لم تفلح الولايات المتحدة عبر سياسة الباب المفتوح أن تحول الصين لدولة ليبرالية ديمقراطية، وبقيت الصين القلعة الشيوعية الأخيرة فى العالم بنظام سياسى أوتوقراطى اشتراكى وبنظام اقتصادى رأسمالى، فلم تتحول الصين لدولة ليبرالية بل على العكس فإن الازدهار الاقتصادى الصينى تحول إلى دعم للنظام السياسى الشيوعى؛ والذى انتقل بالصين من دولة نامية إلى دولة امبراطورية تنافس القوى العظمى على مناطق النفوذ العالمى، وتشق الصين اليوم طريقها بثبات وبسرعة مذهلة نحو تبوء مكانة ريادية غير مسبوقة فى الجغرافيا السياسية الامبراطورية نحو السيادة مدعمة بقوتها الاقتصادية المنفتحة على الاقتصاد العالمى والتجارة الحرة، وبقوتها العسكرية المتنامية، والتى زادت مخصصاتها عن 173 مليار دولار فى موازنة 2018، وبلغت 2.25 ترليون دولار، وتتخطى بذلك موازنة كل دول الاتحاد الأوروبى مجتمعة، ويمثل فيها الانفاق العسكرى ما قيمته 8.1% بزيادة ملحوظة عن موازنة 2017، والتى كانت نسبته فيها 7.6%، وهو ما ترجم بتدشين أول قاعدة عسكرية صينية خارج الصين على سواحل جيبوتى، وهو ما يعنى أن الصين بدأت ولأول مرة فى تاريخها بسلوك النهج الاستعمارى الامبراطوى العسكرى لحماية مصالحها الاستراتيجية .
والأهم هنا عند الحديث عن مشروعها التاريخى فى إحياء طريق الحرير البحرى والبرى، والذى رصدت له موازنة تفوق 8 ترليون دولار، فإننا سنجد أنفسنا أمام تشكيل قوة إمبراطورية غير مسبوقة سوف ترث لا محال إمبراطوريات أخرى فى طريقها قد انكفأت على ذاتها، وللمفارقة التاريخية تبدو الصين الشيوعية أكثر انفتاحا اليوم على اقتصاد السوق والتجارة الحرة من الولايات المتحدة زعيمة الليبرالية والاقتصاد الحر، والتى تحولت عبر سياسة إدارة ترامب إلى دولة تضع القيود على آلية السوق الحر والعولمة الاقتصادية، وتنسحب من العديد من اتفاقيات تحرير التجارة العالمية نحو انعزال تدريجى عن العولمة التجارية، وهو ما يفسح المجال بطريقة غير مباشرة للتنين الصينى فى التربع على عرش الاقتصاد العالمى .
وهنا تظهر حقيقة ثابتة فى السياسة الدولية؛ وهى أن الدول لا تعترف ولا ترى إلا مصالحها بعيدا عن الشعارات السياسية البراقة أو المبادئ، والتى لا تعدو كونها أدوات لخدمة المصالح الاستراتيجية، ولذلك فلن يكون مستغربا مستقبلا أن تتحول أو تستبدل مراكز المال والإقراض الدولى من الولايات المتحدة إلى الصين، فنحن أمام تنين صينى حقيقى يكبر يوما بعد يوم ويلتهم بنعومة وبذكاء كعكة الاقتصاد العالمى؛ والذى سيشكل إحياء طريق الحرير البرى والبحرى أكبر استثمار مالى لمشروع اقتصادى على وجه الأرض، وهو ما يعادل ثلث المال المتداول اليوم على كوكب الأرض والذى يقترب من 25ترليون دولار .
إن هذا المشروع التاريخى سيدفع الصين إلى منطقة الشرق الأوسط؛ بحكم أنه يمر بريا وبحريا فى معظم مرافئها أو أراضيها، وهو ما يعنى أن قاعدة حيبوتى لن تكون الأخيرة لحماية طريق تجارتها البرى والبحرى، والذى تستثمر فيه من خلال البنية التحتية لطرقه وموانئه تريليوناتها الثمانية، والذى يخترق مناطق النفوذ الغربى والأمريكى بشكل خاص فى الشرق الأوسط؛ حيث القلب النابض لمصادر الطاقة عالمياً، والتى تعتمد الصين عليه فى إدارة عجلة اقتصادها.
وهنا تكمن المراهنة الأمريكية على قدرتها على الحد من طموحات ونفوذ الصين كونها تسيطر على جل مصادر الطاقة فى الشرق الأوسط؛ عبر نفوذها السياسى والعسكرى فى الخليج العربى وشرق المتوسط؛ مما يخولها التحكم فى أسعار الطاقة العالمية. لكن تدرك الإدارة الأمريكية أن هذا وحده لا يكفى؛ خاصة فى منطقة ملتهبة كالشرق الأوسط، لذلك تسعى الإدارة الأمريكية لترتيب أوضاع تحالفاتها فى المنطقة مع حلفائها التاريخيين؛ منعاً لأى اختراق صينى أو روسى فى المنطقة، وحتى لا يتكرر المشهد الايرانى عام 1979 مجددا فى أى مكان آخر فى الشرق الأوسط لأنه سيمثل كارثة حقيقية فى ظل المشهد الامبراطورى الدولى الحالى .
ولذلك تبرز أهمية صفقة القرن وحيويتها بالنسبة للولايات المتحدة لتدعيم نفوذها السياسى والعسكرى فى المنطقة، عبر إنهاء الصراع العربى الاسرائيلى أو حتى تجميده لحين، وفى المقابل تعد الأراضى الفلسطينية وخاصة قطاع غزة بوضعه الجغرافى والجيوسياسى أحد أبرز التحديات الساخنة اليوم نظرا لموقعه الجغرافى الحساس على تماس مع طريق الحرير الصينى؛ ونظرا لوجود مصادر للطاقة على سواحله، وضمن حدوده الاقتصادية البحرية، ولكن وضع قطاع غزة تحت حكم حركة حماس، وخارج نفوذ أى سلطة شرعية يمثل منطقة فراغ سياسى، ويفتح شهية قوى إمبراطورية عديدة لإيجاد موطئ قدم لها فيه مستقبلا، وهو ما يفسر السياسة الأمريكية الخاصة فى التعامل مع القطاع، والتى كان أخرها مؤتمر البيت الأبيض الأخير عن أوضاع القطاع وصولا إلى التسريبات المتلاحقة عن وضعية القطاع فى صفقة القرن، والتى تشير إلى كونه الأساس للدولة الفلسطينية المقترحة، وهو ما يعنى أن الوضع القائم فى القطاع الاقتصادى والسياسى إنما هو فى الربع ساعة الأخير من عمره، وهو ما يعنى أن الأسابيع والأشهر القادمة ستشهد تغيرات دراماتيكية لوضع القطاع السياسى والاقتصادى، فلم يعد من المقبول جيوسياسيا أن يكون أى مكان فى منطقة الشرق الأوسط اليوم فى حالة فراغ سياسى كالذى يعيشه قطاع غزة، وإن لم يحسم الفلسطينيون أمرهم ويتحدوا ويصطفوا حيث مصالحهم الاستراتيجية فالقوى الإمبراطورية ستتكفل بالمهمة لصالح مصالحها الإستراتيجية، ولتدرك اليوم حركة حماس الحاكم الفعلى للقطاع قيمة الضريبة الباهظة التى سيدفعها الشعب الفلسطينى لبقاء سيطرتها على القطاع، والتى سيكون أول دافعيها سكان قطاع غزة.
ورغم أننا فى الربع ساعة الأخير إلا أنه لا زال أمامنا كفلسطينيين فرصة أخيرة لمنع وقوع الكارثة، وضياع الحلم الوطنى الفلسطينى وضياع تضحيات قرن من النضال الفلسطينى أدراج الرياح ... ولا مكانة فى العالم لمحدودي الرؤية السياسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق