بغض النظر عن رأينا في نظريات المفكر الأمريكي من أصل ياباني "فرانسيس فوكوياما"، وعلى رأسها نظرية "نهاية التاريخ" التي طرحها في أعقاب إنتهاء الحرب الباردة والثنائية القطبية، فأشهرته قبل أن يتبين عدم صوابها. أقول بغض النظر عن كل هذا، فإن المرء لا يمكنه إغفال ما يتمتع به الرجل من حضور، وفكر مرتب، وسلاسة في التعبير، وقدرة على شد انتباه المتلقي وإيصال فكرته إليه دون إدخاله في متاهات. هذا ما لمسته شخصيا ولمسه غيري ممن استمعوا إليه في جلسة من جلسات مؤتمر القمة العالمية للحكومات الذي عقد في دبي ما بين 11 ــ 13 من فبراير المنصرم.
في تلك الجلسة الحوارية التي أدارها وزير الدولة للشئون الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة الدكتور أنور محمد قرقاش، شعرت وكأنني عدت، بعد أن غزا الشيب مفرقي، إلى مرحلة الدراسة الجامعية العليا كطالب علاقات دولية يستمع إلى أستاذه وهو يحلل شؤون العالم وشجونه. ما طرحه فوكوياما في تلك الجلسة من أفكار ورؤى وإجابات كانت كثيرة بطبيعة الحال، لكني بسبب ضيق هذه المساحة الصحفية سأتوقف عند ثلاث مسائل جديرة بالنقاش.
أولا: في مسألة ما يمر به النظام الكهنوتي الإيراني من أزمات أدت مؤخرا إلى إنفجار جماهيري واحتجاجات ضد سياساته العبثية خارج بلاده، وتنديدا بوضع ثروة البلاد النفطية في خدمة الميليشيات الأجنبية بدلا من إنفاقها على تحسين أحوال الشعوب الإيرانية، بسـّط فوكوياما القضية كثيرا وبصورة لا تليق بمفكر مثله، بل جاء بما لم يأت به أحد قبله كتفسير للأزمة الداخلية الإيرانية. فهو لئن أكد أن إيران سوف تنفجر من الداخل بسبب وجود طبقة شابة متعلمة سأمت من الخضوع لسلطة دينية متشددة وموغلة في محافظتها، فإنه عزا موجة الإحتجاجات الأخيرة إلى ظاهرة الإحتباس الحراري .. نعم إلى الظاهرة المناخية فحسب! وإيضاحا للجزئية الأخيرة فإن فوكوياما يرى أن العوامل المناخية الصعبة التي مرت على إيران، محدثة الجفاف ونقص المياه، وبالتالي نقص المحاصيل الزراعية التي يعتمد عليه إيرانيو الأرياف في معيشتهم، ساهمت مجتمعة في موجات نزوح من الريف إلى المدن، الأمر الذي تسبب في تكدس العاطلين وانتشار الأمراض والضغط على البنى التحتية المهترة أصلا، فكانت المحصلة خروج هؤلاء إلى الشارع إحتجاجا وتنديدا بالنظام الحاكم ورموزه.
ثانيا: في ما خص ظاهرة الإسلام السياسي التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين، ونزوع الأخيرة إلى إستغلال الصعوبات التي يعيشها بعض الأنظمة العربية والإسلامية للقفز إلى السلطة وإقصاء المخالفين لتوجهاتها الأيديولوجية، كان رأي فوكوياما أيضا غير مقبول ومستهجن لأنه أصر على تصنيف هذه الجماعة ضمن الجماعات الإسلامية المعتدلة، متناسيا بذلك آلاف الأدلة على دمويتها وإرهابها وإقصائها لمعارضيها، ناهيك عن استماتتها لبلوغ السلطة بأي وسيلة وإن كانت قذرة ومخالفة لتعاليم الإسلام، وذلك على نحو ما تجلى في السنة اليتيمة التي حكموا فيها مصر المحروسة، دعك مما اقترفوه في تونس والسودان، ودعك من تاريخهم الأسود في التآمر على السعودية والإمارات وغيرهما، وارتباطهم بعلاقات سرية مع النظام الإيراني التوسعي وتنظيم داعش الإرهابي وحركة طالبان الدموية.
ثالثا: في ما يتعلق بمستقبل الصين وصعودها، كان لافتا أن الرجل الذي تبنى نظرية نهاية التاريخ هو نفسه الذي صار يتبنى الآن فكرة أن الصين سوف تغدو خلال السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة قطبا عالميا يتحكم في مصائر الكون (بحيث تصبح بكين هي العاصمة التي تدار منها شؤون العالم) خلفا للولايات المتحدة الأمريكية. هذه النظرية تبناها قبله بعض مواطنيه الأكاديميين، لكن أن يتبناها فوكوياما (صاحب نظرية "أن التاريخ قد انتهى بقيام نظام عالمي أحادي القطب على رأسه الولايات المتحدة") فهو مصدر الإستغراب.
نعم الصين ــ مما لاشك فيه ــ قوة إقتصادية جبارة استطاعت خلال فترة وجيزة أن تحتل مكان اليابان كثاني أعظم اقتصاديات العالم بعد الولايات المتحدة الامريكية، والصين من ناحية أخرى صاحبة قوة عسكرية متنامية ومخيفة وتحاول أن تبني لنفسها موطيء قدم في البحار والمحيطات البعيدة وفي العديد من الأقطار الآسيوية والأفريقية عبر إقامة قواعد عسكرية دائمة (نجحت حتى الآن في إقامة قواعد في سريلانكا وباكستان وميانمار وجيبوتي). لكن هل بالإقتصاد والقوة العسكرية وحدهما تتحول الأمم إلى "سوبر باور كوني"؟
إن ما جعل الولايات المتحدة تكتسب هذه الصفة ليس قوتها الاقتصادية والمالية والتجارية الهائلة، ولا ترسانتها العسكرية الضخمة، ولا طاقتها العلمية والتكنولوجية المخيفة فحسب، وإنما كل هذه العوامل مضافا إليها ما تملكه من أسلحة ناعمة لم تتح لأي بلد من قبل. ويمكن تحت قائمة الأسلحة الناعمة أن نضع أشياء كثيرة لئن افترضنا أن الصين تملك بعضها، فإنها ليست قادرة على أن تكتسح بها العالم أو أن تؤثر من خلالها على حياة وخيارات من يسكنون كوكب الأرض. فعلى سبيل المثال كم مليون شخص خارج الصين يتحدثون الصينية أو يشاهدون الأفلام والمسلسلات الصينية أو يتابعون أخبار ما يجري في الصين لحظة بلحظة، أو يتعاملون باليوان الصيني وبطاقات إعتماد صينية المصدر في تجارتهم وسياحتهم ومشترواتهم، أو يضعون أموالهم في مصارف صينية، أويستثمرون في بورصة بكين وشنغهاي بدلا من بورصة نيويورك، أويترددون على سلسلة مطاعم صينية؟ دعك من مسألة أخرى في غاية الأهمية كانت وراء وصول الولايات المتحدة إلى ما وصلت إليه وهي الشفافية وحرية التعبير والإعلام الحر والمجتمع المفتوح، وهذه أيضا تفتقدها الصين كليا.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: فبراير 2018
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق