" انه من المستحيل أن ننفي أن الله ، في كلامه، لم يضيء في ذات الوقت الكينونة والكائن"1[1].
تناول مارتن هيدجر(1889-1976) عدة قضايا دينية في فلسفته الأنطولوجية تخص مسألة التعالي والصلة بين الإيمان والمعرفة وبين الله والكينونة ومشكل وحدانية الله وتعدد أحواله وقضية حضور الله في الوجود ومشكلة الشر في العالم والتضاد مع وجود الإله المسيحي أم الذهاب إلى ما بعده ، ولكنه إضافة إلى ذلك ركز بالخصوص على مطلب مجيء الآلهة ومنزلة منتظر عودة الإلهي والتصالح مع المقدس2[2].
منذ الدروس الأولى التي ألقاها الشاب هيدجر على طلبته في جامعة فرايبورغ في الفترة الفاصلة بين 1919 و1923 وضع الملاحم التي تبدو عليها علاقته بالديانة المسيحية والتي تفرض لونها على كتابه العمدة "الوجود والزمان" وتناول فيها مفاهيم دينية مثل الهبوط déchéance والذنب faute والإثم dette والضمير واللاّأصالة التي تنحدر من الأنثربولوجيا الدينية التي وضعها كل من باسكال وكيركجارد.
لقد أكد هيدجر نفسه القرابة التي تربطه بالتراث الديني واعتبره ليس فقط من بين مصادره الأساسية التي استقى منها العديد من المفاهيم والأفكار والتصورات والمسالك الاستكشافية بل المحدد لمستقبله الفلسفي وهذا ما أعاد تأكيده في مقابلته مع الياباني التي نشرها في كتابه "طريق الكلام"3[3]حيث قام بتثمين الدين.
من هذا المنطلق تعود مصادر هيدجر اللاهوتية سواء نظرنا إلى فلسفته قبل المنعطفKöhler أو بعده إلى القديس أوغسطين وأنجلوس سيليسيوس وباسكال وكيركجارد ولكن الاهتمام المخصص إلى هؤلاء لم يرتقي إلى مستوى الأهمية التي تعامل بها مع كتب كانط وشيلنغ وهيجل ونيشته وكذلك عند عودته إلى الإغريق وخاصة المفكرين ما قبل السقراطيين (بارمنيدس وهرقليطس وأناكسمندر) وأفلاطون وأرسطو.
بيد أن الاهتمام الديني من طرف فيلسوف الكينونة لم يقتصر على العناية بالنصوص الفلسفية للمفكرين اللاهوتيين بل انتقل إلى بذل مجهودات بغية الشروع في تشييد تأويلية للحياة الدينية لدى الكائن البشري.
لقد تحدث مارتن هيدجر في محاضراته بين 1918 و1919 عن الأسس الفلسفية للتصوف الوسيط عند كل من القديس برنار والسيد أكهارت والقديسة تيريزا دافيلا وبعد ذلك أنجز أثناء دروس 1920 و1921 مدخلا إلى فنومينولوجيا الدين جعلها ترتبط بصورة عضوية بمشروعه الفنومينولوجي الذي أداره حول هرمينوطيقا الحياة الحدثية قبل أن يطبقها على أطروحات القديس بول، لكن في سنة 1921 قام بقراءة الكتاب العاشر من الاعترافات للقديس أوغسطين بالأفلاطونية المحدثة عبر إنتاج معنى الحياة الحدثية4[4].
ماهي أشكال فلسفة الدين عند مارتن هيدجر؟ لماذا قام بوضع فنومينولوجيا الحياة الحدثية في مواجهة المسيحية الأصلية؟ وكيف تأثر بصورة أو بأخرى بالتفسيرات التي أنجزها بولتمان على النص الديني؟ وبأي معنى عمد فيلسوف الدازاين إلى التخلص من ظلام الأدغال الدينية عبر الاستضاءة بأنوار العقل؟
تطرح الكلمة الألمانية التي عنون بها هيدجر محاضرته الشهيرةGesamtausgabe مشكلا تأويليا حول الترجمة قد تم التغلب عليه من طرف اللسان الفرنسي بالإشارة إلى أنها تفيد هرمينوطيقا الحياة الحدثية .
إذا كان كل من أوتوOtto ورايناخReinach قد سبقا الجميع في اقتحام بحار التجربة الدينية من أبواب فنومينولوجية فإن هوسرل يعد الفيلسوف الأول الذي جمع كل هذه المداخل الخاصة في مسلك واحد وأسس المنهجية الفنومينولوجية للدين وهمد الطريق بشكل معمق لمارتن هيدجر من استكمال فنومينولوجيا الدين.
لم يتمكن هيدجر من الدخول بصورة فعلية إلى المجال الديني في درس 1920 وذلك لأن هذا الموضوع بقي مجال للاحتجاجات ومحل تجادل كبير وحقل مليء بالألغام يجدر مجانبة السير فوقه بتوخي الحذر.
لقد سعى هيدجر إلى إنقاذ الفلسفة من مأزقها بالتخلي عن التوجه الجديد الذي سلكه هوسرل نحو جعلها علما بالمعنى الدقيق للكلمة وقام بالفصل التام بينها وبين العلم لما يوجد بينهما من فرق بدئي ، وفي المقابل أعاد التفكير في المنهج الذي يمكن أن يلاءم موضوعها بصورة ملموسة ووجد في الفنومينولوجيا ضالته بشرط التوقف عن أن تكون علما وصفيا أولانيا للوعي وتصبح مقاربة تأويلية للحياة بعدما كانت وصفية.
إذا كان هوسرل قد أراد للفلسفة أن تكون علما دقيقا فإن هيدجر قد حرص على منح الفلسفة لوحدها الدقة اللازمة دون العلم الذي اعتبر غير جدير بالثقة وذلك لعجزه عن التفكير وإتقانه لغة الحساب والافتراض.
الدقة الفلسفية هي التي تجعل من بعض العلوم معارف دقيقة ودون الفلسفة تظل العلوم مجرد أبحاث ظنية، وبالتالي تقوم الفلسفة بفهم ذاتها بذاتها وتوضيح مشروعها بالعودة إلى أصلها عند حقل التجربة في الحياة.
عندما تقوم الفلسفة بفهم ذاتها بذاتها فإنها تفهم الحياة في حد ذاتها وتتحول إلى هرمينوطيقيا الحياة الحدثية بالمعنى التكويني الذي يشتغل على توضيح هذا الفهم الذاتي للحياة وبالمعنى الثاني الذي يجعلها تنبثق منها.
من هذا المنطلق تقوم الفلسفة باعتبارها هرمينوطيقا بتوضيح معنى الحياة الحدثية التي تختلف عن الحياة بالمعنى البيولوجي وتلتقي بالحياة التي يعيشها الكائن في وجوده اليومي وتصبح الحياة اليومية أو الراهنة.
إن الأمر يتعلق بالحياة التي هي نحن وتمثل حياتنا بأسرها والتي نحياها نحن أنفسنا بذواتنا وبكل كياننا والتي تشير إلى واحدة من الصفات التي يتميز بها الدازاين كما وقع تعريفها في التحليلية الوجودانية.
من الضروري أن تمتد تجربة الحياة الحدثية لتشمل المعنى التكويني بالنظر إلى أن الحياة هي ما يسمح بالتجريب على شيء معين بأن يقع وأن يستخلص منه ما يراد وفي ذات الوقت ما قد يتعرض للامتحان.
لا يعني فعل التجريب expérimenter في فلسفة هيدجر إحاطة معرفية بمجموعة من الأشياء كما هو الشأن في الفنومينولوجيا عند هوسرل وإنما تتبع حدوث الأشياء ومسار تكونها في تجربة الحياة اليومية.
لقد ظلت فنومينولوجيا هوسرل مجرد نظرية في المعرفة تؤسس التجربة على البعد النظري وعلاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة التي تطرحه في الواجهة المقابلة لها والتي يمكن لها أن تقصده بطريقة نزيهة.
إن لفظ Factice في اللغة الفرنسية يعني الشيء غير مطابق مع مفهومه أي الشيء الفاقد للصواب ويفيد الوهم والكذب والخداع وبالتالي يجدر بالترجمة الفرنسية أن تعمل على ابتكار لفظ جديد يعبر عن المفردة الألمانيةFaktich من جهة المعنى المقصود ولقد اخترعت مفاهيم الحدثي facticiel والحدثية facticité.
إذا كان هوسرل قد أقام تعارضا بين علوم الواقع وعلوم الماهية وأسند إلى الفنومينولوجيا وظيفة استخراج الماهيات من الوقائع بواسطة تنويع أولاني فإن هيدجر تعامل مع واقعة الحياة على أنها من الأمور التي لا يمكن التجرد منها ، خشية أن يتم إضاعة الحياة نفسها، وبالتالي دعا إلى النظر إلى الحياة في إطار الزمان ومنحها منزلة تاريخية وتند عن كل تجريد يحاول وضع تصورات الحقبة الزمانية بين معقفين (الأيبوخيا).
إن الحياة لا تقبل التفسير إلا إذا كانت ضمن وضعية هرمينوطيقية والفهم الذي تنتجه الحياة حول نفسها هو دائما فهما تاريخيا ولهذا استند هيدجر على مفهوم الحدثية لكي يجعل من الفنومينولوجيا اختصاصا تاريخيا ومن أجل أن تكون تجربة الحياة الحدثية هي ميزة الكيان في العالم بالنسبة إلى الدازاين ضمن تعدد أبعاده.
والحق أن الكيان في العالم يختلف عن القصدية عند هوسرل التي تقتضي وجود ذات عارفة في مواجهة موضوع معرفة خاصة وأن الاستهداف النظري للموضوع بواسطة الذات يفترض صلة مشتقة للموجود.
إن علاقة الدازاين بالعالم هي علاقة قبل نظرية لأن تجربة الحياة تعد أغنى من تجربة تحصيل المعرفة ولذلك تم تعريف تجربة الحياة الحدثية بأنها كلية التموضع الايجابي والسلبي للإنسان في مواجهة العالم.
يبين هيدجر في الوجود والزمان بأن الدازاين بعد الانحدار يعيش غريبا عن نفسه ويهتم بالموجودات في وجوده في العالم وينسى نفسه من حيث هو موجود يقدر على أن يفهم ذاته من حيث هي كيان داخل العالم.
في هذا الإطار يقوم هيدجر باستخراج صعوبة أساسية عند تدقيقه الهرمينوطيقي في فحوى الحياة الحدثية تتمثل في ربط المعنى الذي يمكن إنتاجه حول الحياة الحدثية بالعالم والانحدار الذي تتعرض له الحياة لما تتطابق مع العالم وتصير غير مبالية ومهتمة بنفسها من جهة كونها حياة ومن حيث هي أسلوب في الحياة.
فحوى تجربة عالم الحياة الحدثية تقتضي إنتاج الدلالة بحيث تصبح العالمية هي التحديد الأساسي للعالم.
على خلاف هوسرل، أوضح هيدجر بأن بناء ترابط بالحياة المعيشة لا يستدعي معرفة نظرية ولا يتم عن طريق الإدراك الباطني، وإنما يقتضي أن تفهم الحياة نفسها على المنوال الذي شكلها ضمن إطار العالم ويتيح للدازاين أن تفهم ذاتها بواسطة الأشياء العالمية التي يحولها الفهم الانعكاسي إلى مرايا للنظر الذاتي.
إن العالم الخاص هو ما يسميه هيدجر الشاب الفهم الذاتي من خلال الحياة اليومية بالانطلاق من الراهن وقد ساعده ذلك على تخطي مقولة الكوجيتو وممارسة النقد على الذات العارفة وسحب تعريف الإنسان بكونه وعي بالذات والتخلي عن اعتبار علاقة الذات بذاتها هي علاقة معرفة وعن الأسلوب الذي تتبعه الذات العارفة في دراستها لموضوع المعرفة والرجوع على العلاقة قبل النظرية وقبل المعرفية التي صلها بالعالم والاهتمام بالكائن داخل العالم من حيث هو انشغال بنفسه مع تجاور مع الآخرين واهتمام بالأشياء.
فكيف يستمد معنى الحياة الحدثية عند فيلسوف الغابة الدكناء والجسر الخشبي من طلب السؤال وضياع الحيرة والانشغال بالعالم وذلك ليس من جهة المعرفة ومن طريق النظرية وانما بالتعلق والاهتمام بالذات؟
الاحالات والهوامش:
[1] Emiloi Brito, sieworth et le problème de dieu chez Heidegger, in Revue philosophique de Louvain, année 1997, 95-02, pp2979-297.
[2] Voir Philippe Capelle, le divin et le dieu chez Martin Heidegger, in les philosophe et la question de dieux, editions PUF, Paris, 2006, 424p.
[3] Pinat (Etienne), Heidegger : Phénomenologie de la vie religieuse,Lien : : http://www.actu-philosophia.com/spip.php?article398,
[4] Serban, C. (2015). La Phénoménologie de la vie religieuse du jeune Heidegger : une mise en perspective. Archives de sciences sociales des religions, 171,(3), 213-230. https://www.cairn.info/revue-archives-de-sciences-sociales-des-religions-2015-3-page-213.htm.
[1] Emiloi Brito, sieworth et le problème de dieu chez Heidegger, in Revue philosophique de Louvain, année 1997, 95-02, pp2979-297.
[2] Voir Philippe Capelle, le divin et le dieu chez Martin Heidegger, in les philosophe et la question de dieux, editions PUF, Paris, 2006, 424p.
[3] Pinat (Etienne), Heidegger : Phénomenologie de la vie religieuse,Lien : : http://www.actu-philosophia.com/spip.php?article398,
[4] Serban, C. (2015). La Phénoménologie de la vie religieuse du jeune Heidegger : une mise en perspective. Archives de sciences sociales des religions, 171,(3), 213-230. https://www.cairn.info/revue-archives-de-sciences-sociales-des-religions-2015-3-page-213.htm.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق