من المعلوم ووفقا للجانب النظري والتطبيقي أيضا انه لا يمكن تحقيق التطور والاستقرار دون تحقيق الأمن، حيث لا يستطيع الانسان مواكبة عمليتي التطور والبناء دون ان يأمن على نفسه وماله وعرضه، لذلك فان خبراء الأمن كانوا قد اجمعوا على انه لا امن دون تنمية ولا تنمية دون أمن، لان الأمن هو بوابة التنمية وطريق الاستقرار، ومن هنا فان الانسان كان ومنذ بداية تشكيل المجتمعات يبحث عن بلورة مفهوم الامن وفقا لبيئته وحاجاته وظروف حياته من اجل الاستمرار بتوفير مستلزماته.
ومع تطور الحياة وظهور المجتمعات الحديثة بدأت تلك المجتمعات بالاتجاه نحو تامين بعض الحريات لمواطنيها , حيث اثبتت تجارب تلك المجتمعات انه لا حرية او ديمقراطية دون امن, ولا امن بمفهومه الشامل أيضا او تنمية مستدامة دون حرية وديمقراطية , الا انه وفي ظل تطور المجتمعات وثورة التكنولوجيا والمعلومات ,وفي ظل تكالب العالم الاستعماري وتزايد اطماعه مع اتجاه تلك الدول على تنفيذ مخططاتها الاستعمارية لتحقيق مصالها دون خسائر فان مفاهيم الامن والحرية قد اختلطت عند المجتمعات التي ما زالت في طور البناء , وحتى عند تلك الدول التي ما زالت في طور الحداثة والتطور حيث سادت الفوضوية والاعتباطية في استيراد المفاهيم ومحاولة تقليد نماذج ديمقراطية من تجارب الغير كما فعلت بعض المجتمعات العربية مما دفعوا بمجتمعاتهم بوعي منهم او دون وعي ,ليس في اطار التصادم مع الهوية الوطنية فقط ,وانما حتى مع هويتهم الإسلامية أيضا في ظل التحديات المفروضة امام تلك المجتمعات وانعدام اتباع قيادتها سياسة الاولويات.
ان في هذا التقليد الذي قامت به بعض الدول العربية من حيث استيرادهم لنماذج ديمقراطية منسوجة عن الدول الأوروبية قد أدى الى ما خططت له دول الاستعمار من اجل اضعاف تلك المجتمعات والسيطرة عليها وذلك من خلال ما احدثته تلك الدول داخل مجتمعاتها نتيجة ذلك التقليد من خلخلة في التوازن الديمغرافي واحداث التناقض داخل المجتمع فكريا واجتماعيا وإغراقهم في دائرة البحث عن هوية لمجتمعاتهم لسنوات يضيع خلالها تاريخ الوطن مع تلاشي مقدراته ,ولذلك كان على المجتمعات ان تعمل أولا على بلورة خاصة لمفهوم الامن والتنمية وبما يتوافق معهما من حرية دون تقليد او استيراد ,فما هو مفهوم الامن المطلوب تحقيقه لخدمة عنصر الاستقرار والتطور الإنساني والاجتماعي، وبما يتوافق مع احتياجات المجتمعات وإمكانياتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية؟,وما هي معايير الحرية, وهل يمكن تحقيق حرية دون امن او امن بلا حرية؟ , وهل يمكن للإنسان أيضا ان ينطلق في عمليتي البناء والتطور وهو في حالة من انعدام الامن ودون توفيره لمستلزمات الاستقرار والطمأنينة للمجتمع الذي يعيش فيه؟.
مفهوم الامن والتحديات المفروضة
يمكن القول بان الامن وبعيدا عن الفلسفة العامة وما قيل فيه من نظريات على انه عبارة عن منظومة متكاملة تجمع ما بين الحفاظ على قيم وآداب المجتمع وتماسكه وتلبية حاجاته الأساسية وذلك وفقا لإجراءات تؤدي الى مواجهة كل الاخطار والمهددات الداخلية والخارجية مع مراعاة الوصول الى مستقبل افضل يحفظ ما تم إنجازه من تراكمات امنية وحرية وعدالة وفقا لرؤية امنية صحيحة ومتزنة, ودون ممارسة الأذى بحق الغير بحجة الحرص على تحقيق الأمن , فالإجراءات القمعية تحت مسميات الحرص على تحقيق الامن لا تقود إلى الأمن والاستقرار والوصول الى التنمية , بل إلى المزيد من ردات الفعل واحداث التناقضات مما يولد ذلك الأحقاد والاتجاه نحو العنف , وعليه فإن الحياة السياسية والوطنية السليمة هي التي تفضي إلى الأمن الشامل من خلال ما تمنحه تلك الانظمة لكافة قوى المجتمع بممارسة حقوقها وبما يتوافق مع اصالة المجتمع ومتطلبات معاصرته , ولذلك فان تلك الأنظمة تعيش في أوضاع امنة ومستقرة في الوقت الذي نجد فيه بان الأنظمة الاستبدادية الشمولية والتي تعتقد ان تحقيق الامن وثبات أركانها لا يتحقق الا بإجراءاتها القمعية ما زالت تعاني من الصدام والتوتر وانعدام الاستقرار بجميع مستوياته .
ان استقراء الواقع التي تعيشه الدول المستقرة امنيا مع دراسة الحياة السياسية ودون الغوص في تفاصيل العلاقة ما بين مؤسساتها تؤكد بان العلاقة فيما بين الامن والتنمية هي القاعدة التي استندت عليها تلك الدول في بناء الحياة السياسية الوطنية والسليمة, حيث ان العلاقة فيما بين الامن والتنمية هي علاقة طردية , بل وتبادلية ايضا حيث نجد أن المجتمع الذي تتحقق فيه الحرية والامن , هو ذلك المجتمع الذي يمتلك عوامل الامن والاستقرار وبالتالي الاتجاه نحو التقدم والازدهار وزيادة فرص التنمية والانطلاق به نحو الحضارة والحرية والرقي ,فيما نرى ان المجتمعات التي تمارس السلطات فيها سياسية الملاحقة والمتابعة لقوى المجتمع مع تقييد الحريات في ابداعها تصبح اكثر المجتمعات انعداما لأدنى مقومات الامن حاضرا ومستقبلا ,وهنا لا بد لنا ان نطرح سؤالا يعتبر الان الأكثر الحاحا في ظل ما تعاني منه المجتمعات العربية الا وهو ما هي الحرية المبتغاة ؟,وهل هي مطلقة ام مقيدة؟.
ان أي حرية لها معايير وبما تتوافق مع ظروف المجتمع وما فيه من مقدرات , فحرية المجتمعات المستقلة والمستقرة بفعل سياساتها المعتدلة تتوافق مع ما في تلك الدولة من مقومات اقتصادية وما تمتلكه من عملية التكامل فيما بينهما وهذا ما يميزها عن الحريات الممنوحة في المجتمعات التي ما زالت في حالة من التناقض ما بين هويتها السياسية والدينية او العرقية, وما بين المجتمعات التي ما زالت خاضعة للاحتلال أيضا ,حيث يمكن للمجتمعات المستقلة ان تعمل على تنمية الوعي والمعرفة, وتطوير مستوى المسؤولية مع العمل على إرساء دعائم المشاركة في الشأن العام وفقا لضوابط قانونية ودستورية , حيث لا امن ولا تنمية هنا دون وعي ومعرفة او شعور بالمسؤولية.
اما المجتمعات التي ما زالت خاضعة للاحتلال كما هو حال المجتمع الفلسطيني بشكل عام وفي قطاع غزة بشكل خاص نظرا لما يعيشه من تناقض ما بين الشرعية الثورية والدستورية ومن تهميش أيضا لعملية البناء والتنمية في ظل سيطرة حركة حماس فيجب ان تكون فيها الحريات مقيدة ,وان يكون الامن مقدم على اية عملية او إجراءات تنموية وذلك من خلال الاتفاق على ميثاق وطني شامل يستند الى القواسم المشتركة ما بين كافة القوى والفصائل فيما يتعلق بالاستراتيجية الأمنية والسلوك الأمني للسلطة الفلسطينية وكذلك التوافق على مشروع سياسي يتوافق مع ما تطرحه منظمة التحرير الفلسطينية من سياسات وبرامج من اجل استمرارية الحياة وتحقيق امال وتطلعات الشعب بحياة امنة والاتجاه به نحو الاستقلال من خلال مشاريع البناء والتنمية على قاعدة يد تبني وأخرى تقاوم لأنه لا يمكن للتنمية ان تتحقق في ظل الاحتلال ,وفي ظل الادعاء بحق الممارسة المشروعة لبرنامج المقاومة وبالتالي ان انعدام الامن نتيجة الاحتلال والصراع على البرامج الى حد الصدام يقضي على كل فرص التنمية ومهما كانت محاولات البعض في تحقيق بعض المشاريع ,ومهما كانت الحماية الدولية لها أيضا, حيث لا يمكن ان تتقدم مرحلة الطفولة على مرحلة الشباب .
ان عدم الانزلاق نحو الصدام الفكري والتيه لسنوات في عمليات البحث عن الهوية والاتجاه نحو الصدام المسلح لتحديد الأيديولوجيات والاولويات لتلك المجتمعات تتطلب ان تتحدد عملية البناء على قاعدة الامن والتنمية فهي الأكثر أولوية من حيث تقدمها على الحريات وخاصة المتعلق منها بكل ما لا يتوافق مع خصوصية شعبنا اجتماعيا وسياسيا ,وان ما يتم تحقيقه بعدئذ من بعض الحريات يجب ان تأتي في اطار عملية التوافق ما بين كافة فئات الشعب وقواه السياسية وذلك بالتناسب مع ما يجري من تحقيق عوامل الاستقرار وخطط التنمية وعليه يجب ان تتجه السياسات الأمنية دوما صوب حماية قيم المجتمع الأساسية وتوفير كل مستلزمات وجوده وفقا لظروف كل مجتمع ,لذلك نرى ان المطلوب مراعاة كل مكونات الأمن الثقافية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية لان أي خلل يصيب أي مكون من هذه المكونات سينعكس سلبا على الأمن الوطني كله وهذا ما يؤدي الى احداث الصدام بشكل لا يخدم المفهوم الاستراتيجي للأمن في هذه الدولة او تلك , وعليه فان على أي دولة ان تستند في خططها الأمنية على إجراءات تدفع المواطن الى الالتفاف حول تحقيق الامن والاستقرار للاتجاه به نحو التنمية والحريات وليس تعزيز إجراءات القمع والبطش دون محاولة تحقيق ولو بالحد الأدنى من فرص التنمية .
انطلاقا مما سبق فان نظرية الأمن اذا لا تعتمد على الانغلاق , وإنما على الانفتاح وبما يسهم ذلك الانفتاح في اتساع حالة الالتفاف حول الدولة والاقتناع بسلوكها الامني, وبالتالي فإن مفهوم الأمن يعني قدرة الدولة والمجتمع معا على الانسجام الفعال وإرساء معالم علاقة حضارية ما بين الطرفين, تسمح لكل طرف من احترام خصوصيات ووظائف الطرف الآخر, لذلك فإن المشاركة في صنع القرار هو الذي يحول دون الهامشية بكل أشكالها حيث ان نظرة سريعة الى التجارب السياسية في العديد من الدول تؤكد لنا بأن المشاركة في المسؤولية والقرار، هي التي تخلق الظروف الذاتية والموضوعية للاستقرار بكل مجالاته وهذا ما يجعل الدول في حالة من الاستقرار والرخاء وبعيدة عن محاولات البعض لاختراقها واحداث الفوضى والفلتان كمقدمة للانقلاب عليها او الدعوة الى ضرورة انهيار مؤسساتها كخطوة نحو انهاء أركانها بحجة الاتجاه بالمجتمعات نحو الحرية والعدل والمساواة كما جرى في دول ما يسمى الربيع العربي.
انعكاسات انعدام الامن وغياب الأولويات
اذا ومن خلال ما سبق يتبين لنا انه لا يمكن للأجهزة الأمنية ومهما وصلت اليه من حالة في التطور والوقاية من الاخطار ,وبما تمتلكه ايضا من وسائل ان تحقق الامن دون تكامل ما بين الدولة والمجتمع وبالتالي ما بين رجل الامن والمواطن ,حيث لا يتحقق هذا التكامل فيما بينهما دون تنمية لان واقعنا العربي كان قد أثبت بان الإجراءات التعسفية لأجهزة الأمن والافراط في سلوكها الأمني لا تؤدي الى فرض الامن والاستقرار وانما الى عدم الاستقرار واحداث التناقض ما بين طبقات وفئات الشعب وشرائحه , كما تساهم في خلق حالة من التوتر والصدام وبالتالي الى غلق فرص التنمية ,لذلك فإن على الدولة ان تعمل على تحديد أولوياتها من خلال توضيح طبيعة العلاقة ما بين الأمن والسلطة, مع العمل على غرس الشعور بالأمن والطمأنينة للمواطن مع تأمين مستلزمات معيشته ومقومات وجوده مع المساهمة في سياسة تنموية في ظل هامش من الحريات وفقا للقانون لان استخدام سياسات البطش والمتابعة والملاحقة كان قد أدى الى سرعة سقوط أنظمة أراد لها الاستعمار الزوال رغم ما تمتلكه تلك الأنظمة من أجهزة أمنية .
ان على الدول العربية ان لا تتناسى ما يسمى الربيع العربي الذي ما زلنا نعيش انعكاساته حتى الان, كما يجب عليها ان تتلاشى خلال اعتماد سياساتها ومخططاتها ما كانت تمارسه بعض تلك الانظمة التي تهاوت عروشها بسبب ما كانت تمارسه تلك الأنظمة من سياسة البطش والملاحقة وتقييد الحريات دون اطلاق السياسات التنموية , وهذا ما اعتمدت عليه دول الاستعمار في إنجاح مخططاتها للخلاص منها واستبدالها بأنظمة أخرى كلما دعت مصالحها الى ذلك , حيث كانت دول الاستعمار وما زالت تعمل وفقا لسياسة المراحل وبما يخدم مصالحها وبرامجها وعليه فان اتجاه الدولة نحو تحقيق الديمقراطية ومتطلباتها السياسية والمجتمعية, هو الخيار الحضاري لاستقرار الدولة بعد تحقيق الامن والتنمية وهو الذي يجدد شرعية السلطة السياسية فيها بعيدا عن التجاذبات والتداخلات ومحاولات تأثير الغير وذلك بفعل ما تمارسه تلك الدولة من سياسة الاتزان في تحقيق الامن والتنمية وتكريس العدالة وهذا ما يوسع من قاعدتها الاجتماعية والسياسية, ويحول دون نشوء تيارات عنفيه او متشددة داخل المجتمع.
ان ما يجري الان في شبه جزيرة سيناء من عنف وتصاعد في عمليات الإرهاب ,وما يجري الان في قطاع غزة من انحدار وتناقض ما بين السلطة والشعب هو بسبب غياب الامن وعدم تحديد الأولويات منذ انشاء السلطة الفلسطينية , ولذلك فان على الدولة المصرية واجب الاهتمام بشبه جزيرة سيناء, ليس من الناحية الأمنية فقط وفرض سيطرتها واخضاعها للقانون والنظام العام ,وانما بمحاولة الحاقها بركب التطور والعناية بها اقتصاديا مع خلق فرص للتنمية فيها لان ما يحدث فيها من تناقضات مع تنامي ظاهرة العنف والإرهاب هو بفعل تهميش الدولة لها وغياب الخطط التنموية عنها مع تخبط العمليات الأمنية فيها وفقا لما يجري فيها من متغيرات ,وهذا ما ينطبق أيضا على غزة باعتبارها احد اهم المدن التي تتبع السلطة الوطنية الفلسطينية واهم مقومات وجود الدولة المرتقبة لما فيها من معالم سيادية ,حيث على السلطة الوطنية الفلسطينية واجب إعادة بسط نفوذها وسيطرتها امنيا وبما يتوافق ذلك أيضا مع مشاريع التنمية في ظل تحقيق استراتيجية وطنية فلسطينية من اجل تحقيق الدولة من خلال الاتفاق على القواسم المشتركة بين كافة قوى وفصائل العمل الوطني وجميع طبقات الشعب الفلسطيني وشرائحه الاجتماعية بعيدا عن الديمقراطية الطوباوية التي لم تفرز الا تخلفا وانقساما مع افتقاد العدالة في إدارة المجتمع بسبب عدم تحديد الأولويات في ظل ما يعيشه الشعب الفلسطيني من تحديات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق