هذه القصيدة لا إمرأةً أخرى ؟ أقول متهيباً قولي نعم، جائز. ففي القصيدة مستوى ثانٍ للقراءة والتفسير. حب النفس النرجسي. عشق نرسيس لصورته التي رآها على سطح الماء. ممارسة الذات بالعادات السرية بدل الحب المِثلي. الإنكفاء إلى الداخل وإستهلاك الذات بالذات. بأظافرها تحكّ الأنثى ( جلدها ). إحتمال وارد حتى وإنْ لم تقصده أو تفطن الشاعرة له. قالها الشاعر الفرزدق قبلاً لأحد ناقديه (( نحن الشعراء نقول الشعر وعليكم التفسير )).
نبذة من تأريخ حياة الشاعرة خلات أحمد /
ـ وُلِدت الشاعرة عام 1972 في بلدة ( ديرك ) في كردستان سوريا. تقع ديرك في أقصى الشمال الشرقي من سوريا في المثلث الحدودي بين تركيا والعراق ويفصلها نهر دجلة عن الحدود.
ـ أتمّت الشاعرة مراحلَ تعليمها الإبتدائي والإعدادي والثانوي في بلدة ديرك.
بدأت كتابة الشعر منذ السن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة.
ـ غادرت عام 1990 بلدتها ديرك إلى دمشق وبقيت فيها حتى عام 1998.
ـ غادرت في هذا العام الوطن الذي حرمها وأطفالها الكرد من حقهم الطبيعي في الجنسية لتستقرَ في أوربا باحثةً لها ولأطفالها عن وطن وهوية.
ـ شاركت كشاعرة في أنتولوجيا الشعر الكوردي النسائي في العدد المزدوج من الفصلية الثقافية ( حجلنامة ) التي كانت تصدر في السويد.
ـ سبق وأن قامت بدور المترجمة لنفس المجلة الفصلية هذه في عددها المخصص للتأريخ الكوردي.
ـ نشرت إنتاجها في العديد من المجلات والجرائد الورقية في سوريا والعراق وفلسطين والأردن وفي عدد من المواقع الأدبية المتخصصة على شبكة الإنترنت.
ـ شرعت حديثاً بالكتابة باللغة الكوردية.
ـ ما زالت مستمرة بنشاطها في الترجمة من وإلى اللغتين العربية والكوردية.
ـ طُبع ديوانها ( أوشحة الفجر / الترياق ) في مدينة دهوك الكوردية العراقية في تشرين الثاني عام 2004 بدعمٍ من إتحاد أدباء دهوك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق