للإبداع حكمته الجماليّة/ مادونا عسكر

"حينما تصبح مبدعاً، لن ترى بعدها الأمور في العالم كما يراها الأشخاص العاديّون". (الرّوائي بريان مور)

يتضّح لنا من حكمة الرّوائي الإيرلندي براين مور أنّ الإنسان يصير إلى الإبداع، أو لعلّه بمعنى أصحّ ينتقل من مرحلة الإبداع بالقوّة إلى الإبداع بالفعل. فلا شكّ في أنّ بذور الإبداع حاضرة في كلّ شخص. ومرحلة الطّفولة تبرهن عن مشروع إبداع لدى الطّفل من جهة اكتشاف الأشياء، وابتكار بعضها، والتّمرّد على التّقليد وانتهاج طرق مختلفة. لكنّ الإبداع لينتقل من مرحلة القوّة إلى الفعل يحتاج تدريباً وتنمية وتربية واحتراماً للقدرات ليبرز الإبداع كجوهر إنسانيّ. وإذا ما أُهمل الإبداع الإنسانيّ بقي الإنسان عاديّاً، يسلك في هذه الحياة دون أيّ إدراك لقوّة الخلق الكامنة فيه. فالإبداع أشبه بالخلق. قدرة على الإبهار والإدهاش وقدرة على القبض على العقل والرّوح بهدف معاينة الجمال.
الإبداع نعمة خاصّة للإنسان لكن لا بدّ من التّمييز بين الإبداع المؤقّت أو المرحليّ وبين الإبداع الحقيقيّ أي الإبداع الخالد. ذاك الّذي يتخطّى الزّمان والمكان، ويبقى أوّلاً. إنّ الإبداع المرحليّ ومضة آنيّة، تبهر لفترة وجيزة أو طويلة، لكنّه لا يخلد بمجرّد أن يظهر إبداع آخر. وأمّا الإبداع الحقيقيّ، فهو ذاك الّذي وسط إبداعات كثيرة يحافظ على مكانته، بل وكأنّي به يصبح شخصاً، يحلّ أينما كان. لم يترك سقراط كتابات، وجلّ ما نعرفه عنه استقيناه من روايات تلامذته، لكنّه حاضر وبقوّة بفكره وفلسفته منذ قرون. حمل كتاب النّبيّ لجبران خليل جبران سمة الإبداع الخالد. هذا الكتاب الّذي ظهر سنة 1923 نقرأه اليوم وكأنّه معاصر لنا. وكتب فيكتور هوغو رواية البؤساء ليقرأها آخر إنسان في التّاريخ. ورسم ليوناردو دافينتشي الموناليزا لعصور لن يمرّ بها. ونحت مايكل أنجلو تمثال موسى وبثّ فيه الحياة وكأنّي به يحيي النّبي موسى من جديد وإلى الأبد. وإبداعات لا تعدّ ولا تحصى لا يمكن التّطرّق إليها في هذا المقال تفرض ذاتها للأبد دون أن تزاحمها إبداعات أخرى. من هنا يمكن الاستدلال على الإبداع، بحيث أنّه قائم بذاته، يبدأ من حيث تولد الفكرة في المبدع وينتهي باستحالته إلى لغة يتحدّث بها كثيرون.
لا يقتصر الإبداع على إظهار أعمال خارقة، وإنّما يكمن في إظهار الجمال البسيط بمحبّة خارقة. ولا ينحصر بأشخاص محدّدين دون سواهم، بل هو جزء لا يتجزّأ من كلّ إنسان تمكّنه بصيرته من استنطاق الجمال وتجسيده ليحاكي الكون بأسره. فالأمّ التّي تربّي أولاداً من مختلف الأعمار وتنتقل بين المراحل العمريّة تبرهن عن إبداع خاصّ يبقى متجذّراً في قلب الإنسان. أو عامل يبتكر طريقة خاصّة لإتمام عمله يتحوّل إلى خبرة تُمنح لآخرين. الإبداع حالة الذّروة الإنسانيّة في لحظاتها الهائمة بالجمال والغائبة عن الزّمن عن وعيٍ حتّى تتمكّن من تخطّيه.
يقول مكسيم غوركي:"يكمن في كلّ إنسان قوّة الباني الحكيمة ولا بد من إفساح التّطوّر والازدهار لها لكي تثري الأرض بعجائب ومعجزات جديدة." إذاً، فتغيير العالم ممكن إذا ما استحوذ عليه الجمال. وتبديل سلوكيّات الإنسان ممكنة إذا ما تربّى على الجماليّات الإبداعيّة. واستئصال الشّرّ من العالم ممكن إذا ما جرح الجمال الإنسان وزلزل كيانه ليفيض منه الخير، جوهره الحقيقيّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق