قمر على ضفاف النيل للأديبة ايمان الدرع.. بانوراما صادقة عن سوريا قبل و بعد التدمير/ معتز محسن عزت

ما أجمل الكلمات الصادقة التي وجدتها تنبض لحمًا و دمًا من خلال أحداث تلك الرواية المذهلة لكاتبتها صاحبة القلم الرشيق والمثقف في التجوال نحو أحوال الوطن السوري قبل و بعد التدمير، حتى في ظل إستمرار الحرب الضروس التي أكلت الأخضر واليابس بين الجيش السورى العربى وبين الجماعات التكفيرية وأيضا بين مسلحى قوات المعارضة بمشتقاتها المتباينة حسب الهدف و النشأة من أجل إرضاء رغبات النفس التواقة للسلطة باسم السعي للحرية والتغيير للأفضل !!
تجسدت تلك المعاني بشفافية كبيرة ورائعة حول الوطن السوري عبر تتبع الأحداث لمعرفة الإرهاصات التي سبقت بركان الحرب الهادر كمقدمات طبيعية حسب طبيعة الأشياء عن ما جرى في ظل تيارات ما يسمى بالربيع العربي الهادرة المتلاحقة لأكل الأخضر واليابس باسم التغيير والحرية لكلا الفريقين ، السلطة والجماعات الأرهابية والمعارضة منذ بدئها في تونس ، مصر ، ليبيا ، اليمن ، العراق وسوريا.
نجحت الأديبة براويها العليم الرشيق المثقف الفصيح في تتبع أحوال الشأن السوري عبر شخصية قمر ، البدر المنير شكلاً و شخصيةً كعنوان نادر لما تبقى من نفحات الزمن الجميل للمرأة العربية الأصيلة ، الحنونة ، الحساسة ، المرهفة المشاعر تضحي بكل شيء من أجل إستقرار الأسرة و قوام البيت السعيد مهما كانت الظروف و الأحوال.
قمر تلك البريئة الجميلة الشاعرة ، الكاتبة والأديبة صاحبة القلم النابض بكل ما هو جميل ، وكأنها حارس أمين يسجل كل ما يحدث في كلماتها الرشيقة في حالة توازي ما بين الكاتبة وبطلتها الجميلة في التجوال نحو أرجاء سوريا المتألمة من تناحر الأبناء نحو المجهول المميت ، متنقلةً بين حلب و دمشق تلك البقعتين الجميلتين ودرتا العالم القديم مع تناغم الأحداث بمقابلة قمر لشمس الدين المصري الأسواني و كأنها تمزج في صورة عملية أدبية بين حضارتين عريقتين هما حضارة مصر القديمة و الحضارة الفينيقية التي تنتمي سوريا لها ، كخطوة ثقافية رشيقة من الراوي العليم في تذكير أبناء العرب بأنهم أصحاب العراقة قبل الغرب الذي قبع لقرون مديدة في غيابات النسيان والمجهول.
ما بين الترحال و التجوال و حضور قمر تلك الزوجة الأصيلة التي حرمت نفسها من كل شيء من أجل بيتها وأولادها تضحي بما تجمله من ملكات تبشر بمولد أديبة قديرة لتكتشف خيانة زوجها مع هيام أعز صديقاتها وكأن الرواية تجسد سوريا في شخص قمر حيث الوطن السوري الصامد لكل المحاولات الضروس لإفتراسها ما بين زوج خائن يعود لها عبر القهر والطاعة وهو بقايا مهشمة عبر الحرب القذرة الحالية ، وابن خالة لا يسعى إلا لنزواته محبًا للتملك ، ومحامي يتلاعب بالكلام والقانون مخبئًا من خلف عقليته القانونية ذئبًا مفترسًا.
كل هذه الأحداث لا تُظهر الرجل فقط في صورة وحشية ، ولكن أيضًا بعض النماذج النسائية ما بين أم لطفي الجارة اللعوب و التي أعترض في وصف الطبيبة التى تعمل عندها بالضحية ، لأنها بذلك تبرر لها فعلتها علما بأن قمر لامتها لأن كان بأمكانها الخلاص من زوجها قبل أن تقدم على التمادى فيما بينها وبين من تحب ، ومن هنا تسير الأمور في تيار اليسارية المتطرفة التي لا تقل خطورة عن التطرف اليميني الشرس والذي تجسد في عرض الأحداث الجسام التي مرت بسوريا عبر سنوات المتغيرات الكبيرة و التي أراها متشابهة بأحداث مصر حيث توغل التيار الديني في المجتمع عبر المهادنة ثم المواجهة بالسلاح من أجل الوصول للسلطة.
عرضت قمر وجهة نظرها في سوء تصرف الإخوان بالقتل والتخريب تزامنًا مع ما حدث في مصر في التسعينات وتعاطف البعض معهم تحت مسمى مواجهة الظلم بالظلم عدل ، كما ورد على ألسنة عائلة شريك زوجها وهذا ما كان يقال في مصر على غرار تعذيب الإخوان فيها كما في سوريا.
قوبلت أراء قمر بإمتعاض وسخرية كما هو حال المثقف الذي يفكر للمدى البعيد لا كما يفكر الأناس العاديين في إرضاء الغرائز والإحتياجات الفسيولوجية كما كان يفعل زوجها ، إلى أن أبتلعت النيران شريك زوجها وإبنه مع تنامي صيحات زوجته على هذا المصاب الأليم وكأنها تصرخ ندمًا على رأيها المؤيد لتلك النيران الملتهمة لإستقرار وطنها كبروفة مبدئية للحرب الضروس التي وقعت الآن في سنوات سبع وربما تصل لأكثر حسبما تحدد الأقدار رغم الأنتصارات التى سجلها الجيش العربى السورى على الجماعات الأرهابية بمختلف انتماءاتها والذى على وشك تحرير الأرض كلها ودحر آخر ارهابى من سوريا .
تزامنت أحداث الرواية مع إرهاصات و نيران الحرب و كأن قمر ترفض الإنصياع للأمر المرير بواقعه المؤسف متكئة على كفاءتها في العمل وحب الناس لها مع تصوير أهم العادات والتقاليد الشامية الأصيلة ما بين حلب ودمشق اللتان كانتا تئننان من نزيف القصف الهادر.
أرى أن تلك الرواية جاءت في الوقت المناسب لأن بدون التدوين تتوه الحقائق بين أقلام زائفة لا تدون إلا ما يتماشى مع أهوائها تزامنًا مع المؤامرات الغربية في محو ماضي الأمة العريق وسوريا من بين تلك الدرر الملطخة بالدماء تماشيًا مع ما قاله ديفيد بن جوريون في كتابه ( الصراع العربي الإسرائيلي) الذي كتبه في 1955 و الذي قال فيه طبقًا لنصيحة وزير خارجيته موشيه شاريت :
إن عظمة إسرائيل ليست كامنة في ترسانتها النووية ولا أسلحتها الذرية بل في القضاء على ثلاث دول عربية هامة في المنطقة العراق ، سوريا و مصر !!
من هنا أفرزت لنا الرواية عبر التفاصيل الروائية الدقيقة تلابيب المؤامرات المحاكة من أبطال الرواية حيث أكد شاريت أن في إيقاع أبناء الشعب الواحد هو طوق النجاة لإسرائيل مستقبلاً بألا تُدخل نفسها في حروب مباشرة مع العرب بل أجعلهم يحاربون بعضهم البعض حسب النعرات السياسية والدينية كي تحقق إسرائيل مرادها بتكوين وطن من النيل للفرات، وهذا ما وضح في الرواية من خلال العلاقات الشائكة بين الجيران والأصدقاء والأشقاء مع تداخلات الدخلاء في زوجة أبو قمر كتصريح دقيق لمن يسعى لإلتهام الوطن من أجل رغباته الحارقة في الهيمنة والسيطرة.
نجحت الرواية في تضفير الأمور بصياغة أدبية علمية دقيقة مع الإستناد على حقائق تاريخية كأداة توثيقية للأحداث الاجتماعية الواردة بالأحداث حتى يتسنى للأجيال القادمة من نقاد ومبدعين ومؤرخين في أن يعودوا يومًا ما لتلك الرواية ليعرفوا كيف كانت سوريا في الماضي مثلما يفعل الروس مع ديستوفسكي والفرنسيون مع أندريه جيد والمصريون مع نجيب محفوظ.
إن الأدب من الأدوات المساعدة للتأريخ وقد يساهم الأدب في إنقاذ التاريخ من التزييف والتأويل حسب الهوى مع إكمال الناقص في تدوين الحقائق ، لأن في أمتنا العربية للأسف الشديد ، التاريخ يكتب حسب أهواء الحكام لنجد عبارة (ماذا تريد من التاريخ؟) تردد نفسها بنفسها حسب مستجداتنا الحالية.
في الرواية وردت تعبيرات رشيقة تشرح بطريقة مرسومة وكأنها أجزاء من لوحة مجسدة بالكلمات حال أبطال الرواية والتي تهييء القاريء لمعرفة أسباب الصراع السياسي القائم الآن حسب أحوال أبناء الوطن المتناحر ما بين يمين متطرف وتابعي للسلطة وقوات المعارضة التي تختبي ما بين زي أمريكي و زي ديني سياسي وكأن الذئب يرتدي رداء الخراف كي لا يتوجس منه الجميع.
كان لصوت جارة القمر السلوان الشجي والمهديء للحظات العصيبة في أحداث الرواية تجسيدًا لدور فيروز في حياة أهل الشام أجمع في مشاطرة الحياة كالخبز اليومي كما هو في مصر مع كوكب الشرق أم كلثوم ، حيث يكون الصوت الملائكي لفيروز القاسم المشترك في مشاطرة المواطن لتفاصيل يومه بكل التباينات المتوقعة.
بدأت الرواية بصوت فيروز وانتهت بصوت فيروز وكأنها الماركة المسجلة في توضيح أحوال المواطن حيث يملأ صوتها القمري مشاركةً قمر في تموجات أحداثها الأمل والألم ، النصر و المحن ، السعادة و الشقاء ، بدأت الرواية بغناء قيروز العاطفي في حديقة عامة بحلب وانتهت في بيت الطاعة لقمر وهي تعاني تسلط زوجها رغم ما أصابه من ويلات الحرب الحالية لكن هكذا يكون الأسد الجريح حتى لا يجعل من مصابه عقبة في شعوره بالتملك تحديًا للألم والمصير الحتمي.
كانت الندبات التي أصابت يدها البضة الجميلة من ضربه لها بالرواية التي أهداها لها الأديب شمس الدين الذي أتى بطمي النيل الأصيل تعبر رواياته وثقافته في أرض البحار العميقة ومركز التجارة العالمي في العالم القديم حلب ، والذي كان شخصية ثانوية محركة بفاعلية للأحداث لخدمة الشخصيات الرئيسة في تفعيل الرواية بالمثير والمفيد.
كلما تألمت قمر من حياتها أثناء الزواج و بعد الطلاق نظرت لتلك الندبات كأداة ملموسة وتوثيقية لسجل تاريخها الإنساني كلما قرأت رواية للغير وهي تتذكر موهبتها التي دفنت بعد الزواج مع تذكرها لتلك الضربة التي أصابتها لوقوعها في الحب مع ابن مصر وهي ابنة سوريا مما جعل الزوج يشك في سلوكها لقراءته للإهداء ، تذكرت التضحيات التي راحت سدى عبر الندبات التي ظلت ملاصقة لها ثم مقابلتها لشمس بعد مرور السنين لتوالد علاقة روحية قوامها الحب وعمادها السليقة الأدبية لتكون مناجاة الأحبة عبر الورقة والقلم حتى وهي تقاوم الزوج بتذكرها لتلك اللحظات سائرة على مقولة أبو الشعراء العربي المتنبي:
فداوها بالتي كانت هي الداء.
مع تنامي الأحداث المتصاعدة في أشلاء الوطن الممزق فعليًا جراء تمزقه نفسيًا كمقدمات منطقية لأسباب ويلات الحرب من خلال الأحداث الجسام حيث النجوم المحاطة حول قمر ما بين نجوم لامعة و نجوم حارقة تحاول أن تجعل قمر حسب الهوى ما بين التشدد و التحرر المبالغ فيه أي بين شقي الرحا كما هو حال الوطن السوري الآن و لكن أختتمت الكاتبة الرواية بنبرة أمل عند تحرر بعض القطع الممزقة من الوطن السوري الحبيب وهي ترفض الإنصياع لطاعة الزوج الغادر مرددة كلمات شمس الدين الذي أعادها للحياة من جديد وهي تكتب روايتها الأولى وكأنها تبدء من جديد كما نرى الآن الوطن السوري في ظل المقاومة الجميلة للقوى المتناحرة يسعى للبدء من جديد حتى ولو من بين أنياب الذئاب.
أدعو القراء الأعزاء في التمعن في قراءة الرواية وهذا ما جعلني ألا أسهب في الإفاضة والتفصيل حتى لا أفسد عليهم متعة التشويق والتأمل لأن الأدب إذا جلعناه تفصيليًا و مباشرًا أفسدنا على القاريء متعة إعمال العقل والإستنتاج والتأمل وهذا ما دفعني لأن أقتصر في كلماتي كي أجعل القاريء بنفسه يهنيء الكاتبة الأديبة الفاضلة على تحفتها الروائية (قمر على ضفاف النيل) والتي خُتمت بتلك اللحظة التأملية لقمر التي ناجت شمسها الحبيب في أن يتقابلا على النيل الحبيب لكل من يرتوي منه كنبرة أمل و خير لمن ينشد الحياة ، فلك تلك التحفة أيها القاريء العزيز ولك كل التحية يا مبدعة تلك الدرة الكامنة في مكتبتنا العربية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق