خطوط النفوذ الحمراء فى الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط الجديد/ د.عبير عبد الرحمن ثابت

من الواضح أن مستويات القرار العليا فى الدول الوازنة عالميا؛ تدرك حقيقة أن سياسة ترامب هى  ببساطة  واجهة لمخططات إمبراطورية كبرى؛ يقف ورائها المؤسسات الأمريكية النافذة الاقتصادية والعسكرية، وأن ترامب فى حقيقة الأمر ليس إلا فزاعة فاعلة لتلك المؤسسات ، ويبدو ذلك جلياً فى تماهى أوروبا وقبلها روسيا والصين مع تلك السياسة الترامبية؛ وذلك فى محاولة لتفادى أى نوع من الاصطدام مع هذه الحقبة الإمبراطورية  ذات الواجهة الترامبية؛ فى محاولة منها لتقليص أي مكاسب إمبراطورية أمريكية تكون على حساب تلك الدول .

وفى المقابل ولسوء الحظ تبدو تصفية القضية الفلسطينية فى قلب تلك المخططات؛ نحو تعميق النفوذ الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط  لعقود قادمة؛ بصفتها منطقة الطاقة الأهم عالميا؛ نحو شرق أوسط جديد بجغرافيا سياسية لا تختلف عن ذى قبل كثيرا من حيث المضمون إلا فى جزئية استراتيجية هامة، ألا وهى تحديد الخطوط الحمراء لمناطق النفوذ بشكل واضح وعملى ومحمى بقوة الأمر الواقع، وكذلك  باتفاقات موثقة تستند  لهذا الأمر الواقع لا تقبل التأويل أو التعديل .

فى هذا الصدد تبرز قضيتان حاسمتان؛ هما قضية الملف  النووى الإيرانى وقضية الصراع العربى الاسرائيلى؛ والتى تعد القضية الفلسطينية لُبه الأساسى، فعلى صعيد الملف النووى الإيرانى؛ تسعى الإدارة الأمريكية لإعادة فتح الملف النووى الإيرانى من جديد؛ لإحداث تعديل استراتيجى هام فيه؛ يكمن  فى ربط إنهائه بتحديد النفوذ الإيرانى السياسي فى المنطقة، وهو ما لم يوفره الاتفاق فى نسخته الحالية؛ واعتبر فى حينه نصراً سياسياً مستحقا للمفاوض الايرانى وللنفوذ الايرانى المتعاظم،  والذى هو فى حقيقة الأمر امتداد سياسى تحالفى لنفوذ روسى إمبراطوى بدأ  يستعيد زخمه التاريخى فى المنطقة بشكل متسارع؛ وبقوة الأمر الواقع العسكرية عبر الأزمة السورية.  وفى المقابل أصبح حل  القضية الفلسطينية أمراً حيوياً جداً لرسم تلك الخطوط الحمراء وتحديدها بدقة؛ منعا لأى تقدم مستقبليا محتما لنفوذ المحور الروسى الإيرانى نحو مياه شرق المتوسط، وليس صدفة أن تتزامن صفقة القرن مع الاصطفاف الإقليمى الحادث، ومع إعادة فتح الملف النووى الإيرانى .

لكن أخطر ما فى الأمر أن صفقة القرن ترسم  معالمها طبقا للأمر الواقع القائم؛ لا بل هى شرعنة لهذا الأمر الواقع، وتدرك الإدارة الأمريكية أن صفقة القرن لن تحل القضية الفلسطينية، لكنها إن نجحت ستمنحها  فرصة  تجميد الصراع لعقود قادمة، وهو ما تحتاجه لرسم خطوط نفوذها الحمراء، علاوة على أن تمرير صفقة من هذا القبيل سوف يمنح إسرائيل شرعية لم تكن تحلم بها لوجودها ولروايتها التاريخية عن الصراع، والتى تتنافى مع مقررات الشرعية الدولية؛ وهو ما يعنى  بديهيا كسر للشرعية الدولية وللرواية الفلسطينية العادلة؛ وإضعاف أى مطالب شرعية فلسطينية عندما يتجدد الصراع مستقبلا .

وتدرك روسيا التحدى القائم وهى تعرف أبعاد نفوذها فى المنطقة، وتقيسه بميزان الذهب؛ وتعرف جيدا أن معركتها القادمة الحقيقية هى الملف النووى الايرانى؛ وليس القضية الفلسطينية، لكن هذا لا يمنع من التلويح بها كورقة للمناورة عندما ترسم الخطوط الحمراء للنفوذ على الجانب الآخر، وتبدو أوروبا فى المشهد بموقف المتفرج المنتظر والمناور أحيانا للحصول على دور ما؛ وإن كان هامشيا لتثبت أنه ثمة شخصية أوروبية موحدة  أو حتى ممثلاً أوروبى؛ بمقدوره أن يكون له كلمة مستقلة ومسموعة بعيدا عن حلف الناتو؛ خاصة بعد الخروج الدراماتيكى للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى، وهنا تبدو تحركات ألمانيا  وفرنسا الأنشط خاصة فى الملف النووى والقضية الفلسطينية، لكن سقف التأثير  فى كلا القضيتين لا يبدو بالمطلق بعلو السقف الأمريكى فى كليهما .

فى ظل هذه المعطيات الدولية  ليس أمام الفلسطينيين من خيار إلا الصمود على أرضهم، ورفض صفقة القرن والالتفات لترتيب البيت الفلسطينى؛ على أسس حضارية إنسانية وطنية لتدعيم ثقافة الصمود، ولن تستطيع الإدارة الأمريكية أو العالم بأسره أن يجبر شعب على الاستسلام؛ ونحن لسنا استثناء من ذلك، ولتعترف أمريكا بإسرائيل من النهر إلى البحر وليس بالقدس عاصمة لإسرائيل فقط،  فهذا لن يعطى أى شرعية معدومة لإسرائيل؛ وإن أرادت أن تفرض صفقة القرن وتنفذها اسرائيل من جانب واحد فلتتحمل تبعات ما تفعل دون أى التزام سياسى فلسطينى، وإن أرادوا مزيدا من الضغوط الاقتصادية فعليهم توقيت ساعة الانفجار؛ علاوة على أن عليهم تعويض إسرائيل عن تلك الأموال المحجوبة، والتى كانت تصب فى نهاية المطاف شواكل فى بنك هابوعليم، وإن أرادوا حل الأونروا فاللاجئين الفلسطينيين لديهم بطاقات اللجوء؛ وهى وثائق قانونية مثبتة فيها مدنهم الأصلية؛ والتى تفوق فى شرعيتها وقانونيتها بطاقة هوية رئيس وزراء إسرائيل، وعليهم إيجاد وظائف بديلة لفيلق موظفى الأونروا الدوليين الذين تمثل رواتبهم السنوية ما يزيد عن ربع موازنة المنظمة .

ولن يطول الوقت  حتى تدرك الإدارة الأمريكية أن الضغوط لن تولد إلا الانفجار، خاصة لشعب خسر كل شئ وأصبح لا يمتلك شئ يخاف عليه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق