تتابع وحدات التحقيق الخاصة في شرطة إسرائيل استجواب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكثيرين مِن أقربائه والمقرّبين إليه ومَن عملوا معه وفي محيطه خلال السنوات الماضية.
قائمة القضايا الخاضعة لتلك التحقيقات طويلة، وتدور حوله وحول باقي المشتبهين في جميعها الشبهاتُ بتلقي الرشاوى وبخيانة الأمانة وبمخالفات أخرى.
وقد وصلت بعض تلك الملفات إلى مرحلة الخلاصات القضائية وتنتظر قرارات المستشار القانوني للحكومة، مناحيم مندلبليط، إزاءها، وبعضُها، على ما يبدو، وصل مراحله الأخيرة وذلك بعد أن نجحت الشرطة، كما سمعنا، باقناع عدد من المتورّطين ليكونوا " شهود الملك" ، ووافقوا على الاعتراف بكل ما يعرفونه شريطة أن يحظوا بمعاملة خاصة تجزيهم باعفاءات مستقبلية، سواء بطبيعة التهم التي ستنسب اليهم و/او بالعقوبات المتوقعة عليها، وذلك كما هو متبع في مثل هذه الحالات.
وتشير كل الدلائل إلى دنوّ نهاية بنيامين نتنياهو السياسية، أو هكذا تبدو الاحتمالات الطبيعية والأوفر إذا ما صدقت جميع المعطيات الراشحة من وراء أبواب مكاتب الشرطة؛ وبسبب هذه الاحتمالات نجد كثيرين في إسرائيل لا يستوعبون كيف يستمر نتنياهو بمزاولة عمله وهو بكامل الصلاحيات، وكأنّ كل ما نشر وصار في حكم الوقائع ليس أكثر من مجرد تفاصيل عرضية غير مهمة، خاصة عندما نسمعه يردّد بعد كل جولة تحقيق: "لن يكون هنالك شيء لأنه لا يوجد شيء"، وهي جملة تدلّ بحد ذاتها على عنجهية الرجل وقدرته على استفزاز خصومه السياسيين.
لم يقتصر المشهد الإسرائيلي الحالي على طريقة تعامل نتنياهو نفسه مع هذه الأحداث، فالأغرب ظهر بعد نشر نتائج عدد من استطلاعات الرأي التي كشفت تزايدًا في دعم "الناس" لرئيس الحكومة ولحزبه " الليكود" ولمعسكر اليمين بشكل عام.
أثارت هذه النتائج، التي صدرت عن أكثر من جهة واحدة، استهجان عدد من الشخصيات الاعتبارية في صفوف النُّخب الإسرائيلية؛ بعضها أبدت، إلى جانب استيائها، تخوّفًا على مصير الحكم والدولة نفسها، بينما حاول آخرون تفكيك هذه الظاهرة المزعجة بشذوذها وذلك في مسعىً منهم لفهم جذورها ولايجاد مخارج تضمن عدم إفلات نتنياهو وشركائه من العقاب، وانقاذ بُنى الدولة من "العفن السلطوي" الذي تمكّن واستحكم في معظم "أمعائها الرفيعة والغليظة" وأكثر.
من أين تأتي شعبية نتنياهو العالية؟
في الواقع يقف حزب نتنياهو وراءه وقفة رجل واحد؛ وهذا بحدّ ذاته يُعدّ حصادًا متوقعًا لما بذله في العقدين الأخيرين، حين دأب بمنهجية سافرة على استبعاد جميع القادة التقليديين التاريخيين في حزب الليكود واستقدام شخصيات مغمورة "التاريخ والنسب الحزبي" وتجنيده بهذه الطريقة لفرق من " الاستشهاديين" السياسيين المستعدين لافتداء "القائد المظفّر" بكل ما يملكونه، ومهما فعل أم لم يفعل .
قائمة المتخلص منهم طويله ويكفي التذكير باسماء كموشيه أرينس ودان مريدور وبيني بيچن وروبي ريڤلين، واستبدالهم على سبيل المثال بداڤيد بيطان وميري ريچيڤ وميكي زوهر ويوآڤ كيش وداڤيد امسلّم وأورن حزان.
واذا ما راجعنا كيف تصرّف هؤلاء وبما صرّحوا لتحققنا من كونهم جنودًا في جيش نتنياهو ولاكتشفنا عمق الفوارق بينهم وبين من أسّسوا حزب الليكود وقادوه ردحًا من الزمن؛ فالنائب ميكي مخلوف زوهر لم يتورّع عن تشبيه التحقيقات مع "قائده المفدّى" بعملية قتل رئيس الحكومة السابق اسحق رابين، فيصرّح مؤكدًا: " لقد قلت في الماضي بشكل واضح بأنه وكما أراد يچآل عمير اسقاط الحكومة بشكل غير ديمقراطي، هكذا يفعلون اليوم لرئيس الحكومة من خلال محاولات "تشويه وتلطيخ سمعته" . في حالتنا هذه وسائل الاعلام هي يچآل عمير . انهم يحاولون هدر دم الرجل من خلال ملاحقته وهذا ما يشعر به الشعب".
لم يكن النائب زوهر وحيدًا في تقمصه شخصية الناطق باسم " الشعب" وهجومه على اليسار الاسرائيلي وعلى وسائل الاعلام وعلى الشرطة، فغيرُه تلفّظ بخطابات تحريضية أخطر ملقياً الضوء على عاملين إضافيين يعرف نتنياهو صحتهما ويبني خطة خلاصه عليهما أيضًا.
فاليسار الإسرائيلي الذي يهاجمه نواب حزب الليكود غير قائم على أرض الواقع وتأثيره محدود للغاية. أسباب انهيار ذلك اليسار عديدة، لكن بعضها يعود لما بذله نتنياهو نفسه في سبيل احراز تلك النتيجة، فقد نجح في تقزيم حزب العمل وغيره وزجهم في خانة ظهروا فيها، أمام الشعب، كنسخ هزيلة عن حزب الليكود وهذا ما تبيّنه نفس استطلاعات الرأي المذكورة.
أما "الشعب" فيبقى العنصر الأهم في خطاب نتنياهو و"فرقِهِ الضاربة" أو، كما صرح النائب زوهر عندما طالبه بعض زملائه في الكنيست بالاعتذار عن أقواله السابقة، فردّ عليهم باصرار مستفز "مواقفي واضحة ولن اعتذر عن أقوالي، فأنا لست "ساذجًا" بل أنني أعكس ما يشعر به الشعب. أنا أمثّل مليون مصوّت دعموا حزب الليكود ويشعرون اليوم بأن البعض يحاول سرقة الحكم منهم بطرق غير ديمقراطية".
إنهم تلاميذ مطيعون يتكلمون كمعلمهم ويحاولون مثله القفز عن مؤسسات الدولة ويتجاهلونها؛ فباسم "الشعب" يدافعون عن ديمقراطيتهم ويدوسون "الديمقراطية" بنعالهم، ويخترعون "حقًا" لهم وباسمه يستبقون النتائج وبقوّته يبرّئون زعيمهم، ويلبسون دور "الضحية" وباسمها يهاجمون الشرطة ومؤسسات الدولة ووسائل الاعلام وجميع من ليسوا معهم، وهدفهم واحد: منع نبش الخزائن وافشال الكشف عن المستور ودفن الحقيقة والحقائق.
انها مدرسة "الديماغوغية الخالصة" وطلابها هم البارعون في السعي إلى بناء نظام يقف على رأسه "المعلم" القوي القهار الجبار القادر على كل شيء، والمنزّه عن المعاصي، والمغفورة كل زلاته وأخطائه؛ فهو عندهم "النتنياهو" منقذ الشعب وحامي مستقبل الدولة من أعدائها أينما تواجدوا سواء في ايران أو في رام الله، وحتى في مكاتب شرطة إسرائيل او مستشار الحكومة القانوني، او مراقب الدولة أو قضاة في محاكمها، أو نواب في الكنيست.
فمن أين تأتي ثقة نتنياهو بنفسه؟
قد لا تكون ثقة الشخص هي قضيتنا المهمة بل ستبقى "النتنياهوية" هي مشكلتنا الأهم، أي فيما أسّسه الرجل، لا في الرجل فحسب.
فهو قد صار قائدًا "جيدًا" للشعب لأنه عرف كيف يزرع قيَمه في جيوب هذا الشعب ويصل منها إلى قلوبهم وقبضاتهم. وصار قائدًا قويا لانه يعرف أنه "شتلة" في بستان عالمي كل جهاته الاربع "يمين". وهو قائد "متطوّس" لأنه يعرف ما يقوله قادة العالم له في الغرف المغلقة، بمن فيهم قادة من أشقائنا نحن واخوتنا ومن مثلنا في البؤس والفقر والتيه.
انه مدرسة في القيادة قد يغيب مديرها لكنها خرّجت بدائله وقد يصبحون أسوأ منه بكثير.
نصيحتي لمن لم يشاهد مسرحية نتنياهو الأخيرة، التي عرضت على مسرح " الايباك" قبل عدة أيام، أن يذهب ويشاهدها كي يفهم ما يكونه هذا "النتنياهوزم" الذي قصدته.
ستشاهدونه لنصف ساعة وهو يتمختر أمام من جاؤوه "مضبوعين" بقواه الساحرة وليطمئنهم بأنهم "أسياد الكون" وأنه معهم يقفون على رأس دولة قوية لا تجارى ، ثم يأخذهم بلغة جسد وخطابية لن يقهرها سجن ولن تقضي عليها القضبان ولا تُهم الرشوة وخيانة الأمانة.
تحدّث نصف ساعة بما يفهمون، وهم أصحاب المال والعدّة والعتاد، فاستذكر أمامهم وفي فاتحة كلامه صديقه الأكرم "ترامب" وعبّر عن فرحته وهو في عاصمة أمريكا، لكنها فرحة مضاعفة هذه المرة لإنها عاصمة الدولة الحليفة الأقوى والتي اعترفت بالقدس عاصمة لاسرائيل ،ثم ذكّرهم بفيلم "الصالح والشرير والقبيح" ، لكنه استبدل القبيح بالجميل.
قال أنّ التقدم والتفوّق في إسرائيل هو الجيد؛ "فتفوّقنا" العسكري لا يتحدّاه أحد، و"تفوّقنا" الاقتصادي صار حقيقة مشهودة، و"تفوّقنا" التكنولوجي له آثار في قارات العالم جميعها.
شرح أمامهم وأمام العالم كممثل بارع وأنهى كمخرج مجرّب والقاعة كانت تصفّق وتصفّق. ثم أخذهم إلى عالم "الأشرار" فوضع في طليعتهم ايران ومحاورها وأتبعهم بالرئيس محمود عباس الذي اتهمه بأنه لا يريد السلام وبأنه يدعم الارهاب. بعدها أنهى "بالأجمل" عنده فوصف علاقات إسرائيل مع أمريكا كما يصف شاعر مغرم جيد حبيبته وزنودها فيبدع.
قريبًا سينتهي التحقيق في جميع الملفات وقد يوصي مستشار الحكومة القانوني بتقديم بنيامين نتنياهو للمحكمة، فهل نفرح؟
أنصح بأن نننظر وألا نصفّق باسم العدل والقانون، لأنّ القادم علينا، نحن العرب، أسوأ والبدائل ستكون أوخم، فقضيّتنا ستبقى فيما بناه الرجل ... في "النتنياهوزم" !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق