اعتداء على مدينة الله/ الدكتور فيليب سالم

عالم مضرج بالنزاعات. شرق أوسطٍ مضرج بالعنف والحروب. جبهةٌ واحدة كانت على هدوء حذر، فجاء من يُشعل النار فيها. رئيس أميركي جديد يجهل التاريخ والجغرافيا، ويعشق نفسه ودور البطل في المسرحيات؛ يعلنُ أمام العالم اعتراف ادارته بمدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل ويطلب نقل السفارة الاميركية من تل أبيب حيث هي الآن الى القدس. موقف مناقض لجميع مواقف اسلافه في البيت الابيض . موقف مناقض لمواقف الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي وروسيا. السؤال، هل هذا اعتداء على القدس أم اعتداء على عملية السلام؟ هل هذا تهويد لمدينة القدس أم تهويد للولايات المتحدة؟ مما لا شك فيه انه اعتداء صارخ على حقوق الفلسطينيين في أرضهم. وبالنسبة الى بلاده، هذا اعتداء على القيَم التي قامت عليها أميركا؛ اعتداء على هيبة أميركا واحترامها في العالم.  

وتكلم الرئيس الاميركي وكأنه رئيس عربي، إذ أفرغ الكلام من محتواه. قال: هذا لتعزيز السلام. وأي سلام يتكلم عنه هذا الرجل؟ وهل هناك سلام بعد هذا الكلام؟ لم يكن في الحسبان ان هذا الهذيان سيقود إلى شيء ايجابي. الا ان ايجابيات كثيرة ولدت. لقد عادت القضية الفلسطينية الى الوعي العربي، وهدأت نسبيا حدة الحرب المستعرة بين السنة والشيعة. ومن قال إن الفلسطينيين سيتوحدون يوماً؟ ومن يصدق ان العرب يجتمعون ويتفقون؟ ومن منا كان يحلم بأن المسلمين في العالم سيكونون صوتا واحدا؟ لقد توحدوا في الغضب؛ ولكن هل هم قادرون على ان يتوحدوا في العمل؟ العمل على التصدي لهذا القرار. لننتظر ونر.

يقولون إن القدس مدينة يتنازع على هويتها المسلمون واليهود. فماذا عن المسيحيين؟ هنا في هذه المدينة مشى المسيح طريق الجلجلة. هنا وعلى هضبة في هذه المدينة، "علق على خشبة من علق الارض على المياه". دقوا المسامير في جسده ثم قتلوه. مات ودفن. دفن في المكان الذي تقوم عليه كنيسة القيامة اليوم. إلّا انه "قام في اليوم الثالث". وعند قيامته، سمع صوت قوي آت من السماء. "افرحي وتهللي يا اورشليم الجديدة لأن مجد الله قد أشرق عليك". وفي هذه المدينة بالذات وبعد أيام معدودة من قيامته "صعد الى السماء وجلس عن يمين الآب". القدس هي مدينة القيامة ولذا فهي عاصمة المسيحية في العالم. انها مدينة الله.

نتكلم عن المسيحية للتطرق الى موضوع في غاية الاهمية هو التحالف القائم اليوم بين اليهود والمسيحيين المتطرفين في أميركا. هذا التحالف يشكل أهم القوى التي اوصلت دونالد ترامب الى البيت الابيض. انه القوة التي تدعمه اليوم كرئيس، والتي ضغطت عليه لأخذ هذا الموقف الاستفزازي من قضية القدس. ويسألونك عن القوة التي يتمتع بها اللوبي اليهودي "ايباك" في أميركا، وكيف تمكن هذا اللوبي من الحصول على هذا النفوذ وهذه القدرة للتحكم بمفاصل السياسة الاميركية؟ الجواب هو إن الصهيونية العالمية قد نجحت باغتصاب العقل في الغرب قبل ان تغتصب الارض في الشرق. وهي اليوم تريد ان تغتصب الحقيقة التي تميز المسيحية عن اليهودية. ان الصهيونية تسوّق اليوم فكرة جديدة في الغرب هي ان المسيحية امتداد لليهودية وان الحضارة المسيحية ما هي الا نتاج الحضارة اليهودية. كما تسوّق فكرة أخرى وهي انه من الضرورة ان تتحالف المسيحية واليهودية ضد الاديان الاخرى للحفاظ على الحضارة الأميركية وحماية هذه الحضارة من الانهيار. الرد على الصهيونية يكون في الجرأة على قول الحقيقة. فالمسيحية ليست امتداد لليهودية وقد تكون نقيضها. اليهودية تؤمن بالثأر: "عين بعين، وسن بسن". أما المسيحية تقول: "أحبوا اعداءكم". والتجربة الاميركية لم تنجح لولا القيم التي اعتنقتها. من هذه القيم ان قيمة الانسان تقاس بعقله وبعطائه وليس بانتمائه الديني. تاريخ طويل من اغتصاب الحقيقة وتزويرها. تاريخ طويل من اغتصاب اسم الله. ألم يقولوا لنا ان الله قد أختارهم هم دون غيرهم، شعباً له. ونحن الى أي شعب ننتمي؟ وأي إله هو الهنا؟ ألم يقولوا لنا ان الله، وقبل "وفاته"، كتب وصيته وجاء فيها ان ارض فلسطين هي أرضهم. من كل شعوب الله أوصى الله بأرض لهم وحدهم. تجديف على الله. تجديف على العالم.

وجاء قرار ترامب والشرق في غليان. لم نكن في حاجة الى ازمة سياسية جديدة. ولكن تعالوا لنجعل هذه المأساة فرصة جديدة. فرصة يتوحد فيها الفلسطينيون والعرب وراء عملية السلام. ان اكبر خطأ يرتكبه الفلسطينيون هو الخروج من عملية السلام. يجب ان يكون الرد العربي والفلسطيني هو الاصرار على تحقيق السلام. لقد أضاع العرب فرصاً كثيرة من قبل. أضاعوها بالغضب والعنف والرفض. الغضب نفهمه، أما العنف فلا. لقد الحق العنف بالقضية الفلسطينية ضرراً كبيراً. وحتى "لا نفلح في البحر" علينا ان نتخطى الغضب، نتخطى العنف، ونتخطى الرفض. نتخطى كل ذلك الى الديبلوماسية الذكية. الديبلوماسية التي تمتد من عواصم العالم العربي الى جامعة الدول العربية الى الامم المتحدة. ويجب ان نعي ان الولايات المتحدة لا يمكنها القيام بدور الوسيط في عملية السلام هذه لانها قد خسرت صدقيتها بالنسبة الى الفلسطينيين والعرب. هذا ليس البارحة بل من زمان طويل. منذ نشوء فكرة السلام الى يومنا هذا، كان الاسرائيلي يصر على ان يكون الوسيط أميركياً لانه يعرف ان الاميركي هو رهينة للوبي اليهودي في اميركا. ان الوسيط يجب ان يكون المجتمع الدولي المتمثل في الأمم المتحدة ومجلس الامن. ونقترح ان يكون هو نفسه الذي رعى الاتفاق النووي الايراني. الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن، زائد المانيا.

خوفنا على الحرب على الارهاب. لقد خسر "داعش" الحرب، الا ان الحرب على الارهاب لم تصل بعد الى خواتيمها. وكيف ، بعد اليوم سيحارب الرئيس ترامب الارهاب بعد ما خسر الاسلام المعتدل ؟ وماذا سيكون مصير الحلف الاسلامي ضد الارهاب الذي رعاه بنفسه. وكيف يمكنه محاربة الارهاب وهو داعم كبير للظلم؟

وخوفنا على لبنان. كنا نحلم بسلام عادل يعود فيه الفلسطينيون الذين يعيشون في لبنان الى دولة فلسطين. يعودون الى وطنهم، الى كرامتهم. فإذا لم تقم دولة للفلسطينيين في أرضهم الى أين يعود هؤلاء الفلسطينيون؟ لاجئون فلسطينيون ونازحون سوريون. نحن نصر على ان يكون لبنان وطناً للبنانيين لا وطنا للاجئين.

نحن لسنا هنا للدفاع عن الفلسطينيين وحدهم، بل للدفاع بشراسة عن جميع المظلومين والمستضعفين في الارض. نحن هنا للدفاع عن الحق ضد الظلم، عن العدالة ضد القوة. للدفاع عن حقوق الانسان. كل انسان.

في معركته الانتخابية وبعدما اصبح رئيساً للولايات المتحدة يردد ترامب دائما انه يريد ان يأخذ أميركا الى العظمة. يومها قلنا إن الوصول الى العظمة يحتاج الى رجال عظام. بعد سنة واحدة تقريباً من عهده، ها قد أصبح واضحاً ان الرجل ليس من طينة الرجال العظام . انه لم يتمكن من أخذ أميركا الى العظمة، لقد أخذها الى الانحطاط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق