يوم استراليا: قِيَمٌ رائعة. تاريخٌ مرفوض!/ جورج الهاشم

من حقّنا أن نحتفل بمعاني يوم استراليا وما يمثِّل من قِيَم اليوم. ومن حقّ الاستراليين الأصليين أن يعتبروه يوم غزو واحتلال، وأن يطالبوا بتغيير موعده. ومن واجب المنصفين والاحرار في استراليا أن يؤيدوا هذا المطلب. فهل من امكانية للاتفاق على موعد ليوم استراليا يكون فوق الشبهات ويحتفل به الجميع؟                                                                    
في 24 كانون الثاني يناير 1788  وصل الاسطول الأول المؤلَّف من احدى عشرة باخرة، بقيادة أرثر فيليب، وعليه 1480 شخصاً من الجنود والبحّارة والموظفين وعائلاتهم اضافة الى المساجين. وفي احتفال بسيط يوم 26 كانون الثاني 1788  في خليج سدني، رفع أرثر فيليب علم بريطانيا العظمى وأعلن المنطقة تابعة للتاج البريطاني. لم يأبه لسكانها الاصليين الذين عاشوا فيها لأكثر من ثمانين ألف سنة. 26 يناير هو اليوم الذي أُطلق عليه في وقت متأخر جداً اسم يوم استراليا تخليداً لتلك المناسبة.                                                 
الجيش الصغير الغازي يملك كما يملك كل غازٍ: السلاح المتطوِّر، والتكنولوجيا، وادّعاء الحضارة المتفوقة، وخطوط امدادات استمرّت بضخ المزيد من الجنود والمستوطنين الاحرار والمساجين. كان الاستيطان الابيض اقتلاعياً في البداية. قتلوا الالوف من السكان الاصليين. تَسَلّوا بحفلات منظّمة لاصطيادهم. بعض المناطق "نظَّفوها" من سكانها. ولما انتشرت أخبار المذابح في اوروبا غيَّروا الاسلوب. الكحول والأوبئة والامراض أصبحت البديل. ثمَّ ادّعوا تمدينهم. ومن لم يقبل التمدّن بالتبشير وعن طيب خاطر، فبالقوّة. سلخوا الاطفال عن صدور امهاتهم. وضعوهم بأحضان لا تعرف الدفء.  جيلُ كامل اصطُلِح على تسميته بالجيل السليب. ثم مارسوا معهم سياسة الابعاد والاهمال والتجاهل حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي عندما ابتدأ السكان الأصليون يحصلون على بعض الحقوق.  كان عدد الاستراليين الأصليين سنة 1788 حوالي المليون نسمة. عددهم اليوم، بعد 230 سنة،  وحسب احصاء 2016 أكثر من 750 الفاً بقليل. وهذا وحده كافٍ ليعطي فكرة عن معاناتهم. فألا يحقّ للسكان الأصليين أن يعتبروه يوم غزو ومعاناة واقتلاع؟ وكيف يمكن لنا نحن الهاربين من الظلم والحروب والتمييز والابادة أن نقبل أن يكون هذا التاريخ هو يوم استراليا اليوم؟               
  لم يبرز هذا التاريخ الا على نطاق ضيِّق، وفي نيو ساوث ويلز وحدها، وفي وقت متأخر. ولما تشكَّلت الدولة الفدرالية سنة 1901 ابتدأ البحث عن يوم يعبّر عن الوحدة الوطنيّة. وانتظروا حتى 1935 لتتبنى كل الولايات هذا التاريخ كيوم استراليا الوطني. وانتظروا أكثر حتى 1994 ليصبح هذا التاريخ  عطلة رسميّة في كل استراليا.                                 
                                           
يوم استراليا حالياً يعبِّر عن الوحدة الوطنية، التعددية، التسامح، تقبّل الآخر والتناغم. عكس ما رسَّخه 26 يناير على الارض. فيه يُعلن عن استرالي العام في مختلف المجالات. نحتفل بانجازات الاستراليين من أي لون أو عرق أو دين. فيه تحتفل استراليا بمنح جنسيتها للكثير من مواطنيها الجدد. خطب رسمية من الحاكم العام ورئيس الوزراء. لوائح شرف. جوائز. احتفالات شعبيّة، نشاطات ثقافية ورياضية  تعم كل استراليا... قيم ومعاني سامية يُحتفَل بها في هذا اليوم ولكن ذكرى أليمة لسكانه الأصليين الذين يعتبرونه يوم غزو واحتلال ويوم قتل وابادة. هو يوم حزنهم بامتياز. لا يرفضون الاحتفال بيوم استراليا الوطني، لكنهم يرفضون أن يكون في هذا التاريخ بالذات. وأنا أرفضه أيضاً.                                            
في 13 شباط 2008 وقف كافن راد، رئيس وزراء استراليا العمالي وقتها، في مجلس النواب في كانبرا، ومعه وقفت استراليا، لتستمع الى خطابه الشهير الذي قدَّم خلاله الاعتذار التاريخي، باسمنا جميعاً للسكان الاصليين عن الاساءات والاخطاء التي ارتكبت بحقهم وعن الالام التي سبّبتها لهم  الحكومات الاسترالية المتعاقبة. وقدَّم  اعتذاراً  خاصاً ومؤثراً  للجيل السليب. ابتهجت به  استراليا وتعملقت كما لم تتعملق من قبل. الوحيدون الذين لم يبتهجوا بالاعتذار أقلية عنصرية أوت باكراً الى جحورها. هذه الاقلية تتكاثر اليوم بسبب وقوف بعض السياسيين علناً مع الطروحات العنصرية ورفضهم تغيير هذا التاريخ. وبسبب العنجهية الانكلوسكسونية أيضاً التي لا زالت مسيطرة على معظم الاحزاب الاسترالية.  فلماذا لا يكون 13 شباط مثلاً هو يوم استراليا الوطني أو أي تاريخ تُجمع عليه كل الولايات ولا يمثّل غصّة لأي مكوّن من مكونات هذه الامة العظيمة.                                                       
        في تاريخنا الاسترالي الحديث الكثير من الصفحات المشرقة التي تشكّل اجماعاً حولها. فلماذا لا نختار واحدة منها تتسع لاسمائنا جميعاً؟ وهناك صفحات سوداء، لا يجدي نكرانها وتجاهلها، أو تلميعها، نختلف حولها ولن نجمع عليها مهما طال الزمن. فلماذا نختار احداها، 26 كانون الثاني، الاشدّ سواداً من بينها،  لنسطّر عليها أجمل وأروع القيم التي وصل اليها مجتمعنا المتعدد الثقافات؟                                                                                     
رفض هذا التاريخ بالذات هو رفض لكل الاحتلالات. رفض للمارسات القمعية أينما حصلت. رفض للإدعاءات العنصرية بالتفوق الحضاري. رفض للقهر والاذلال والاستغلال والقتل وسرقة الاطفال تحت أي عذر أو سبب.                                                                            
الاحتفال بيوم استراليا هو احتفال بقيمٍ لا تمتّ لهذا التاريخ باية صلة. فكيف نجمع النقيضَين تحت سقف واحد؟                                      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق