في أحد أيام الشتاء في باريس حيث الجليد يحاصر الدفء المنبعث من روح الحياة و الناس تلهث للإختباء في مبانيها المغلقة صغارًا و كبارًا ، كان من بينهم رجلاً ستينيًا ذو بنيان ضخم و طول فارع و عيون خضراء و شعر أشقر يتجه نحو مبنى جريدة (الحرية) ذلك الاسم الذي عرفه العالم عمليًا عبر تلك العاصمة و في خلفية اليافطة خريطة الوطن المقسوم سوريا و لكن في قوامه الصلب قبل هبوب كوابيس الشيطنة البشرية.
دخل الرجل المبنى صاعدًا الدور الثاني حيث مكتبه و سكرتيرته بقامتها المتوسطة و جسدها المنحوت كما تحكي كتب الجمال و عيناها العسليتان و شعرها الكستنائي و التي تقابله بإبتسامة ساحرة و مرحبة بدلالها الشامي حين تمديدها آخذة حقيبته فيسألها السؤال المعتاد في كل يوم جديد:
هل هناك جديد من خطابات أو مقابلات أو مواعيد يا زُهرة ؟
فردت عليه بشكل فوري:
لا يا أستاذ باسل.
يجلس باسل على مكتبه مشمرًا عن ساعديه و كأنه يستعد لشقاء يوم جديد قائلاً لها:
تمام ، أخبري صفوان بأن يحضر قهوتي المعتادة.
- تأمر.
- تكرمي.
في مكتب باسل الحلبي ذلك المفكر المغوار الذي يعد خليطًا من كل ما تزدان به سوريا من أفكار غزيرة كانت إفرازًا لصراع دموي جعل من جنباتها مراثي متناثرة تبكي الأطلال و تنعي الأزمان و كأن جدار مكتبه يشرح كل هذا عبر صور بقاع الوطن المجروح المكفن برداء الحنين الهادر و الملطخ بالواقع المأزوم.
قام باسل بفتح الكمبيوتر الخاص به و كأنه يقلب بين صفحات الجرائد المختلفة باحثًا عما يطفيء حزنه الملتهب على وطن يبحث عن دفء أبنائه الذين تاهوا وسط تلال الحزن و الدموع المتساقطة كزخات المطر الناري بأيدي شياطين الإنس الذين جعلوا من ساحات الأرض مرتعًا للمقامرة باسم شعارات التناحر الزائف.
في مواقع التواصل الاجتماعي على صفحات النت المختلفة أخذ باسل يتنقل عبر الماوس من موقع لموقع و من صورة لأخرى و كأن الكمبيوتر ينقل أزيز الطائرات و أصوات الرشاشات و نفير الأسلحة النارية التي تجعل من البشر دُميًا لا ملامح لهم و لا تفاصيل و إذ به يقوم بتشغيل أغنية لجارة القمر مستعينًا بها لكي تخفف عبر صوتها الحنون روعة المشاهد اليومية التي تُغني الجميع عن مشاهدة الأفلام السينمائية.
يدخل صفوان بفنجان قهوته قائلاً له:
القهوة معلمنا.
- تكرم صفوان.
يشعل باسل سيجارته مرتشفًا معها القهوة الساخنة ليفكر و يتأمل فيما وصل إليه الوطن من عبث و سيريالية و صوت جارة القمر يواصل أنينه الدافيء عبر ترانيمها الشجية.
يزداد الشجن في كافة أرجاء الغرفة إلى أن توقفت يديه على التنويه في قسم الخطابات على رسالة له في صفحته الخاصة بالفيس بوك ليجدها من خلال صورة لفتاة جميلة موضوعة على خانتها الخاصة ، أخذ باسل محملقًا في تفاصيل صورتها و كأنه أمام تابلوه سيريالي يداعب الواقع الملموس مستفسرًا بنظراته الصحفية لصاحبة التساؤل المدهش!!
قام باسل بالموافقة على طلب صداقتها حتى يتحين له فرصة معرفته بها و ضغط على الصورة لتكبيرها حتى تزداد الحقيقة وضوحًا ليرى تعليقات متعددة على إنسيابية التابلوه الأدمي المتناسق في جماله و روعته من شعر أشقر و عيون خضراء تزداد صفاءً مع اقتراب نور الشمس منها و كأنه أمام حقول خضراء تزيد من ناظريه أملاً و تشبثًا بغد أفضل و بياض شاهق و نظرات بريئة و شقية لتزداد اللهفة على صاحبة تلك الملحمة الأدمية ليجد اسمها حسب صفحتها ديما الحلبية.
أي سر فيك أيتها الحلبية الملغزة بالجمال و الروعة و البهاء ، ما الذي دفعك لبعث رسالتك لي؟! هل لإستفسارات عن بعض كتاباتي؟ أم لإستنباط صفحات العشق في ظلال زخات الألم و الدماء المتناثرة؟! أم لتجرع مرارة المشهد الموحد بيننا؟! أم لوحدة المكان الذي ننتسب إليه؟
أخذت التساؤلات تداعب مخيلته إلى أن قطع الشك باليقين بفتح ما بعثته متلهفًا لمعرفة سر لغزها.
قام باسل بالضغط على الرسالة مشتاقًا لفتحها الفوري للإجابة على ظمئه الشجي نحو تلك الحورية التعجبية ليرى رسالتها مكتوبة بخط عريض كخطوة للإجابة على حيرته المستمرة مكتشفًا حروفها الحائرة (من فتاة منتحرة إلى أيقونة حريتنا المطلوبة).
جحظت عيناه نحو العنوان ليزداد تلهفًا بعد أن وجد كلمات تشير بكونه طوقًا لنجاتها:
إلى أيقونتنا الساحرة / باسل الحلبي
أكتب إليك سيدي تلك الكلمات النازفة من أزيز الطائرات و صرخات المدافع و الأطفال في عالم يشوبه الحزن و القتامة تحت ظلال الإفتراس البشري الذي تفوق على إفتراس الحيوانات التي لا تأكل أو تفترس إلا وقت شعورها بالجوع ، أما البشر فإفتراسهم عادة يومية يشتاقون إليه إرضاءً لغرورهم و إثباتًا للعالم أن الإنسان في يديه تحديد مسار الأقدار!!
أنا تلك الحلبية المحبوسة بين أنياب القوى المتناحرة حول الفراغ إذ بعدمية فائدته و كنت أتمنى أن نصبح صفرًا لكي نشعر بقيمتنا المهدرة في ظل طواغيت جدد ظهروا كنبت شيطاني حرضونا للإنقلاب على الماضي الأسود لكي نصحو على حاضرٍ أكثر سوادًا.
حينما شرعنا في ثورتنا كنا نحلم بالإنقلاب على الإستبداد الوطني باسم حماية أراضينا لنبدو نحن أبنائه الحقيقيون الخونة و المأجورين لنكتشف أننا أمام فوضى و ليست ثورة ، أعطت فرصة البزوغ للمختبئين عقودًا مديدة خوفًا من النور ما بين سطوعه و لهيبه في كشف مكنونهم الدنيء.
نحن الآن في حلب تلك المدينة الزاهرة بأناس يقدرون الجمال و العلم في وضعهما اللائق كروشتة نجاة من الأخطار المحدقة بأبوابها العامرة ، المدينة التي كانت تسبب الرعشة لأجسام كل من يضمر لها السوء و البهتان ، مدينة أعلام جعلوا من حياتنا قيمة خالدة تردد على الألسنة.
الآن يا سيدي الفاضل حينما أجتاحت قوى الشر المبعثرة أيقونة وطننا الحبيب صارت حلبُنا الآن ركامًا تشكو الهجران و الدمار بعد أن كانت درةً من درر الإنسانية بمناحيها الكاملة ، المدينة التي هجرت الرشوة و الفساد عبر الكواكبي وقت رئاسته للمدينة ، موطن أبا تمام منبع الشعر و الكلام الساحر في مناجاة الطبيعة الخلابة، موطن القوافي و النغم الباكي و الباسم.
كل هذا أصبح في رحاب الرماد و الحطام مختبئًا في رداء الموت و الصراخ على أنقاض لن تصحو إلا بمعجزة خلابة في عصر خاصمته المعجزات. أكتب إليك و أنا بين شقي الرحى متأرجحة بين أنياب النظام و مخالب المعارضة أي بين سيئين لا ثالث لهما.
أنا الآن عرضةً للإفتراس ما بين الفكين و قراري الآن أبثه إليكم قبل إطلاق صرخاته المدوية شاعرةً أنك عند نفاذه ستكون الصوت الوحيد الناعي لي لتفتحك و تنويرك الذي عهدناه عبر الأجيال رغم بعادك عن الوطن لأكثر من ثلاثة عقود لقولك الحق و إصرارك على التشبث به رغم ما لاقيته من تعذيب و محاولات لمحوك من على سجلات الوجود و هم من شدة جهلهم لا يعرفون أنك في حالة غيابك بجسدك ستظل بقلمك و كلماتك الرنانة حيًا رغم أنوفهم.
لقد قررت الإنتحار و أنت الوحيد العالم بهذا القرار فكيف لي أن أترك نفسي فريسةً للذئاب الملونة و أنا لا ناقة لي و لا جمل بعد التدمير و فقدان الأهل و الأحباب إذن فلمن أعيش؟ و لمن سأتحمل ويلات الحياة بشظاياها الساخنة التي تدمي القلوب رغم صرخاتنا الرافضة لتلك المسرحية الهزلية؟!
سأنتحر رغم أنوف الجميع و أعلم بعد معرفة خبر إنتحاري ستصب علي لعنات التكفير و الوعيد و سيُحجز لي مكانًا في أسفل السافلين بدعاوى و فتاوى الفريقين ما بين دعاة التكفير و دعاة الخبز و سأوضع في ملفات الهالكين لأني أردت الحياة الكريمة فلم تنتابني أو تتقرب مني لتدابير قدرية لا يعرف مداها إلا الله عز وجل.
أكتب كلماتي الأخيرة و أنا مطمئنة لأني أعرف مقدار قارئها وسط ألوف سينهرونني على الدوام و أنت وحدك المدافع عني لأنك مالكًا لسر قراري و سأكون مغمضة العينين في عالم لا يسوده إلا الحق سواء كنت من أهل النعيم أو من أهل الوعيد.
مع خالص تحياتي
ديما الحلبية
تنتهي الرسالة و باسل يشعر بحرارتها مع حرارة سيجارته التي إنتهت لتلسعه في يده و كأنها تشاركه المعايشة و التأثر بحروف نارية تشوبها الإنسانية المعذبة بأتعس الكلمات و أصعب اللحظات التي تحاصر الإنسان الآن في منطقة لا تعرف سوى التآمر و المكوث على سطح من الصفيح الساخن على الدوام مظللة بصريخ جارة القمر المعتق لهذه الأحزان الأثرية (الغضب الساطع أتٍ .... بجياد الرهبة آتٍ).
أخذ باسل يفكر في مكنون الرسالة قائلاً لنفسه:
كل يوم ترتكب الجرائم باسم الحرية المنشودة و المستقبل القريب الذي أصابه الموت المستديم لأناس لا يرجون إلا مستقبلهم فقط في لحظات لا تعرف إلا الندم و البكاء على اللبن المسكوب.
كيف لي أن أنقذ تلك المنتحرة على الدوام؟! ما الذي أستطيع فعله في عالم فقد الأمل و الرجاء؟!
كلمات تدوي في قلبه و عقله لتتمتم شفتاه بها و الحزن عاصرًا لهما و السخونة تحيط به رغم البرد القارص في بلاد إنطفأ فيها نور الحرية و أصبح تراثًا و متحفًا تتباكي عليه الإنسانية جمعاء.
لا بد من حل فوري و سريع أم حلولنا الآن أصبحت مكتومة الأنفاس؟!
أخذت حروف الرثاء و التأنيب تداعبان مخيلته و هو يدور جيئةً و ذهابًا في غرفة مكتبه مع إشعال سيجارة جديدة تتناثر دخانها في جنبات المكتب تماشيًا مع دخان الحرب الضروس و كلمات الملغزة الشائكة إلى أن جاء صوتًا من محموله يرفع آذان الظهر تزامنًا مع ترانيم فيروز الملائكية و هي تقول (بأيدينا للقدس سلام آتٍ) كقطرات أمل لا ينضب أبدًا ما دام في الحياة من يحملون في جعبتهم معاني الإنسانية التائهة وسط حطام الشر و الطغيان.
يذهب باسل على الفور إلى جهازه ليرى يديه تخرج تلك المواساة باعثًا بها كرد على الفاتنة الحلبية بدعوة الجميع للمشاركة:
إلى الإنسانية جمعاء
أبعث لكم من أرض النور و الجمال تلك الكلمات النارية لعلها تعيد إليها ما عهدناه منها في الماضي حيث البكاء على الآدمية التي ماتت مع موت الإحساس في قلوب أبناء قرننا الحالي.
إليكم صرخات الإنسانية المعذبة فهل من مُجيب؟!
أرجو الرد الفوري حتى لا نصحو على ملحمة جديدة لا ترتدي سوى السواد و الندم.
أخوكم
باسل الحلبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق