الشاعرة اللبنانية هيام التوم وقصيدة الومضة/ نزار حنا الديراني

بدأت الانظار في الاونة الاخيرة تتجه نحو القصيدة القصيرة التي أجتاحت الكثير من الاستخدامات الورقية والمواقع والالكترونية وبالاخص صفحات الفيس بوك، من خلال التكثيف والتركيز. ، وهي تُبنى في الغالب على عدد محدد من الكلمات والسطور مختزلة ومختصرة، لكنها مفتوحة على عالمٍ مترامٍ من التأويل والتحليل والشرح.  فقد غدت القصيدة تعبيراً عن لحظة انفعالية محددة يقوم الشاعر باصطيادها قبل ان تضيع من يده فأضحت هذه القصيدة شديدة الشبه بومضة فكرية أو فلسفية يقوم الشاعر بصياغتها في الشكل الشعري بعد قص الزوائد منها ، ولكن على شرط الأبقاء على كونها قصيدة مكتملة المعنى وذات فكرة متوهجة مستفيدة من تقنيات الفنون الاخرى كالفن التشكيلي والمونتاج و... لتكون قادرة على استيعاب طاقة من الدلالات والعواطف القابلة للاتساع والعطاء .
ولعل من أهم الأسباب في الانتقال إلى القصيدة الومضية ، هو انتقال الشعر من المباشرة والخطابية إلى الإيحاء، أو الانتقال من الشعر الذي يُلقى أمام متلقين في مهرجانات شعرية لغاية التوعية، والتنوير، إلى الدعوة إلى قصيدة تقرأ في جو خاص .
فبعد تجربتها في قصائد المجموعة الاولى الصادرة عام 2004 عن دار الفرات للنشر وحيث أشتغلت الشاعرة هيام التوم في ديوانها الشعري ( نزوات ذاكرة الذي جمع بين دفتيه 30 قصيدة بين قصائد قصيرة ومتوسطة ) في إخضاع اللغة الى مراياها الشعرية من خلال الاحتفاظ باسلوب مرتبط بلغتها الشعرية المصبوغة بطابعها الشخصي التي تتظافر مفرداتها وصورها فيما بينها مكونة مشاهدها الشعرية المتلاصقة بروح العاطفة ومخاطبة الآخر دافعا بذاتها الشاعرة المعبرة عن أناها لتصور مشاعرها التي تمتاز بالتدفق العاطفي والخلجات وكل الانفعالات كاشفا عن أصالتها الشخصية العرضة لتغيرات ظروف اجتماعية مردها حضور أشخاص آخرين ، أو استحضار خيال المتكلم لهم . فمن قصيدتها الاولى ( هلوسة ) نجد ان فكرة قصيدة الومضة لم تكن غائبة عنها فالمقطع الاول من القصيدة المتوسطة الطول والتي تقول فيها :
أأبدأ معك أم بالغروب لا أدري
بأي مطرح من مطارح الشمس ابدأ ...
إذا كان الأجهاض هو إفراغ الرحم مما يحتويه
فماذا يسمى إفراغ الذاكرة ؟؟
بحد ذاتها قصيدة ومضوية جميلة وأستمرت الشاعرة في مسيرتها الشعرية والروائية متكئة على التشاكسية أحيانا وفي الاخرى على الثنائيات الضدية ، فكان النص يتنامى لديها من خلال ما يحمله من تناقضات ورؤى ومشاكسات. وفي خطوة لاحقة بدأت الشاعرة تتجه نحو الاقتصاد اللغوي بالايجاز ، والكثافة والتركيز، وتجنب الزوائد والنعوت الفرعية ما يؤهلها شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني والتعبير عنها بأكثر ما يمكن من الأفعال وبأقل ما يمكن من المفردات ، وهذا لايتآتى إلا بلغة الشعر والتي اكتسبت مع توالي الخبرة الإدبية . فابتعدت الى حد ما عن السردية والغنائية التي تلاحظها في قصائد مجموعتها ( نزوات ذاكرة ) . فاستبدلت على سبيل المثال لا الحصر قصيدتها (هلوسة ) المتكونة من (53 ) بيت شعر الى قصيدة ومضوية تتكون من (4) أبيات شعرية قصيرة تبتدأ بـ ( لم يضع القدر يافطة "حفريات)  ، وهكذا في قصيدتها الطويلة ( كلام لم يقله فم ) المتكونة من (41) بيت شعر الى قصيدة ومضوية تتكون من (4 ) أبيات تبتدأ بـ (حبيبي مزارع ماهر ) .... 
ويتطلب هذا اللون من الشعر فطنةً، وذكاءً من الشاعرة تؤهلها للقبض على تلك اللحظة الانفعالية المحددة ، ونباهة من المتلقي لتذوقها فهي قصيدة النضج والاكتمال؛ لأنها القصيدة القادرة على ان تستفز عقل المتلقي وفكره ؛ لأن قصيدة كهذه تحتاج الى أختزال بناء الصورة الكلية للقصيدة بصورة واحدة تقدم فكرة، وانطباعاً بتكثيف شديد فبدلا من أن تسرد لنا الشاعرة هيام قصة حبها وكما في قصيدتها (هلوسة ) أختصرتها بـ :
لم يضع القدر يافطة "حفريات "
والوحدة حالكة 
والفراغ دامس
فوقعتُ في حبك ...
من الواضح هنا دوران جميع الكلمات و بشكل متراص و مكثف حول الفكرة (الوقوع في الحب) ، فالحب الّذي يومض داخل النص هو أحد أقطاب النص و محوره البين ، فلا تجد شيئا بعيدا عن ذلك القطب المركزي ..فكل الكلمات منشدة ومجذوبة نحو قطبا النص الحب والقدر ، هذين القطبان المتناهيان في جذور الانسانية و ضياعها المميت .
ولابد من الإشارة هنا أن اللغة التي تنظم فيها قصيدة الومضة من سماتها لغويا، السرعة واللمعان. لتؤهل صاحبها على إنشاء الترابط الموضوعي بين عناصر القصيدة للحصول على الوحدات الذاتية التي تربط بين الشاعر وعالمه أوثق الارتباط فالدلالات كما قلنا كلها منشدة و مجذوبة نحو محور النص ومركزه ( الحب المتناهي في جذور الانسانية ) ، ورغم سعة المعاني التي تجلت في فضاء النص ، كـ (اليافطة ، الوحدة ، الفراغ ) ، الا انها ألتصقت كليا في الحب . 
إن مثل هذا النوع من التوظيفات تأخذ فيها الإنزياحات الأهمية الأولى في الأفعال لذا يمكن أن نرصد غلبة الأفعال على الأسماء في نصوصها فهذه الافعال تحمل بين طياتها سردا على الشاعر أن يصور أو يرسم شخصياته وهي تفعل بدلا من أن يسرد لنا عن أفعالها وصفاتها فيحولها الى جماد ، كقولها :
أمران لن ينضبا
الموت والعشق
فكل من مات بلسعة غدر 
يتقمص جسد دودة قز 
ليصنع حريرا للعاشقين 
يفترشونه في وكر الحياة .
ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في التكثيف اللغوي لان كثرة الأفعال يعني كثرة المعاني وكثرة الأحداث . فالافعال ( ينضب ، مات ، يتقمص ، يصنع ، يفترش ) كلها إنزياحات . 
قصيدة كهذه يتحتم على صاحبها استخدام تلك اللغة التي تعمل على استبدال الصور والتعابير القديمة بتعابير وصور جديدة تعتمد على الشفافية، فهي تستخدم لغة خاصة من ذوات تعبير شكلي مميز تغلب عليه المعاناة والتمرد والرفض وهذا ما أمتازت به الشاعرة هيام التوم بقصائدها الفيسبوكية الى درجة انها تركت بصماتها على هذا اللون مما يتيح لك رؤيتها في القصيدة وان غاب أسمها كقولها في قصيدتها بقعٌ مستعصية  :
كل المساحيق التي استعملتها 
لم تُزِل بقع عشقك عن نسيج روحي 
استعصت آثار غيابك
على مبيضات الحياة 
فخرجت الابتسامات صفراء ، 
غير ناصعة الفرح ...
وكل ما حاولت غسل ذاكرتي منك
بتجاهلٍ بارد أو دمعٍ ساخن
أتأكدُ أن نبضي مصبوغ بك...
نجد هنا أن اللغة التي تنظم فيها قصيدة الومضة تتمتع بعدد من السمات أهمها، القصد والتركيز والتكثيف وزيادة الافعال التي تجعل من القصيدة في تحرك مستمر؛ لتكتسب أهميتها من أنها تجري وفق النسقين: الزماني والمكاني واللذين يتحدان في نقطة واحدة . لذا نجد الشاعرة تحمل قصيدتها بأقصى الطاقات المجازية والتخييلية، لكي تفرض وجودها في النظام الشعري ككل. 
ففي النسق الزماني فإن الألفاظ والعبارات تتحدد وفق المقاطع الصوتية لتشكل عبارات مختزلة جدا ذات ايقاع تملئ الحواس ايجازا وكثافة في زمن قراءتها. 
حبيبي مزارع ماهر 
يضع براعم أصابعه
على خصري 
فيتدلى مني الثمر
نجد ان الشاعرة أختصرت الزمن كله من موسم الزرع والحصاد بلحظة واحدة وفي مكان واحد .
وفي النسق المكاني، نجد ان نصوصها لا تطول فيها الجمل ولا السطور الشعرية، لانها قامت بحذف الكثير مما يقال في القصائد الخطابية والغنائية والقصصية وحتى قصيدة الدراما لتترك لنا بياضاً كنتيجة لما طال الجملة والسطر من الحذف كقولها.
بعيدان عمرا قد نبقى
إلا أن "دجلتي" ستلتقي ب "فراتك " يوما
لنروي ظمأ العشق
تتجه قصيدة الومضة احيانا الى خلق الثنائيات الضدية داحل النص والتي هي احدى البنى الاسلوبية التي تغني النص الشعري بالتوتر والعمق والاثارة ، لبلوغه مرحلة الاداء الدرامي ، وتاتي اهمية التضاد من كونه يشكل عنصر المخالفة التي تستهويها الشاعرة أحيانا من خلال استخدامها الفاظ وعبارات وصور ومواقف ، تتضاد فيما بينها، لتحقق في نهاية المطاف صدمة شعرية يتعالى بها النص على قارئه ، كقولها : 
أنا الطوفان 
ولن تبقى أرض على
حالها بعد فيضي
ولن تبقى أنت نفسك
إن كنت عاقلا جننتك 
وان كنت مجنونا
أعدت إليك عقلك
وهذه المخالفة تغدو فاعلية اساسية ، يتلقاها القارىء عبر كسر السياق والخروج عليه وذلك لان المنافرة لها القدرة على صناعة الايقاع الداخلي للقصيدة فهي بدورها تكسر رتابة النص وجموده .
 في قولها :
الشعر كالحب
إما أن يدعوك لتمسك خصر 
السعادة وتراقصها بشغف
وإما أن يطعنك ليضع نقاط 
دمك على حروفه...
أن قصيدة الومضة هي قصيدة رؤيا، فهي تركز على فكرة معينة وتسعى من خلال أبياتها القصيرة إلى تناميها ببناء شعري خاطف، ومفارق. فيرتقي الشاعر باللغة مشكلِّاً كلمات يرتفع مستواها الدلالي، وحين يتمكن المتلقي من القبض على جوهر النصّ تحدث المتعة الفنية. إن الشاعرة هيام التوم تسعى إلى البحث عن فضاء خاص، ومدار للحب، معتمداً على التنافر بين عناصر الصورة، وهذا التضاد يعتبر من أهم العناصر المولدة لدينامية الصورة والتي يميزها الصراع بين نزعتين في الإنسانية. وقد ركزت الشاعرة على العناصر الشعورية، والنفسية للتضاد ليظهِر نقائض الذات في
 جدلها مع الواقع والزمن، كقولها : 
لي خيال شاهق أحلق به عاليا
ووحوش الواقع الضارية تعوي
تحت شجرة أحلامي
دون ان تنال مني
الشاعرة تحاول دوما شحن كلماتها بأكثر ما يمكن من المعاني والتعبير عنها بأكثر ما يمكن من الأفعال بأقل ما يمكن من المفردات , وهذا لايتآتى إلا بلغة الشعر والتي اكتسبت مع توالي الخبرة القدرة على التكثيف الهائل للمعاني كقولها :
لا تتورع عن أغتيال حبك
وهو في ريعان الشباب
لانه سيقتلك حين يشيخ
وختاما لا بد من الاشارة لا يمكن اعتبار كل القصائد القصيرة قصائد ومضية فعلى سبيل المثال نجد ان قصيدتها التي تقول فيها :
تحفى أيها الداخل الى قلبي
وأغتسل من أي أثر وأخرى
أوقد أصابعك
وبخور العشق قدم
على مذابح أنوثتي
وتضرع وأعلن توبتك على جرحي
وصم عن كل الأطايب إلاي
عساي أفتح لك باب جنتي
نجد هناك ملامح سردية واضحة فيها بعيدا عن التوتر والانفعالية مما يمنحها قدرة أكبر على التعامل مع الحدث، الّذي يومض داخل النص وخارجه ، لذا يمكن تصنيفها ضمن القصيدة السردية لا الومضية ، وكذلك قصيدتها :
تعال أوشوش لك 
شاعرة أنا ،أموت ضاحكة
وأؤمن أن الشعراء أحياء 
من قصائدهم يبعثون

هناك تعليق واحد:

  1. الكاتب الأديب جمال بركات
    أحبائي
    أبنائي وبناتي
    ابنتي الزميلة الصديقة المبدعة المتألقة هيام التوم
    مبدعة تمتطي صهوة جواد الحروف لتصل إلى بستان الحب
    مشاعرها التي تقودها تخبرها بأن داخل البستان دواء القلب
    الحب عند هيام هو علاج لكل المشاكل وتقويم للمسار الصعب
    أحبائي
    دعوة محبة
    أدعو سيادتكم إلى حسن التعليق وآدابه...واحترام البعض للبعض
    ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
    نشر هذه الثقافة بين كافة البشر هو على الأسوياء الأنقياء واجب وفرض
    جمال بركات...رئيس مركز ثقافة الألفية الثالثة

    ردحذف