لم يقتل الرئيس الأمريكى دونلد ترامب مسيرة التسوية؛ برصاصة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ والتى أطلقها بالأمس، بل الحقيقة أن الرجل أطلق الرصاصة فى الهواء؛ فى احتفالية تأبينية على قبر فارغ، لما يعرف بمسيرة السلام والتسوية؛ والتى كانت لأكثر من ربع قرن كائناً وهمى المعالم وبلا روح، أشبه ما يكون بطائر العنقاء؛ والتى رأت إسرائيل فيه ضالتها المثلى؛ للخروج من أزمتها الأمنية والديمغرافية والسياسية؛ والتى أوقعتها فيها الانتفاضة الاولى، والتى للمفارقة تحل ذكراها الثلاثون اليوم، والتى وضعت إسرائيل فى حينه وجه لوجه أمام حقائق التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا؛ التى تجاهلتها لأربع عقود من عمرها .
إنها الصدمة التى أربكت كل إسرائيل من أعلى مراكز اتخاذ القرار إلى رجل الشارع، فلأول مرة وجدت إسرائيل نفسها أمام جماهير شعب أنكرت وجوده، حتى أن جولدا مائير قالت فى أحد تصريحاتها الساخرة أين هم الفلسطينيون ؟ ومن هم الفلسطينيون؟ أنا فلسطينية .
وخرج الفلسطينيون بمئات الآلاف إلى الشوارع بأعلامهم، وكوفيتهم؛ وبأحلامهم الوطنية؛ وبغضبهم، ليسطروا فى كتب العلوم السياسية مصطلح جديد وحصري من صناعتهم؛ اسمه الانتفاضة؛ إنها عبقرية النضال الشعبى حين تريد الشعوب الحياة، فيكون رهن إشارتها القدر، وكانت قوة انتفاضة الحجارة بيد الطفل الفلسطينى الذى حمل الحجر؛ وكان تأثير الطفل الفلسطينى أقوى من تأثير الجنرالات على إسرائيل، وكانت حجارته أقوى من الصواريخ، وهم حقاً جنرالات فلسطين الحقيقيين الذين هزوا إسرائيل استرتيجياً واقتصادياً وسياسياً .
وعلى مدار خمس سنوات عجزت إسرائيل عن وقف الانتفاضة، التى أعادت القضية الفلسطينية إلى خارطة السياسة الدولية، وشكلت ضربة قوية لمشاريع جلب المهاجرين الروس لإسرائيل بحكم الاضطراب الأمنى، علاوة على الشلل الذى أحدثته فى خطط الاستيطان فى الضفة والقطاع؛ فلم يكن أمام إسرائيل من طريق للاستمرار فى مشاريعها الاستيطانية؛ ومشاريع تهجير ما يسموا يهود الاتحاد السوفيتى، واستمرار الحياة الطبيعية فيها إلا بالمضي قدما نحو حل سياسى لتلك الانتفاضة، فانخرطت إسرائيل فى مفاوضات مؤتمر مدريد وعندها زل لسان اسحاق شامير رئيس وزراء إسرائيل فى حينه؛ وقال سأفاوض الفلسطينيين 20 عام، وهو ما حدث، وبدأت مسيرة السلام الفعلية عبر قناة سرية أنتجت اتفاق أوسلو؛ الذى كان فى حينه ترجمة مقبولة لميزان القوة على الأرض إسرائيليا، واعترفت إسرائيل وباليقين بأن هناك شعباً اسمه الفلسطينيين، وذلك لأنها رأته خلال خمس سنوات يقارعها على الأرض؛ وفشلت فى قمعه وكسره.
وهناك حقيقة تاريخية مفادها أن الشعوب حين تثور لا أحد بمقدوره مجابهتها، وأفضل ما يمكن فعله هو تهدأتها، وهو ما فعلته اسرائيل؛ حيث استطاعت ضرب كل العصافير بحجر واحد، فبموجب اتفاق أوسلو؛ الذى أعطى الاتفاق للشعب الفلسطينى كل مظاهر الاستقلال، من خلال إظهار كل السمات الشكلية المحسوسة للدولة، من سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية وعلم وجواز سفر ومطار؛ حتى السفارات فى الخارج غضت إسرائيل الطرف عنها؛ رغم تعارضها مع الاتفاقات الموقعة؛ ومفهوم الحكم الذاتى، وانسحبت اسرائيل من المناطق والمدن ذات الكثافة العالية، والتى كانت المسرح الرئيسى للمواجهات خلال الانتفاضة الأولى، وبدأت مسيرة التسوية؛ أو مسيرة طائر العنقاء؛ الذى أضحى يجوب الأفق عبر لقاءات التفاوض ومؤتمراته؛ من مدريد إلى أوسلو وواشنطن؛ إلى القاهرة إلى شرم الشيخ وصولاً إلى كامب ديفد، إلى أن اكتشف الراحل ياسر عرفات حقيقة أن الإسرائيليين لا يعرفوا إلإ المماطلة لكسب الوقت؛ ولإطالة عمر المفاوضات فقط؛ وهم لا يرغبوا بمنح الفلسطينيين حقوقهم، حينها قلب عرفات الطاولة، وقبل أن يستدير اغتالته اسرائيل؛ ولم يُعطى عرفات الفرصة للاستدارة؛ لأن استدارته كانت ستعنى عودة المعادلة لنقطة الصفر، أي شعب ثائر أمام جيش مسلح؛ إضافة إلى ذلك أن التوقيت فى حينه كان حرجاً؛ فاسرائيل لم تكن قد أكملت مشروعها الاستيطانى فى الضفة، ولم تكن قد طوقت القدس بالمستوطنات؛ وغيرت ديمغرافيتها؛ أو بمعنى آخر لم تكن قد أرست قواعد الحل الدائم كواقع مفروض على الأرض، وكانت عودة المعادلة لنقطة الصفر فى حينه ستشكل نكسة كبرى لكل تلك المخططات، وكانت إسرائيل بحاجة للوقت، وكان لازال لدى طائر العنقاء عمل يقوم به؛ وقد وفرت له عشرية الانقسام الأسود الوقت الكافى لانجازه .
وتمكنت إسرائيل من إلتهام 73% من فلسطين؛ وأخرجت مليون فلسطينى من دائرة الحل السياسى؛ وسحبت سيادتنا على الأرض والسكان؛ والتهمت أراضى الضفة عبر زرعها بالمستوطنين، وتقسيمها لمناطقها(ا،ب،ج) ونهبت مواردنا، وحاصرتنا، واليوم تلتهم القدس على يد الرئيس الأمريكى دونلد ترامب؛ والذى وقع على وثيقة الاعتراف بأن القدس عاصمة لإسرائيل بموجب الأمر الواقع الذى فرض على الأرض؛ خلال ربع قرن من مسيرة التسوية؛ وعشر أعوام من الانقسام؛ والتى أنجزت خلالها على الأرض الحل الواقعى والعملى للصراع.
وأمام هذا المشهد السياسى .. علينا أن نعترف نحن الفلسطينيون أننا خدعنا أنفسنا، وأبتعنا الوهم؛ وخون بعضنا بعض؛ وقتل بعضنا بعض، وها نحن نستفيق على الحقيقية المرة الذى أدركها الزعيم الراحل ياسر عرفات، والمطلوب الآن أن نكمل الاستدارة التى لم يتسنى للراحل عرفات إكمالها؛ وأن نعيد المعادلة لنقطة الصفر؛ جماهير شعب ثائر أعزل أمام قوة احتلال مدججة بالسلاح، وأن يُفسح المجال مجددا للشعب؛ ليعيد إنتاج جيل جديد من جنرالات الحجارة، فالشعب هو الوحيد القادر على إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، وإعادة التوازن فى معادلة القوة والحق . وكذلك إعادة صياغة مسيرة التسوية طبقاً لقرارات الشرعية الدولية؛ والتى من البديهى أن تكون برعاية دولية لا أمريكية حصرية، ويجب أن نستفيد من الخطأ التاريخى الذى اقترفه اللوبى الإنجيلى الصهيونى؛ عندما نجح فى انتزاع قرار الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل كقرار أمريكى لصالحه؛ وعلينا أن نفرض نحن الفلسطينيين رؤيتنا لشكل مفاوضات تسوية ناجحة؛ ونحتذى فيها بالتجارب الناجحة فى هذا الصدد؛ كتجربة مفاوضات الملف النووى الإيرانى التى اعتمدت على منظومة(5+1)؛ حيث كان لها الفضل فى إنهاء الخلاف على الملف النووى الإيرانى بطريقة عادلة ومتوازنة؛ حفظت لكل الأطراف حقوقها؛ وألزمتها بواجباتها، وليس استمرار الصراع الفلسطينى الاسرائيلى بأقل أهمية أو أقل خطر على السلم والأمن الدوليين من الملف النووى الإيرانى، إنها مهمتنا الحقيقية نحن الفلسطينيين والعرب؛ ومهمة كل الشعوب المحبة للسلام إذا ما أرادت أن تكون هناك تسوية حقيقية وفعلية لأعدل قضايا الانسانية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق