بينما كانت القوات التركية، ومعها جماعات “سورية” مسلحة، تحقق تقدماً ميدانياً في منطقة عفرين بشمال سوريا، إذ بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوجه دعوة علنية إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) للمشاركة في القتال الدائر هناك ، والانتشار في الشمال الشرقي على ضفاف الفرات حيث تتواجد قوات أميركية ومعها جماعات “سورية” مسلحة غالبيتها العظمى من الأكراد.
الغرابة في هذه الدعوة أن أردوغان دأب في الأشهر القليلة الماضية على توجيه انتقاداته القاسية نحو الولايات المتحدة الأميركية (الحليف الأطلسي الأبرز)، وكذلك نحو الدول الأعضاء في الحلف، ونحو الاتحاد الأوروبي (معظم دوله أعضاء في الحلف). فما الذي تغيّر حتى يتراجع الرئيس التركي ويفتح أبواب الميدان السوري أمام وجود أطلسي غير شرعي، مثلما هو غير شرعي الوجود التركي والوجود الأميركي، بل وكل وجود أجنبي قد يشكل تهديداً لسيادة الدولة على أراضيها وللوحدة الاجتماعية للشعب السوري؟
لا يمكن تفسير هذا التبدل الأردوغاني بالعامل الكردي وحده، على أهمية هذه المسألة في التفكير السياسي والأمني التركي. بل يجب النظر إلى ذلك في سياق المخططات التي تعدها أنقره للشمال السوري بعد الانتهاء من المعارك هناك. فلقد حصلت تركيا على تغطية روسية ـ إيرانية لتحركاتها في الشمال السوري من خلال تفاهمات آستانة التي أنشأت مناطق خفض التصعيد، تمهيداً للإنخراط في الحل السياسي على أساس الحوار السوري ـ السوري في جنيف. وكان واضحاً أن تلك التفاهمات تؤكد بشكل لا لبس فيه احترام وحدة سوريا وضمان سيادة الدولة على أراضيها.
وهنا تكمن معضلة المشروع الأردوغاني!
بدأت تركيا تدخلاتها السافرة في الأزمة السورية بتبنيها ودعمها وتسليحها الجماعات الإسلامية المختلفة في أنحاء سوريا. وشكلت أراضيها المعبر الذي تدفقت منه الأسلحة والأموال، ليس بهدف “تغيير النظام” كما كان بعضهم يدّعي وإنما لتدمير بنية الدولة وتفتيت المجتمع. فإذا سقط النظام، تكون جماعات الإسلام السياسي حليفاً تابعاً للأردوغانية العثمانية في ظل عمامة الإسلام السياسي. أما إذا فشل هذا المشروع، فيكون “التقسيم” خياراً بديلاً يتيح لأنقرة وضع يدها على مناطق في الشمال كانت دائماً جزءاً من الأطماع التركية التاريخية.
لكن تغيراً ميدانياً حاسماً وقع في أواخر العام 2015، إذ تمكنت الدولة السورية بدعم من حليفيها الروسي والإيراني من تبديل المعادلات العسكرية. وعلى مدى سنة ونصف السنة تقريباً توقف تمدد الجماعات المسلحة، واستعادت القوات النظامية المبادرة. فكان لذلك تأثير سلبي مباشر على الدول الإقليمية والعالمية الداعمة للمسلحين… وفي المقدمة تركيا التي كانت قد وضعت يدها بالفعل على الشمال السوري عندما سيطر المسلحون على القسم الأكبر من حلب ومحافظة إدلب، وكادوا يصلون إلى ساحل المتوسط عن طريق شمال اللاذقية.
معركة تحرير مدينة حلب أجبرت أردوغان على إعادة التموضع في ما يتعلق بالعلاقة مع روسيا وإيران. وجاءت عملية آستانة لتقدم له مخرجاً مؤقتاً بحيث يستطيع مواصلة “اللعب” على الساحة السورية لكن في سياق مختلف، بانتظار تغيّر الظروف الإقليمية والعالمية. إن مسايرة أردوغان للمسار الروسي ـ الإيراني في آستانة وجنيف لم تكن عن قناعة تامة. فقد واصل دعمه للجماعات المسلحة من دون استثناء، وأبقى منطقة إدلب الخاضعة لوقف التصعيد مرتعاً لتنظيمات مصنفة إرهابية… وجلس ينتظر فرصته.
وحانت هذه الفرصة عندما أحس الرئيس التركي بأن توتر العلاقات بين روسيا والدول الغربية بلغ مستويات مرتفعة خلال الأشهر القليلة الماضية. وترافق ذلك مع تصاعد منسوب التهديدات الأميركية لإيران، وبالتحديد في مسألة عدم الإلتزام بالاتفاق النووي. فكانت الحملة العسكرية التركية على عفرين بمثابة جس نبض لردود فعل القوى المؤثرة على الساحة السورية، وبالتحديد روسيا وأميركا وإيران. ويمكننا التأكد من غياب ردود الفعل أو هزالتها من خلال مراقبة الواقع الميداني الذي يميل الآن لصالح تركيا، من دون أن يصدر عن تلك الدول ما يوقف هذا “الاحتلال”.
لكن أردوغان يدرك أن الخروج على تفاهمات آستانة، والابتعاد عن روسيا وإيران، لا يمكن أن يتحققا من دون العودة إلى العباءة الأميركية (الأطلسية) بطريقة من الطرق. من هنا نفهم سبب دعوته إلى تواجد أميركي ـ تركي مشترك في منبج وشرق الفرات بعد تخلي واشنطن عن الأكراد، ثم مناشدته الحلف الأطلسي كي يسانده في حملته العسكرية في الشمال السوري. والغاية النهائية هي ترسيخ الوجود التركي، بحماية أطلسية، في منطقة لم تتخلَ تركيا قط عن أطماعها فيها. ومن أجل هذه الغاية “الثمينة”، لا بأس من تبادل الأدوار في ارتداء البرنيطة الأطلسية بعد
أن أدت العمامة الإسلامية دورها المرسوم
مفوضية سدني المستقلة
مع تحيات الرفيق موسى مرعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق